الخميس، 1 نوفمبر 2012

المفاهيم الأساسية للنظرية الخليلية الحديثة


بسم الله الرحمن الرحيم

     هذا بحث نفيس شرح فيه الدكتور محمد صاري النظرية الخليلية الحديثة أحببت أن أقدمه لكم في هذه المدونة المباركة:
      ومن أراد تحميل البحث :  فهذا رابطه


المفاهيم الأساسية للنظرية الخليلية الحديثة
                                                                     د/ محمد صاري
                                                                     قسم اللغة العربية وآدابها
                                                                     جامعة عنابة
مقدمة :
        تهدف هذه الدراسة إلى تعريف الباحث العربي في علوم اللسان بالأهمية التي تكتسيها نظرية النحاة العرب، لا من حيث إنها ما تزال ذات قيمة كبيرة من الناحية العلمية والنظرية، بل من حيث إنها يمكن أن تستثمر مفاهيمها في الميادين التطبيقية لحل مشكلات لغوية وتربوية تعترض سبيل ترقية استعمال اللغة العربية في المجالات الحيوية.
        والدراسة عبارة عن قراءة جديدة للتراث النحوي مقارنة بالنزعات والطروحات الحديثة في العالم العربي. كما تعد امتدادا منتقى للآراء والنظريات التي أثبتها النحاة العرب الأولون، وبخاصة "الخليل بن أحمد". فهي في الواقع نظرية ثانية Métathéorie لأنها في الوقت نفسه تنظير وبحث في الأسس النظرية الخليلية الأولى.
        واهتمامي بهذه النظرية نابع مما تميزت به أفكارها من أصالة وتجديد، إذ يرجع لها الفضل في :
- تنبيه الباحثين لضرورة الاهتمام بشخصيات علمية فذة في تاريخ الفكر اللغوي العربي.
- اقتراحها لمصطلحات جديدة وإحياؤها لمصطلحات أصيلة.
- تفسيرها العميق لكثير من المفاهيم النحوية والبلاغية التي استغلق فهمها على كثير من الدارسين.
- مساهمتها في التعريف بالتراث الأصيل وإحيائه وتسهيل الاطلاع عليه.
- تنبيه الباحثين الذين اشتغلوا بموضوع تيسير القواعد النحوية إلى ضرورة التمييز الحاسم
بين النظرية النحوية العربية القديمة وتطبيقاتها التربوية.
- إثبات أن المفاهيم والمبادئ التي قامت عليها النظرية اللغوية العربية القديمة، ليست غريبة، ولا هي ملفقة أو دخيلة على الدرس اللغوي كما يزعم المفتونون بالمناهج الغربية الحديثة.


2 - المفاهيم الأساسية للنظرية الخليلية :
        اتجهت النظرية الخليلية الحديثة إلى إعادة قراءة التراث اللغوي العربي الأصيل، والبحث عن خباياه، لا حبّا للقديم في ذاته، ولا محافظة من أجل المحافظة، ولكن بغية التنبيه إلى الطفرة التلقائية المفاجئة التي أحدثها "سيبويه" وشيوخه وتلاميذه في تاريخ علوم اللسان البشري بعد أن تحامل عليهم كثير من الدارسين الذي تأثروا بالمناهج الغربية الحديثة.
        لقد سعت النظرية الخليلية منذ ظهورها إلى بعث الجديد عبر إحياء المكتسب فتجاوزت مرحلة الاقتباس السلبي عند نقلها عن الغرب، أو عند نشرها عن العرب. وتنطلق هذه النظرية قي قراءتها للتراث وتأصيل أفكاره من منطلقين أساسيين هما:
        1 - لا يفسر التراث إلا التراث، فكتاب "سيبويه" لا يفسره إلا كتاب "سيبويه". ومن الخطأ أن نُسقط على التراث مفاهيم وتصورات دخيلة تتجاهل خصوصياته النوعية.
        2 - أن التراث العربي في العلوم الإنسانية عامة واللغوية خاصة ليس طبقة واحدة من حيث الأصالة والإبداع، فهناك تراث وتراث!
        فالتراث الذي تعلقت به النزعة الخليلية الحديثة هو التراث العلمي اللغوي الأصيل الذي تركه أولئك العلماء المبدعون الذين عاشوا في زمان الفصاحة اللغوية الأولى، وشافهوا فصحاء العرب، وقاموا بالتحريات الواسعة النطاق للحصول على أكبر مدونة لغوية شاهدها تاريخ العلوم اللسانية. وأما الذين جاؤوا من بعدهم فكانوا عالة عليهم، إذ ضيقوا حدود النحو الواسعة، واستبدلوا مفاهيم القدماء الإجرائية النشطة بمفاهيم أخرى جامدة تأملية،  مع بقاء نفس الألفاظ التي تدل عليها في الغالب.
        لقد اعتمد العلماء العرب، ورائدهم في ذلك الخليل، في تحليلهم للظاهرة اللغوية عددا من المفاهيم والمبادئ اللغوية التي سيكون لها دور عظيم في تفسير العلاقات المعقدة المجردة الكامنة وراء اللغة، ومن ثمة في تطوير معلوماتنا حول الظواهر اللغوية. ومن الغريب جدا - كما يقول الدكتور الحاج صالح  أن تكون هذه الأعمال التي لا تضاهيها إلا ما أبدعه العلماء الغربيون في أحدث أعمالهم، مجهولة تماما في كنهها وجوهرها عند كثير من الدارسين والاختصاصيين المعاصرين، ومن أهم هذه المبادئ نذكر المفاهيم الآتية:

