الخميس، 22 نوفمبر 2012

حفريات لغويّة في كلمة قرطوعة

حفريات لغويّة في كلمة قرطوعة
بقلم/ أ.د. عبدالرزاق بنّور
 
1. قلتُ في أوّل تغريدة لي إنّ المعجم «شبكة من العلاقات » . ولا يكفي التصريح بذلك، بل يجب إثباته.
2. قلت إنّ العربيّة التونسيّة تعرف «قرعوطـ(ـة) » (بنطق القاف كالجيم المصريّة) وكذلك فعل «قرعط، يقرعط »
وأراها أقرب إلى الأصل من «قرطوعة »، مما يعني أنّ «قرطع » قلب مكاني لـ «قرعط ». وسأب السبب.
3. أرى أنّ «قرعط » و «قرطع » في علاقة مباشرة ب «جرعة » وفعل «جرَع .»
4. كما أرى أنّ «قرعط » و «قرطع » على علاقة -غير- مباشرة ب «كرع » و «كراع .»
أ. السبب الأوّل صوتي، إذ لا أحد ينكر أنّ الكاف والجيم والقاف تتبادل في ما بينها، ويكفي أن ننظر في اللهجات
وكتب القدامى كي نتأكّد ]نطق الجيم المصرية «ڤ» والكاف التّي كالجيم، الخ[.
-يجمع السبب الصوتي إذن بين «جرع » و «كرع » و «ڤرع .»
ب. السبب الثاني دلالي، إذ يتعلّق الأمر في كلّ ذلك بشرب الماء بصفة عامّة وتنفرد كلّ لهجة عربيّة بتدرجاتها
الدلاليّة الخاصّة.
5. يبقى حلّ إشكاليتين: الأولى صوتية مورفولوجية )ما هو مكان الطاء في قرطع\قرعط؟) والثانية دلالية تبريرية (ما
علاقة الشرب بالكراع )  يكرع(؟).
أ. صوتيّا وتصريفيّا أرى أنّ «ط » قرعط\قرطع أصلها «ت » مفخمة سببها تماثل صوتي مع العين الحلقيّة. وهي زائدة
كما زيدت في «برطع \ برعط » من «برع »، و «اصطرخ » من «صرخ »، و «فرشط «\» فرطش » من «فرش ،»
و «ضمرط » من «ضمر »، و «جخرط » من «جخر »، و «جلمط » من «جلم »، و «خنطث » من «خنث »، الخ. والمعنى واحد.
ب. أمّا العلاقة الدلاليّة بين «جرع \ كرع » و «كراع » فنراها في المقابلة بين «صدَر » و «ورَد » (الخروج مقابل
الدخول والعطاء مقابل الأخذ) وبين «صادرات » و «واردات » فالأولى من «الصدر » ]فوق[ والثانية من «ورد » ]تحت[
(انظر «رديء » و «ردى » و «ورد » بمعنى العبد والهلاك، الخ).
قد يعجب المرء لهذا الأمر، نظرا إلى أنّ الإنسان يُدخل من فوق ويخرج من أسفل، لكنّ أصل هذا المجاز ليس الإنسان بل النخلة التّي «ترد \ تكرع » فتأخذ الماء من جذعها (كراعها) و «تصدر » فتنتج الثمار من أعلاها (صدرها). على كلّ، هذا رأيي وهو مطروح للنقاش والإثراء.
مع خالص التحيّة.
أ.د. عبد الرزاق بنور
جامعة تونس