2 - 1 - مفهوم الاستقامة :
        يميز "سيبويه" في الكتاب بين السلامة الراجعة إلى اللفظ، والسلامة الخاصة بالمعنى، كما يميّز أيضا بين السلامة التي يقتضيها القياس (أي النظام العام الذي يميز لغة من لغة أخرى) والسلامة التي يفرضها الاستعمال الحقيقي للناطقين، وذلك في قوله في باب "الاستقامة من الكلام والإحالة" : »فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب، فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمس، وسآتيك غدا، وأما المحال فأن تنقض أول كلامك بآخره فتقول: أتيتك غدا، وسآتيك أمس. وأما المستقيم الكذب فقولك: حَمَلْتُ الجَبَل، وشربتُ ماء البحر ونحوه، وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه نحو قولك: قد زيدا رأيت، وكي زيدٌ يأتيك وأشباه هذا. وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس «.
        فواضح من هذا الكلام أن "سيبويه" يحدد مفهوم السلامة وعلاقتها باللفظ والمعنى من ناحية، والقياس والاستعمال من ناحية أخرى. فهناك المستقيم الحسن، والمستقيم القبيح، والمستقيم المحال، ويمكن صياغة هذه المعاني بشكل آخر أكثر وضوحا :
- فالمستقيم الحسن = السليم في القياس والاستعمال جميعا.
- والمستقيم القبيح = السليم في القياس وغير السليم في الاستعمال.
- وأما المستقيم المحال = سليم في القياس والاستعمال، غير سليم من حيث المعنى.
        ومن ثم جاء التمييز المطلق بين اللفظ والمعنى، ومعنى ذلك أن اللفظ إذا حدد أو فسّر باللجوء إلى اعتبارات تخص المعنى فالتحليل هو تحليل معنوي، أما إذا حصل التحديد والتفسير على اللفظ دون أي اعتبار للمعنى فهو تحليل نحوي، والخلط بينهما - كما يقول الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح - يعتبر خطأ وتقصيرا »وقد بنى على ذلك النحاة أن اللفظ هو الأول، لأن هو المتبادر إلى الذهن أولا ثم يفهم منه المعنى، ويترتب على ذلك أن الانطلاق في التحليل يجب أن يكون من اللفظ في أبسط أحواله وهو الانفراد«.

2 - 2 - مفهوم الانفراد :
        ينطلق النحاة الأوائل في تحليلهم للغة من "الاسم المفرد" باعتباره النواة أو الأصل الذي تفرع عنه أشياء أخرى. وقد أطلق "الخليل" على هذا المفهوم مصطلح "الاسم المظهر (¹ المضمر)، كما أطلق عليه "ابن يعيش" و"الرضي الإسترباذي" مصطلح اللفظة.
        واللفظة في اللسانيات الخليلية عمادها الوقف والابتداء، فهي أقل ما يُنطقُ به مما ينفصل فيُسكت عنده ولا يلحق به شيء. أو يَبْتَدِئ فلا يسبقه شيء. فما ينفرد وينطلق، أو ما ينفصل ويبتدئ هو صفة الانفراد. ومما تجدر الإشارة إليه، أن كل وحدة لغوية قابلة للانفصال عما قبلها أو ما بعدها من الوحدات؛ بمعنى أن كل وحدة لغوية يمكن الابتداء بها والوقوف عليها حسب موقعها في الكلام.
        فمن الألفاظ ما ينفصل ويبتدئ مثل: "الرئيس" في نحو قولنا: "جاء الرئيس" و"الرئيس جاء". ومنها ما ينفصل ولا يبتدئ مثل ضمير "تاء الفاعل" و"نا المضاف إليه في نحو قولنا: "خَرَجْتُ" و"كتابُنا". ومنها ما يبتدئ ولا ينفصل مثل حرف الجر في نحو قولنا: "في التأني السلامة".
        ويحمل النحاة "اللفظة" على غيرها من المثل والنماذج فتفرع إلى لفظات هي نظائر للنواة، ولكنها أوسع منها، من خلال تعاقب زيادات قبلية وبعدية عليها دون أن تفقد وحدتها أو تنفرد فيها أجزاؤها، فلا تخرج عن كونها لفظة (أي قطعة واحدة). وسمى النحاة هذه القابلية للزيادة يمينا ويسارا "التمكن" ولاحظوا أن لهذا التمكن درجات تترتب كالآتي:

        أ - المتمكن الأمكن، الذي يحمل معناه بداخله ولا يحتاج إلى غيره، ويتمثل في اسم الجنس المنصرف كرجل وفرس وشجرة.
        ب - المتمكن غير الأمكن، ويتمثل في الممنوع من الصرف.
        جـ - غير المتمكن ولا أمكن، ويتمثل في الاسم المبني.
وانطلاقا من التصور السابق لمفهوم اللفظة يحدد د/ عبد الرحمن الحاج صالح اللفظة الاسمية تحديدا إجرائيا كما يلي:


يتبين لنا من خلال التحديد الإجرائي السابق للاسم ما يلي:
 أ - أن التحويل بالزيادة والتعاقب هو الذي يحدد الوحدات في النظرية الخليلية.
ب - أن كل الوحدات المحمولة بعضها على بعض بعمليات التحويل هي نظائر للنواة من حيث إنها وحدات تنفرد أولا ومتفرعة عنها بالزيادة ثانيا.
ج - أن الوحدات المحمولة بعضها على بعض تكوّن مجموعة ذات بنية تسمى في الاصطلاح الرياضي بالزمرة (structure de groupe).
وهنا نشير أن العلاج الآلي للنصوص يستلزم مثل هذه الصياغات الرياضية التي تكون على شكل خوارزمات (Algorithmes).