الثلاثاء، 20 نوفمبر 2012

"معاصير" قراءة لغوية تأصيلية



بسم الله الرحمن الرحيم
معاصير
قراءة لغوية تأصيلية:
درج على ألسنة العوام في هذا العصر جمع الإعصار على "معاصير"، وهو وزن غير مألوف قياسياً وربما يرى البعض أن العامة خرقوا القاعدة فأتوا بما لا يغتفر!
وقد بحثت في دوافع هذا المسلك لدى أبناء العربية الذين ورثوا الفطرة النقية في صحرائهم بعيداً عن تأثير المدارس ومراكز العلم في بعض البلدان التي سبقتنا في الميدان التعليمي. وظهر لي أنه إرث يتناقلونه بسليقتهم وعفويتهم الممتدة من أسلافهم العرب الأقحاح، فهناك كلمات كثيرة في التراث العربي الخالد، جاءت تصاريفها وتوجيهاتها على غرار ما يفعله عوامنا اليوم، وهي تملأ المعاجم والمصادر التي تناولت كلام العرب وتصريفهم لكلماتهم وأحوالهم في تقليب تلك الكلمات. فهذه الميم قد صحبتهم كثيراً فألفوها إلى حد أنها لم تعد ذلك الدخيل في بعض الأوزان والتصاريف، حتى وإن لم تكن أصيلة في تركيب الكلمة. نجدهم أدرجوها في بعض الجموع الناشزة على القياس بطريقة ربما تدفع بعض الباحثين ودارسي اللغة إلى التشكيك في أصل المفرد لهذه الجموع ولكنه يقف مسلِّماً إذا وجدها متواترة لدى مؤصلي العلوم العربية بطريقتها الصحيحة ومن أمثلة ذلك:
*حُسْن، فجمعت على محاسن.
*قبح، على مقابح. وهو ما يستقبح من الأخلاق وغيرها.
*مدح بالفتح على ممادح.
*نَدْح بالفتح والضم على منادح، وهو الكثرة والسعة. ومنه اندياح دوائر الماء حينما يلقى فيه الحجر. وقيل إنه جمع مندوحة.
*فقر، على مفاقر. تقول أغنى الله مفاقره أي: وجوه فقره، قال النابغة:
فأهلي فداء لامرئ إن أتيتُه      تقبل معروفي وأغنى المفاقرا
*لمحة، بفتح فسكون، على ملامح تقول في فلان لمحة من أبيه أي: شبه، وفيه ملامح من أخيه أي: مشابه.
*شَبَه، على مشابه، تقول في صديقي مشابِهُ من أبيه، كما تقول فيه شبه منه.
وغير هذه الكلمات، التي زيدت فيها الميم، كثيرة في كلام العرب، ولكنها تبقى في حيز الشذوذ الاستثنائي للمفردة التي خالفت نظائرها ومَشَابِهَهَا؛ ليبقى إطار القبول لما يكون مقيساً بشذوذه، فما وجدناه مماثلاً لها يحكم بصحته إن وافق المعايير ونصنفه في باب الفوائت والتواتر والرواية والقدم للكلمة يتيح لنا قياسها وتصنيفها بحكم توسطنا في الأجيال التي سبقتنا والتي تلحقنا فسابقونا روينا عنهم ولاحقونا يروون ما ننقله ونوثقه لهم بعد عرضه على المحكات المعيارية الدقيقة ومن أهم تلك المحكات الاحتضان البيئي لكل إقليم من أقاليم جزيرة العرب التي تزخر بمعين يتجدد من الثروة اللفظية الأصيلة العظيمة كما أشار بعض متتبعي اللهجة الدارجة هنا إلى أن راصدي اللغة يمكنهم استدراك ما فات منها ويعني لهجات الجزيرة العربية تحديداً؛ فهي التي نأت عن الدخلاء والخلطاء الذين لوثوا كثيراً من ألسنة العرب خارج الجزيرة.