2 - 3 - مفهوم الكلمة واللفظة :
                كما سبق وأن أشرنا، أن النحاة الأوائل انطلقوا في تحليلهم للغة من مستوى اللفظة باعتبارها أصغر وحدة من الكلام مما يمكن أن ينفصل ويبتدئ، وهي أقل ما يمكن أن ينطق به مما يصلح أن يكون مبنيا على اسم أو فعل، أو مبنيا عليه اسم آخر أو فعل. وبناء على هذا المفهوم فإن العبارات التالية: رجل، الرجل، مع الرجل، رجل الغد، رجل قام أبوه أمس، الرجل الذي قام أبوه أمس... كل واحدة منها بمنزلة اسم واحد أي "لفظة" بتعبير "الرضي" لا كلمة.
        ولقد عَرَفَ "سيبويه" هذه الوحدة وعبَّر عنها في أماكن عديدة من "الكتاب" بعبارة "كالاسم الواحد" أو "بمنزلة الاسم الواحد"، ومن ذلك مثلا قوله عندما تعرض لموضوع النعت : »فأما النعت الذي جرى مع المنعوت فقولك: مررت برجلٍ ظريفٍ قبلُ، فصار النعت مجرورا مثل المجرور لأنهما كالاسم الواحد«.
        أما الكلمة عند النحاة الأوائل فهي أدنى عنصر تتركب منه "اللفظة"،  إذ تحدد بالموضع الذي تظهر فيه في داخل المثال (الحد). وعلى هذا فالكلمة كاصطلاح نحوي ليست دائما مورفيما أقل ما ينطق به مما يدل على معنى بل هي العنصر الدال الذي يمكن أن يحذف من (اللفظة) دون أي ضرر أو تغيير للعبارة، كالحذف لحرف الجر من لفظة "بالرجل". فخروجه لا يسبب تلاشي الاسم.
        أما العنصر الدال الذي إذا حُذِفَ أو استبدل بشيء آخر أدى إلى تلاشي العبارة التي يدخل فيها "كالنون" في "نَذْهَبُ" و"التاء" في "افْتَعَلَ"، فهذه مورفيمات وليست كلما، لأنها عناصر من مكونات الكلمة، فهي داخلة في صيغتها وليس لها الاستقلال النوعي الذي للكلم.

2 - 4 - مفهوم الموضع والعلامة العدمية :
                إن المواضع التي تتعاقب عليها الكلم، وتترتب فيها مع النواة (أي الاسم المفرد)، بعمليات الوصل (simple concaténation)، هي خانات تحدد بالزيادة التدريجية، إذ تمثل هذه الزيادات التحويلات التفريعية التي يتم من خلالها الانتقال من الأصل إلى مختلف الفروع أو العكس (ردّ الفروع إلى أصلها)، وعلى الرغم من الاختلاف الموجود، من حيث الطول والقصر بين العبارات التي تظهر بالتحويل التفريعي في داخل المثال المولد للفظة (schème générateur)؛ (رجل، الرجل، بالرجل، رجل الغد، رجل قام أبوه أمس..الخ.) إلا أنها تُعدُّ عبارات متكافئة باصطلاح الرياضيات، ولا يخرجها ذلك عن كونها لفظة. وبهذه العمليات التحويلية الخليلية يتحدد موضع كل عنصر في داخل المثال، كما في الرسم التالي :




وللإشارة فإن المواضع التي هي حول النواة الاسمية يمينا ويسارا تدخلها الزوائد (العناصر اللغوية)، وتخرج منها بعمليات الوصل، وقد تكون فارغة، أي خالية من العنصر لأن الموضع شيء وما يحتوي عليه شيء آخر. وهذا الخلو من العنصر مع بقاء أو ثبات الموضع هو ترك للعلامة وخلو منها. ويطلق د/ عبد الرحمن الحاج صالح على هذا المفهوم العلامة العدمية (Expression zéro وتختفي هذه العلامة في موضع لمقابلتها لعلامة ظاهرة في موضع آخر، فعلامة التذكير العدمية تقابلها علامة ظاهرة في المؤنث (عالم – عالمة). وعلامة المفرد العدمية تقابلها علامة ظاهرة في التثنية والجمع. وعلامة الابتداء العدمية (التجرد من العوامل) تقابلها علامات لفظية ظاهرة. وتنطبق العلامة العدمية أيضا على التقابل بين الحروف الصوتية، كعدم غنّة الباء في مقابل غنّة الميم وكلاهما له مخرج واحد.
        إن هذه الطريقة في تحليل الكلام، واكتشاف البنية الجامعة للكمية الكبيرة من الأنحاء، قد بناها النحاة الأولون على عدد من المفاهيم والتصورات، وعدد من الأساليب في علاج الكلام، فالنحاة العرب كما يقول د/ عبد الرحمن الحاج صالح ينطلقون من اللفظ في ظاهره، ولكن لا يتناولون الكلام جملة جملة، وقطعة بعد قطعة، فيقابلوا بينها لإظهار الفوارق من حيث صفاتها الذاتية كما هو الشأن عند البنويين (الانطلاق في التحليل من ظاهر الكلام فقط)، بل يحملون هذا النحو على ذاك حتى يظهر الترتيب والنظم (لا الصفات الذاتية فقط). وعليه فإن مفهوم الموضع، وكذلك المثال لا يوجد مثلهما في اللسانيات الغربية إطلاقا، وهو أعظم فارق يفترق فيه النحو العربي عن اللسانيات الغربية الحديثة.

2 - 5 - مفهوم الأصل والفرع :
                مما لا شك فيه أن المفهوم الذي ينبني عليه لا النحو العربي فحسب، بل علوم العربية كلها هو مفهوم الأصل والفرع. وقد جعل "الخليل" و"سيبويه" النظام اللغوي كله أصولا وفروعا، والفرع هو الأصل مع زيادة، أي مع شيء من التحويل، ويحصل ذلك بتفريع بعض العبارات عن عبارات أخرى تعتبر أبسط منها وبالتالي أصولا لها. ويبين ذلك النحاة العرب باللجوء إلى منهج علمي هو ما يسمونه حمل الشيء على الشيء أو إجرائه عليه بغية اكتشاف الجامع الذي يجمعها، وهو البنية التي تجمع بين الأنواع الكثيرة من الجمل، كما توضحها المتتاليات من الجمل التي أوردها سيبويه في كتابه:
-       مررت برجلٍ راكبٍ وذاهبٍ.
-       مررت برجلٍ راكبٍ فذاهبٍ.
-       مررت برجلٍ راكبٍ ثم ذاهبٍ.
-       مررت برجلٍ راكعٍ أو ساجدٍ (بمنزلة إما وإما...).
-       مررت برجلٍ راكعٍ لا ساجد (إما غلط فاستدرك وإما نسي فتذكر)...الخ.
 وينطلقون في ذلك من أبسطها وهي التي تتكون من عنصرين؛ "زيد منطلق"، فيحملون عليها جملا أخرى تكون فيها زيادة بالنسبة إلى الجملة البسيطة، بحيث تظهر بذلك كيفية تحوّل النواة بالزوائد، وهي في الحقيقة مقارنة بنوية أساسها تطبيق مجموعة على مجموعات أخرى طردا وعكسا. فالمذكر مثلا أصل والمؤنث فرع، والمفرد أصل والمثنى والجمع فرع عليه، والمكبّر أصل والمصغّر فرع عليه، والجملة المبنية للفاعل أصل للجملة المبنية للمفعول. وقد اعتبر "شومسكي" الجملة المبنية للفاعل نواة ومنطلقا للتفريع.
        والأصل عند الأئمة النحاة هو ما بُني عليه ولم يبن على غيره، ولا يحتاج إلى علامة ليتميز بها عن فروعه فله العلامة العدمية  Æ (Marque zéro).
        والنحو العربي العلمي، لا التعليمي أو الفلسفي، هو مجموع المثل والقواعد التي يمكن أن تفرع بها وعليها جميع الإمكانات التعبيرية الخاصة بالوضع العربي. فهذا الجانب الديناميكي للغة تجهله اللسانيات البنوية التقليدية لأنها تركز كل اهتمامها على تشخيص الوحدات في ذاتها وبالاعتماد على تقابل الصفات الذاتية التي تميزها عن غيرها.

2 - 6 - مفهوم الحركة :
                مفهوم غامض في أذهان كثير من المستشرقين واللغويين العرب الذين لم يتجردوا بعد من التصورات التي ورثها الغربيون عن الحضارة اليونانية. ووجه الغموض في هذا المفهوم راجع إلى عدم تمييز هؤلاء بين الحركة كصوت مسموع (أي مصوت=voyelle) لا يقوم مقام الحرف ولكنه من جنسه، ولذلك سميت حروفا صغيرة، والحركة التي تمكن من إخراج الحرف ووصله بغيره، والخروج منه إلى حرف آخر. وهذا هو المفهوم الذي يقصده القدماء من الحركة. قال الرماني في شرحه لكتاب "سيبويه" : »الحركة تمكن من إخراج الحرف، والسكون لا يمكن من ذلك« وقال أيضا : »وإذا تحرك الحرف اقتضى الخروج منه إلى حرف آخر«، ومعنى ذلك أن الحرف لا يحدث إلا في مدرج صوتي، أي في سياق متسلسل.
        وقال ابن جني : »... لأن أصل الإدراج للمتحرك إذْ كانت الحركة سببا له وعونا عليه«. وعلى هذا الأساس، فإن الحركة عند العلماء الأوائل هي الدفعة والنقلة العضوية والهوائية التي تهيئ المتكلم لما بعدها، إذ يحتاج إليها للانتقال من مخرج حرف إلى مخرج حرف آخر، وكذلك من كلمة إلى كلمة أخرى. فهي إطلاق بعد حبس، عكس السكون الذي هو وقف لا يستلزم الانتقال إلى حرف آخر.