والميم قد تأتي زيادة وبديلاً في الجمع كما أتت في غيره، وقد تأتي بديلة لحرف الهمزة كمجيئها في كلمات محدودة سمعت عن العرب؛ وأقول محدودة لأنها لم تسمع في نظائرها مع إمكان ذلك، ومن هذه الكلمات: أرجوحة وأراجيح وأقاليد فقد وردت عن العرب بلفظ: مرجوحة ومراجيح ومقاليد بإبدال الهمزة ميماً ولم نرها في نظائر هذه الكلمات كإبريق وأباريق وأباطيل وأساطير.
على قول من يرى أن مقاليد مفردها إقليد أو إقلاد كما في اللسان والتاج؛ خلافاً لمن يرى أن لا واحد لها كالأصمعي. ولكن الشواهد المستفيضة من القرآن الكريم وفي معاجمنا على أن الإقليد هو المفتاح وأن لفظة مقاليد هي المفاتيح في أحد وجوه تفسيرها فإنها تَرُدُّ بعض الأقوال وتعزز أخرى.
يقول الفيروز آبادي في بصائر ذوي التمييز:"والإقليد: المفتاح. والجمع المقاليد، كما قالوا: ملامح ومحاسن ومشابه ومذاكير. وقوله تعالى: "له مقاليد السموات والأرض" الزمر63.قال أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن السدي: أي خزائن السموات والأرض. وقال مجاهد بن جبر المكي: أي مفاتيح السماوات والأرض. واحدها إقليد. قال تبَّع:
وأقمنا به من الدهر سبتاً      وجعلنا لبابه إقليدا
والإقليد معرب كليد. (ج4ص294.تحقيق محمد علي النجار.المكتبة العلمية. بيروت لبنان).
وأفاض الزبيدي في تفصيل اللفظة ويكفينا ما يحيط بعنق حاجتنا لنصل إلى أن في لغة العرب ما يجمع على مفاعيل ومفرده إفعال أو إفعيل. فمفرد معاصير التي يلهج بها الناس اليوم إعصار وهو فصيح شائع ومنه في القرآن الكريم إلا أنهم عاملوه بإبدال الهمزة ميماً مستساغة مقبولة مليحة في لهجتهم.
ولكن باستقصاء الدارج من اللغة اليوم بين العوام نراهم توسعوا في تصريفها جمعاً وإفراداً وإبدالاً فمما ساقه بعض الإخوة لنا من متتبعي اللهجات ما سمع في الحجاز من قول بني الحارث في مفردها معصار وتجمع على معاصير وفي تهامة جازان يقال معصار أيضاً. وفي وسط نجد تكثر في الأرياف وتتأصل في قبائل البوادي. أما في حواضرنا فيستخدمون كلمة معصير على قلة وربما أطلقوا عليها (عجة جن).
صالح بن إبراهيم العوض
الرس.الثلاثاء.6/1/1434هـ.

السبت، 17 نوفمبر 2012

"ص م ل"و"الصامل"و"الصملة" رحلة مفردة...




جذر مادة (ص م ل) أصيل وذو دلالة عميقة في اللغة العربية يمتد إلى اليوم بمضمونه الراسخ. فهو اليوم شائع ذائع بين العامة بعدة تصريفات فلا تكاد منطقة أو إقليم تحيد عنه في استخدامه ولعل "الصميل" المشهور عند أهل الأنعام خير مثال دقيق على ذلك.
فالصميل تطلق اليوم على الوعاء الجلدي الذي يحفظ به اللبن والحليب لغرض التبريد والمحافظة على النكهة الخاصة التي يهبها ذلك الوعاء. وهناك تصريف آخر للكلمة شائع بيننا اليوم ويكثر في أساليب الاستخذاء والتخوف فيصفون الشخص الذي يعزم على أمر ما بأنه ثابت راسخ غير متخاذل ولا ناكص فيقولون عنه: (صامل) و(راعي صَمْلَة) ويراوح العامة في استخدامها لما يعقل وما لا يعقل فقد يقولون: التحق فلان بالجامعة، فيستدرك آخر حسنٌ وليته يصمُل. ثم يأتون به بطريقة لغير العاقل فيقولون: أصلحتُ ناقوط القربة ولن تسرب ماءها لاحقاً، فيأتي من يقول: نعم وليته يصمل.
وقد يتجوز الناس في معناها؛ فتستعار للشجاعة فيقولون: فلان صامل أي راسخ ثابت القلب شجاع فلا يتردد ولا يهاب المواقف التي ربما قصُر عندها غيره. وبه سموا أبناءهم، فصامل علم شائع بيننا للرجل، وهو جد أحد شيوخنا الأفاضل الأستاذ الدكتور محمد بن علي الصامل أحد الأعلام البارزين في اللغة العربية اليوم. وهناك أسر كبيرة وكثيرة من جنوب الجزيرة العربية في جازان يطلق عليهم" الصميلي".
أما أصل الكلمة التواضعي في إرثها العربي فقد تناولته المعاجم القديمة وعرجت عليه الحديثة بشيء من التفصيل الثري؛ ففي تهذيب اللغة للأزهري: "قال الليث: صَمَل الشيء يصمُل صمولاً: إذا صلُب واشتد واكتنز. يوصف به الجبل والجمل والرجل، قال رؤبة:
عن صامل عاسٍ إذا ما اصلخْمما
... وقال الليث: الصميل: السقاء اليابس. والصامل الخلق. وأنشد:
إذا ذاد عن ماء الفرات فلن ترى         أخا قربةٍ يسقي أخاً بصميل
ويقال: صَمَل بدنُه وبطنه، وأصمله الصيام: أي أيبسه.
ولم يُضِفْ الصاحب في المحيط شيئاً ذا قيمة.
ولكن ابن سيده يشير إلى ما ساقه الأزهري بإيراده مؤداه ويزيد: وصمَل السقاء والشجر صملاً، فهو صميل وصامل: يبس. قال السلولي(1):
ترى جازريه يرعدان وناره      عليها عداميل الهشيم وصامله.
ومن دلالات "صَمَلَ" الضرب، فربما تعود المفردة في معناها إليه في لغة قوم أو أقوام من العرب حيث أشارت المعاجم إلى ما ينبي عن هذا المؤدى المشترك.
ويجري الفيروز آبادي على ما جرى عليه سابقوه في المعنى فلم يزد عليهم شيئاً ذا بال.
والناس اليوم يسمون الصميل للسقاء الطري الذي يمخض به اللبن، ولا يستعملونه لليابس ألبتة. يقول جدي صالح بن محمد بن عوض رحمه الله مشيراً إلى والدته التي نأى عنها مع شقيقه التوأم حمد طلباً للعيش الكريم:
من اولٍ تمخض وتدهن مشقنا      واليوم عيا لا يزبِّد سقانا
تمخض: أي تخض الحليب ليصبح لبناً فيستخرج منه الزبد، ومشقنا: المَشَق التشققات التي تطال ظاهر القدمين من شدة البرد في الشتاء.(وفيها شيء من الفصاحة).
ومجمع اللغة العربية في القاهرة، الذي ناء بإصدار معاجم عظيمة خدمت اللغة وواكبت المسيرة اللغوية بجهد لا ينكر، تناول الكلمة في الوجيز والوسيط ونقل بعض ما قاله الأزهري وابن سيده. وزاد: وصمل للعمل وفيه: صبر لمشقته واستمر فيه. ثم أضاف بعد هذه العبارة كلمة (محدثة) ما يعني أنه أجاز الاصطلاح العامي الجديد وسوغ نقل الكلمة بمعناها إلى الثبات وعدم التخاذل، ولكني أرى أنه ليس استحداثاً فالاستخدام المجازي لأي كلمة وارد على مر العصور, ونراه مستساغاً لدى الشعراء ويهتبله النقاد ابتداعاً وإبداعاً بلا تثريب على الشاعر حينما يستعير أو يأتي بمجاز! فلنا أن نقول إن العامة أبقوا الكلمة على أصلها الدلالي وتوسعوا فيها مجازاً فجعلوا الصمْلة لكل ما ورد في كلامهم سواء كان إنساناً أم جماداً أم حيواناً وفيه سعة. كما أنه يقول: صبر لمشقته ولعل الصواب صبر على مشقته فصبر يتعدى بعلى لا اللام.