2 - 7 - مفهوم العامل :
                يعد العامل، أو العمل النحوي الفكرة الجوهرية التي تتأسس عليها نظرية النحاة العرب، ويعني القدماء بالعامل العنصر اللغوي الذي يؤثر لفظا ومعنى على غيره كجميع الأفعال العربية وما يقوم مقامها، فهو معقول من منقول. فكل حركة من الحركات الإعرابية التي تظهر على أواخر الكلم، وكذلك كل تغيير يحدث في المبنى والمعنى إنما يجيء تبعا لعامل في التركيب، فلا نجد معمولا إلا وتصور له العلماء الأوائل عنصرا لفظيا أو معنويا هاما هو العامل الذي يكوِّن مع معموله زوجا مرتبا (couple ordonné). وههنا ينطلق النحاة من العمليات الحملية الإجرائية (حمل الشيء على الشيء) فيحملون مثلا أقل الكلام مما هو أكثر من لفظة وينطلقون من الجملة التي تتكون من عنصرين، كما سبق وأن أشرنا، نحو : زيد منطلق، ثم يشرعون في تحويلها بالزيادة مع إبقاء النواة (كما فعلوا باللفظة) للبحث عن العناصر المتكافئة، أي البنية التي تجمع وتشترك فيها الأنواع الكثيرة بل اللاّمتناهية من الجمل.
هذا ويصرح "سيبويه" في "الكتاب" أن عنصرين اثنين لا تكاد تخلو منهما أبدا البنية اللفظية للجملة، وهما العامل والمعمول الأول.
        وتجدر الإشارة أن موضع العامل ليس له مكان معين في مدرج الكلام، بل هو موضع في داخل المثال أو الحد. فالعامل شيء، ومحتواه شيء آخر (كما أن الموضع شيء، وما يدخله من الزوائد شيء آخر). فقد يكون في موضع العامل "فعل تام" أو "فعل ناسخ" أو "إن وأخواتها" أو تركيب آخر كما في المصفوفة التركيبية الآتية :

نستنتج من خلال هذا الجدول الحملي ما يلي :
 أ أن النظرية النحوية العربية القديمة تنطلق من العمليات الحملية ، فيجري النحاة تحويلات بالزيادة على النواة (أقل الكلام) كما فعلوا باللفظة للكشف عن العناصر المتكافئة داخل المصفوفة (الزمرة).
ب أن العامل أو المعمول الأول شيء، ومحتواه شيء آخر، ففي العمود الأول يدخل عنصر قد يكون كلمة أو لفظة أو تركيبا وله تأثير على بقية البناء، لذلك سمي عاملا.
ج إثبات قانون مهم وهو امتناع تقديم المعمول  الأول على عامله، إذ إن عبارة "سيبويه": » أول ما تشغّل به الفعل «تستلزم كما يقول د/ عبد الرحمن الحاج صالح شيئا آخر وهو استحالة تقدم المعمول الأول على عامله مهما كان، فإذا تقدم تغيّرت بنية الجملة دون معناها الوضعي.
 د جواز التقديم والتأخير ما عدا المعمول الأول بالنسبة إلى عامله وفي حدود معينة.
 هـ قد يخلو موضع العامل من العنصر المشار إليه بالعلامة   Æ ، فهذا هو الذي يسميه النحاة بالابتداء، ومعناه عدم التبعية التركيبية، وليس معناه بداية الجملة كما يعتقد البعض.
        فمفهوم العمل إذن، هو مفهوم إجرائي يمكن أن تفرع عليه وبه جميع الإمكانات التعبيرية الخاصة بالوضع اللغوي العربي. وقد تفطن "شومسكي" إلى أهمية هذا المفهوم (العامل النحوي) في المنهج التحويلي على صورة لا تبتعد كثيرا على الصورة التي جاءت في النحو العربي.