ومجمع اللغة العربية في القاهرة وظف الجذر ودلالته ليؤسس منه أصلاً لغوياً جديداً مستحدثاً يدخل تحته لفظة جديدة ذات معنى تقني حديث وهي كلمة"صَمُولَة" فقال حولها: "الصمولة" قطعة من الحديد مستديرة أو ذات أضلاع، جوفها مسنن في شكل حلزوني، تثبت في طرف مسمار مسنن مثلها لإحكام تثبيته.(محدثة). وكان حقه أن يقول منقولة.
وبعض المحققين لا يراها محورة في دلالتها، ولا يرى العوام نحوا بها منحى مستحدثاً في وضعها الأصيل، فالشيخ محمد بن ناصر العبودي قال عنها في كتابه الأمثال العامية في نجد:"الصامل من الحطب هو الجزل اليابس. أي النافع لإيقاد النار القوية. فنقلته العامة للشيء النافع من بين الأشياء الكثيرة التي لا نفع فيها".
والكلمة متناغمة مع الشاعرية العربية إلى حد بعيد، الأمر الذي جعل الأصلاء من منمقي الكلام حتى في الأجيال الحالية التي ورثت عزة الكلمة مثلما ورثت كرامتها، فهي ترى عزها في انتقاء كلامها وترى مروءتها في حديثها وما يروى عنها في المجالس. لذلك وجدنا تنوع الاستخدام والتوسع فيه لديهم جميلاً وثرياً، فكثرت في أمثالهم وحكمهم وأشعارهم لذلك قال الشاعر الفارس راكان بن حثلين:
ما قل دل وزبدة الهرج نيشان        والهرج يكفي صامله عن كثيره
وترددت كثيراً في أمثالهم الشعبية الدارجة فقالوا في الأشياء النادرة التي يعز وفورها وتكون من المتعذر الحصول عليه أحياناً "الصامل قليل".
كما جاءت للهزء والسخرية لمن يكثر كلامه وسقطه في المجالس، ولكن المفيد منه والصادق يكاد يعدم فقالوا: "الهرج واجد والصامل قليل" أي أن من يهذي ويكثر الكلام قد لا يكون ذا عزيمة صادقة وهمة عالية بما يتفق مع كلامه الذي لا يكف.
ويقابل المثل العامي هنا ما تقوله العرب"أسمع جعجعة ولا أرى طِحْناً".
وفي كتاب فصيح العامي في شمال نجد تطرق مؤلفه الأستاذ عبد الرحمن بن زيد السويداء لهذه الكلمة بكلام مجمل استقرأه من المعاجم اختزالاً عاماً مورداً بيت زينب بنت الطثرية.
ويختم قوله عنها بعرض جيد حول بعض الأساليب واستخدامها في الدلالة العصرية للكلمة فيقول:"…رجل صامل: أي ناضج ومشتد يدرك ما له وما عليه يحافظ على ماله. وحطب صامل: صلب مشتد. وشربت من صميل اللبن. وهذا الرجل لا "صملة" بيده: أي ليس معه المال الكافي. وهذا العلم الصامل: أي الخبر الصادق. ورجل ما بيده صمايل: أي لا يوجد بيده شيء. والكلام الصِّمِلِي: أي الصحيح الذي لا شك فيه".
                                                                          صالح بن إبراهيم العوض
                                                                       الرس.السبت.3/1/1434هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
<!--[if !supportLists]-->(1)   <!--[endif]-->تنازع هذا البيت العجير السلولي وزينب بنت الطثرية. فأبو علي القالي أورده في قصيدة زينب التي رثت بها أخاها يزيد وهي من الرثائيات الروائع التي أغفلها النقاد. وابن سيده نسبه إلى السلولي كما أشرنا أعلاه. وقصيدة العجير مطلعها:
تركنا أبا الأضياف في ليلة الصَّبا        بمرٍّ ومِردى كل خصم يجادله
             بينما مطلع قصيدة بنت الطثرية:
أرى الأثل من وادي العقيق مجاوري       مقيماً وقد غالت يزيد غوائله
      وقد بلغت في رواية ابي علي ستة عشر بيتاً ساقها في الجزء الثاني ص 86-87.
      وأبو علي أشار أشار إلى أن بعضاً من أبيات القصيدتين قد تداخلت بينهما ولكنه لم يورد البيت في قصيدة العجير التي  
      أوردها بسنده.