2 - 8 - التمييز الواضح بين الكلام كبنية والكلام كخطاب :
لم يقتصر الفكر النحوي الخليلي في تحليلاته للغة وتفسير ظواهرها على الجوانب الشكلية (اللفظية) فحسب، بل تجاوز ذلك إلى الجوانب الوظيفية الإبلاغية، فتحدث النحاة عن الكلام الذي تحصل به الفائدة، وعن معاني النحو وما يتيحه لصاحب الخطاب من طرق متنوعة للتعبير عن المعاني المقصودة. فمادة الدراسة النحوية عندهم هي الحديث (لا الحكم) من حيث هو تبادل لفظي ذو فائدة، يتم بين قطبين أساسيين هما المتحدث والمتحدث إليه. ولقد ربط "سيبويه" والنحاة الأوائل، عند وصفهم للغة، بين كل ظاهرة من الظواهر الصرفية والنحوية (الإفرادية والتركيبية) بما يمكن أن تؤديه من معنى، لا من حيث اللغة، ولكن من حيث البلاغة والفائدة. وأوضح دليل على ذلك هو اهتمامهم (أي النحاة) بمفهوم الجملة، وتمييزهم الصريح والحاسم بين الكلام كبنية والكلام كخطاب.
        ومن الجوانب التي اهتمت بها النظرية الخليلية الحديثة، تنبيه الباحثين إلى مفهوم الجملة وما يقتضيه التصور العربي لها. إذ يخطئ، في رأيها، من يعتقد أن "الكتاب" الذي اشتمل على أمهات المسائل اللغوية، والذي شهد له العلماء بالنضج والاكتمال، خال من مفهوم الجملة. فخلو الكتاب من المصطلح لا يعني بالضرورة خلوه من المفهوم كما أن خلو كتاب "سوسير" من كلمة بنية لا يعني أبدا إهماله لمفهوم البناء، فاستعماله لمصطلح نظام يتضمن مفهوم البنية.
        حقيقة إن "سيبويه" لم يستعمل مصطلح جملة، ولكن العلماء لاحظوا أنه يسميها كلاما، وإذا دقق القول استعمل مصطلح "الكلام المستغنى" ويقصد به : قطعة الكلام المستقلة لفظا ومعنى، والتي يحسن بالمتكلم أن يسكت عند انتهائها لأنها تشكل وحدة تبليغية يستفيد بها المخاطب علما معينا، فمقياس الجملة المفيدة أو علامتها عند "سيبويه" هو الفائدة (الإفادة).
        ومعلوم أنه لا فائدة إلا إذا كان الكلام تاما، أما الكلم المفردة فلا تتعلق بها الفائدة وإن تعلقت بها الدلالة على معنى مفرد (لفظي). قال الزجاجي :  » الاسم يدل على مسماه ولا يحصل منه فائدة مفردا حتى نقرنه باسم مثله، أو فعل أو جملة، وإلا كان ذكرك له لغوا وهذرا غير مفيد، وكذلك الحرف إذا ذكرته دلَّ على المعنى الموضوع له، ثم لم تكتمل الفائدة بذكرك إياه حتى تقرنه بما تكمل به فائدته، فهو والاسم في هذا سواء، لا فرق بينهما «.
        وعليه فإن لفظة "كلام" كما لاحظ العلماء كافية الدلالة على مفهوم الجملة المفيدة عند "سيبويه". ومن يرجع إلى "الكتاب" يلاحظ أنها تواترت عشرات المرات من خلال العناصر الأساسية لتكونها وهما المسند والمسند إليه، والمبتدأ والمبني عليه.
        وعلى الرغم من ظهور مصطلح "الجملة" في كتاب "المقتضب"   للمبرد   (ت:285هـ) إلا أن لفظة كلام ظلت سائدة تنافس المصطلح الجديد، حيث استعملها بعض اللغويين والنحاة، ومن ذلك مثلا قول ابن جني عند تعريفه للكلام :  « كل لفظ مستقل بنفسه، مفيد لمعناه نحو، زيدٌ أخوك، وقام محمد وصَهْ ومَهْوأفّ  «. وقال "ابن آجروم" في مقدمة "الآجرومية" : » الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع «، وهذا الذي يسميه النحويون جُملة.
        ومن مظاهر الأصالة والإبداع، أيضا، في الفكر النحوي الخليلي هو تمييز القدماء بين جانبين اثنين، عند تحليلهم للغة، ليس بينهما أي تناظر كما يقول د/ عبد الرحمن الحاج صالح، ويتمثل هذان الجانبان في :
1 الجانب اللفظي الصوري الذي يخص اللفظ في ذاته وهيكله وصيغته، أي المعنى الموضوع له بقطع النظر عما يؤديه من وظيفة في الخطاب غير الدلالة الوضعية (دلالة اللفظ).
2 وجانب الخطاب ويتمثل في كيفية استعمال تلك الألفاظ ومدلولاتها في عملية الإفادة، أي الإعلام والمخاطبة وتبليغ الأغراض بين ناطق وسامع في موقف اجتماعي حيّ يُعتبر "المتكلم" جزءا منه إلى جانب السامع والكلام  .
        وأوضح دليل على سلامة هذا التصور، في منظور د/ الحاج صالح، هو عجز النحويين المتفلسفين عن تحديد مفهوم الاسم في مقابل الفعل والحرف، حيث حددوه بتعريفات كثيرة، تأتلف حينا وتختلف أحيانا، ولا يُعلم تعريف سلم من المعارضة والنقد.
        ولكي يضبط تعريف الاسم ضبطا دقيقا، فيسلم تحديده من التناقض يرى بعض اللسانيين أنه لا بد من مراعاة ما يلي :
أولا : تحديد نوع الاسم، هل هو اسم مطلق، أم اسم مضارع للفعل والحرف، وهل هو متمكن تجري عليه حركات الإعراب، أو هو مستحق لها (أي متمكن أمكن أو متمكن غير أمكن)
ثانيا : تحديد الجانب الذي يحدد فيه، هل يحدد في الجانب الوظيفي الدلالي الخاص بالإفادة، أم يحدد في الجانب اللفظي الصوري الخاص بالبنية والهيكل. فالاسم من حيث وظيفته الدلالية والإفادية (أي من حيث دلالته على معنى) "هو لفظ يدل على شيء لا يكون حدثا مع زمان"، ثم هناك "الاسم المطلق" والاسم المضارع للحرف والفعل. "فالاسم المطلق" يدل على ذات أي على كل شيء يصح الإخبار  عنه (بمعنى قابل أن يكون متحدثا عنه).
        أما من الجانب اللفظي الصوري، فالاسم كلمة أو عنصر قابل أو يحتمل دخول الزوائد عليه يمينا وشمالا بحسب درجة تمكنه أو عدم تمكنه إذ يصلح أن تدخل عليه "ال"  وحروف الجر والتنوين والإعراب، ويمكن أن يضاف وأن يوصف والشكل التالي يوضح ذلك :