الجمعة، 16 نوفمبر 2012

حكمة العامّة في التفريق بين كلمتي العَرُوس والعَرِيس:

حكمة العامّة في التفريق بين كلمتي العَرُوس والعَرِيس 

كلمة "العَرُوس" في العربية وصفٌ يستوي فيه الرجل والمرأة، وفي "الصحاح": العَرُوس المرأة والرجل ما داما في إعراسهما. ويقال: رجل عَرُوسٌ ورجال أعراس وعُرُس، وامرأة عَرُوس في نسوة عَرائس، هذا مذهب العرب فيهما.

ثم شاع في لغة المعاصرين التفريق بينهما، فيجعلون العريس للرجل والعروس للمرأة، ربما فرّقوا بينهما دفعا للبس في وصفٍ يستوي في بنيته الصرفية الرجل والمرأة، دون تأنيث لوصف المؤنث، وفي هذا حكمة لغوية تستحق النظر.

     فهل أخطأت العامّة حين فرّقت بينهما؟ وهل خالفت سنن كلام العرب في التصريف؟ أما التفريق فنهج للعرب في عامّة كلامهم، وأما التصريف فليس ثمة مخالفة؛ لإنّ كلمة (عَرِيس) مشتقة من العُرْس، وهي على صيغة (فَعِيل) فإن كانوا أرادوا أصل الصيغة، فإنهم يوافقون ما جاء في اللغة على فَعِيل وصفا للرجل، ففيها: رجل لبيبٌ، ورجل جَديدٌ أي حظيظ، وشديدٌ، وزَرِيرٌ أي خفيف، وضريرٌ، وشقيقٌ، وركيكٌ؛ أي: ضعيف، وهو حليلُ فلانة، أي زوجها، والولد سَليلُ أبيه، وهو في صَمِيمُ قومه، والجنينُ الولد ما دام في بطن أمّه، وفلان ضَنِينٌ؛ أي: بخيل، ورجل مَنِينٌ؛ أي: ضعيف.

     وحين الموازنة بين (فعيل) و(فعول) في نعت الرجل نجد أن فَعِيلا أكثر، كما يظهر ذلك جليا في معجم (ديوان الأدب) للفارابي، المصنّف على الأبنية.

    ويمكن لنا أن نتأول العريس بمعنى المعرِس، من باب فعيل بمعنى مُفعِل، ففي الصحاح: أَعْرَسَ فلان، أي اتَّخذ عُرْساً، وأَعْرَسَ بأهله، إذا بنى بها. قلت: فكأنّ عريسا بمعنى مُعرس من أعرس، فهو فعيل بمعنى مُفعِل، مثل البديع بمعنى المُبدِع، والعزيز بمعنى المُعزّ، وعذاب أليم بمعنى مؤلم، والعجيب بمعنى المُعجب، والحريق بمعنى المُحرِق، والحكيم بمعنى المُحكِم، والبصير بمعنى المُبصِر، والسميع بمعنى المُسمِع، والغويّ بمعنى المُغوي، والحسيب بمعنى المُحسِب، والنذير بمعنى المُنذِر، والصريخ بمعنى المُصرِخ.. إلخ.. وهو سماعي لا ينقاس، لكن العامة قاسته في "العريس" وصاغته من أعرس الرجل، فكأنَّ العَرِيس عندهم بمعنى المُعْرِس، ويرجح هذا أنّهم يقولون أحيانًا: المُعرِس.