يتضح من خلال الرسم السابق أن زوائد اللفظة الاسمية تختلف عن زوائد اللفظة الفعلية، فالأولى، كما رأينا، تقبل دخول حروف الجر، والتنوين، والإضافة، والْ التعريف. والثانية قابلة لدخول السين، وسوف، وأدوات النفي، والضمائر المتصلة، وتاء التأنيث، وحركة الإعراب كما في الشكل الآتي :


ويبدو تعمق القدماء في هذه المسألة (اللفظ الدال ومدلولاته الوضعية من جهة، واستعمال اللفظ ومدلولاته في عملية الإفادة) من خلال تحليلهم لوحدات تبدو في الظاهر، ولأول وهلة قطع كلامية غير قابلة لمزيد من التحليل والتفكيك لشدة التحام عناصرها المكونة لها، ومن ذلك مثلا ما استدلّ به "ابن جني" من أصناف الدلالات اللفظية والصناعية والمعنوية لتحليل الكلمة لفظا وصيغة، سواء كانت فعلا أو اسما، ثم تعيين وحداتها الدالة الدنيا في كل منها حيث يقول: » ألا ترى إلى قام ودلالة لفظه على مصدره، ودلالة بنائه على زمانه، ودلالة معناه على فاعله... « ثم يتبع هذه الفكرة بعد انتهائه من شرحها بفكرة أخرى فيقول: » وكذلك اسم الفاعل، نحو قائم وقاعد؛
-        لفظه يفيد الحدث الذي هو القيام والقعود.
-         وصيغته وبناؤه يفيد كونه صاحب الفعل.
وكذلك قَطَّعَ وكَسَّرَ، فنفس اللفظ ههنا يفيد الحدث، وصورته [أي صيغته وبناؤه] تفيد شيئين: أحدهما الماضي، والآخر تكثير الفعل.
كما أن ضَارَبَ يفيد بلفظه الحدث، وببنائه الماضي وكون الفعل من اثنين [أي يدل على المشاركة] وبمعناه على أن له فاعلا «.
نستنتج من هذا التحليل العميق، أن الكلمة، سواء كانت اسما أو فعلا، تشمل وحدات دنيا دالة، هي المادة الأصلية والصورة (أي الوزن والصيغة).
               
فكلمة "مفتاح" مثلا تتكون من:
               مادة (ف.ت.ح) التي تدل على الحدث(المعنى الوضعي)      
              صيغة (مفعال) التي تدل على اسم الآلة.
وكذلك ضَرَبَ، وضَارِب، ومَضْرُوب، تتكون من مادة أصلية هي (ض.ر.ب) التي تدل على الحدث (الضرب) في الوضع اللغوي، ومن أوزان أو صيغ هي:
-        فَعَلَ التي تدل على حدث منقطع.
-         وفَاعِل التي تدل على اسم الفاعل.
-         ومَفْعُول التي تدل على الذي وقع عليه الفعل (اسم المفعول).
وبناء على هذا يمكن القول : إن صيغة (فَعَلَ x ض.ر.ب) غير صيغة             (يفعل x ض.ر.ب) غير صيغة (فاعل x ض.ر.ب)، وأن الكلمة أو اللفظة هي نتيجة لتركيب هاتين الوحدتين، المادة والصيغة كما في الرسم البياني الآتي :
        وتجدر الإشارة أن تمييز النحاة الأوائل بين الجانب اللفظي البنوي وبين الجانب الوظيفي الإبلاغي لم يقتصر على المستوى الإفرادي فحسب، بل تعداه إلى المستوى التركيبي، ليشمل الجملة المفيدة المستغنى عنها  بمصطلح "سيبويه".
        فصيغة الجملة العربية اللفظية، في رأي د/ الحاج صالح، هي سياق من العامل زائد المعمول الأول، يكونان زوجا مرتبا هي اللفظة المبني عليها، التي يبتدئ بها الكلام، ويبنى عليها المعمول الثاني (الذي يشغل موضع اللفظة المبنية). كما يمثلها الرسم الآتي:
وتدخل على هذه النواة زوائد مثل التي تدخل في بنية الكلمة، ويمثل الأستاذ الحاج صالح للعلاقة القائمة بين هذه الوحدات التركيبية (النواة + الزوائد) بهذه الصيغة :
   


ويتبين بهذا الشكل أن العناصر التركيبية هي عناصر خاصة مجردة، كما أن هناك عناصر أخرى أو زوائد (تدخل وتخرج) على النواة التركيبية، وتتمثل في المخصصات كالمفاعيل والحال وغيرها. وللإشارة فإن هذه البنية اللفظية هي التي يعبر عنها النحاة مرة بترتيب اللفظ ومرة بالتغيير الإعرابي.
ويحذر الدكتور الحاج صالح من خطر التخليط في التحليل بين هذه البنية اللفظية (الهيكل البنوي للجملة) وصيغة الخطاب التي تتكون من مسند ومسند إليه (وهما ما لا يستغنى واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدّا)، وإلا لما احتاج النحاة الأوائل إلى تسمية أخرى مثل، المبتدأ و"البني عليه"، ولما احتاجوا إلى تصور عنصر لفظي هام هو العامل وما يتعلق به من معمول.

وعليه، إذا كانت الصيغة الخاصة باللفظ تُوظَّف فيها مصطلحات العامل والمعمول الأول والثاني والفضلة، فإنه يستعمل للحديث عن الصيغة الخاصة بالخطاب المسند والمسند إليه والمخصصات ويظهر هذا التصور بجلاء من خلال حديث النحاة عن الجملة "ذات التركيب المزدوج"، "كالشرط" مثلا، فإنه من الجانب اللفظي، تعدّ "جملة الشرط" أو جملة "جواب الشرط" تامتين تتوفر فيهما الشروط، ولكن من حيث الخطاب والإفادة فهما (كل بمفردها) ناقصتان.
والخلاصة التي نخرج بها من خلال حديثنا عن تمييز النحاة الأوائل بين الكلام كبنية وبين الكلام كخطاب، أن هناك فرقا بين الأوضاع اللغوية الإفرادية والتركيبية (الصرفية والنحوية) وبين ظواهر الاستعمال لهذه الأوضاع، وإن تفسير بنية اللفظ باللجوء إلى اعتبارات تخص الإفادة أو العكس؛ تفسير ظواهر الإفادة والتبليغ بالاعتماد على اعتبارات تخص اللفظ هو غلط فادح، وسبب لأوهام كثيرة كما يقول "د. الحاج صالح"، لأن اللفظ في الوضع اللغوي يدل على معناه الموضوع له وعلى أكثر من معنى (أي أنه متعدد ومتغير ومحتمل خارج السياق)، أما في الخطاب الواحد الخاص فإن المتكلم لا يريد باستعماله إلا معنى واحدا.
وما يمكن استنتاجه من خلال عرضنا للمفاهيم الأساسية للنظرية الخليلية الحديثة هو قيمة "اللفظة" في مجال تحليل النظام اللغوي العربي وتشخيص وحداته، فهي أصغر وحدة في الخطاب أو الحديث، وعلى مستواها يتم اتحاد الوحدة اللفظية بالوحدة الإعلامية (الإفادة)، فهي المستوى المركزي أو المنوال اللساني الذي انطلق منه النحاة الأوائل في التحليل والتفسير إلى مستويات أخرى أكثر أو أقل (من اللفظة)، والجدول الآتي يبين المستويات التي توجد تحتها وفوقها :
وتجدر الإشارة، ههنا، إلى أن الوحدات اللغوية المندرجة في كل مستوى من مستويات التحليل هي نتاج بناء لعناصر ووحدات المستوى الأدنى، تركب على شكل تفريعي إجرائي.
إن لهذا الإقرار "بقيمة اللفظة" في التحليل اللغوي العربي نتائج عظيمة ليس فقط على صعيد التحليل اللساني النظري، بل أيضا على مستوى تطبيقاته التربوية، إذ يمكن أن تستثمر نتائج هذا المفهوم عند اختيار المادة النحوية المراد تعليمها وكذلك عند ترتيبها وتحديد الكيفية التي ينبغي أن تعرض بها على المتعلمين.

الخلاصة :
والخلاصة التي نخرج بها من خلال عرضنا التحليلي للمفاهيم والتصورات الأساسية للنظرية الخليلية، أن النحو عند "سيبويه" وشيوخه وتلاميذه منطق رياضي خاص مستنبط أوضاعا ومقاييس من واقع الاستعمال. فهو ثمرة أصول عديدة تفرعت منها فروعه وفصوله. وإن وجود هذا الأثر المنطقي لدليل على مكانة الجانب العقلي فيه، وهو جانب كان موجودا إلى الجانب النقلي، وقد عاد هذا الجانب ضروريا في البحث اللغوي عند التحويليين، لأنه أداة أصيلة من أدوات بناء العلم، بدونه يتحول علم النحو إلى مجرد جمع وتصنيف.
 وخلافا لما يدّعيه دعاة الإصلاح والتجديد، فإن صعوبة العامل النحوي، قضية مزيفة لا أساس لها من الصحة، ونظرية النحاة الأوائل تتميز بالموضوعية والشمولية والتماسك والاقتصاد، وفكرة العامل ليست مما يغضُّ من شأن النحاة الأوائل، بل هي مما يعلي شأنهم، ويُكبر تفكيرهم، وهي من أخطر النظريات التي سيكون لها دور عظيم في تطوير معلوماتنا حول الظواهر اللغوية، لا سيما وأن لديها قدرة عجيبة وقابلية واسعة للصياغة الرياضية. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا إن اللسانيات الغربية لو انتبه أصحابها إلى نظام العامل في النظرية النحوية العربية القديمة لكانت اللسانيات العامة على غير ما هي عليه، بل لعلها كانت تكون قد أدركت ما لا تدركه إلاّ بعد أمد.