وأرى أنّ العامّة وُفّقت في ذلك وأحسنتْ صنعًا، لأنها أزالت اللبس الواقع في كلمة عروس للرجل والمرأة، ومن أصول اللغة الوضوح والبعد عن اللبس، فحين تقول على هذا المعنى: العَروس في قاعة الزفاف، يعلم أّنك لا تقصد الرجل، بل المرأة، فإن أردت الرجل قلت: العَريس في قاعة الزفاف، وقد تلمّس محمد العدناني شيئًا من هذا، فقال في معجم الأخطاء الشائعة: ((وأنا أقترح - دفعا للالتباس - أن نُجاري العامة، فنقول:  "في السيارة عريسٌ" إذا كان فيها الرجل، أو "عروسةٌ" إذا كانت فيها المرأة، أما عندما لا نخشى حدوث اللبس فنقول: جاء العروسان، أو سافرت العروس، أو أقبل العروس فما  رأي مجامعنا في هذا الاقتراح؟)).

وحين نتأمل حال الكلمتين: عروس وعريس لا نرى للأولى مزية ترفعها عن الثانية سوى أنها قيلت في زمن الاحتجاج، أما كلمة عريس فامتازت بأنها أزالت اللبس دون حاجة للسياق، وليس فيها ما يشوبها في أصواتها وبنيتها الصرفية، فهي مثل غيرها مما جاء على وزن فعيل بمعنى مُفعِل، أو فعيل على الأصل، ولا تنحطّ عريسٌ عن عروس لكونها مولدة، ورب لفظ مولد أحلى وألذّ من لفظ جاهلي!

وليس للغوي أن يرد كلمة شاعتْ ولم تخالف مقاييس اللغة بحجّة أنّها لم تُسمع في زمن الاحتجاج، وليس لنا أنْ نحجر على اللغة ونمنعها من التطور، وإن أردنا منعها فلن نستطيع؛ لأنّ ذلك يخالف نواميس الله في اللغات، فاللغة تمارس حياتها بالنمو والتطور، شئنا أم أبينا، وقد مارست ذلك لغتنا في جميع مراحلها، وهذا من أسرار عظمتها، أما نحن العرب الأواخر فلن نسجن أنفسنا في حظيرة الألفاظ الجاهلية، فحين نجد لفظا متداولا شائعًا جاريًا على سنن كلام العرب في أصواتها وأبنية ألفاظها، فإننا نقبله وندوّنه في معاجمنا، وقد أحسن المعجم الوسيط صنعا، حين قبل كلمة ((العريس)) وأدخلها في المعجم، ولا بأس أنْ نصفها بأنّها محدثة أو مولدة، تمييزًا لها عن القديم وليس ذماً لها.

عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة 2/ 1/ 1434هـ 

الأربعاء، 14 نوفمبر 2012

تأصيل كلمة " بقعاء "



تأصيل كلمة بقعاء:
"بقعاء" كلمة وصفية غلبت على أصلها الموصوف بها. وهي وصف مبالغ لكلمة "باقعة" المرادفة للداهية، فيقولون باقعة بقعاء مثلما يقولون داهية دهياء.
يقول ابن سيده: البقعاء التي اختلط بياضها وسوادها ، فلا يدرى أيهما أكثر. وغراب أبقع يخالط سواده بياض وهو أخبثها، وبه يضرب المثل لكل خبيث.
ثم يقول: وبقعتهم الداهية: أصابتهم. ورجل باقعة: ذو دهْيٍ.
وفي القاموس المحيط: البقعاء السنة المجدبة والقحط.
وحينما تداولها العامة بإحلال الصفة مكان الموصوف، وهذا كثير في موروث العرب، فأصبحوا يدعون على عدوهم بالبقعاء، فإنما عنوا بذلك الفقر المدقع الناجم عن الدهور المتعاقبة والمحول المتتالية ليستقر لهم الأمر على إطلاقها على الدنيا المدبرة لا المقبلة.

صالح بن إبراهيم العوض.
الرس.1433/12/29هـ.

الأحد، 11 نوفمبر 2012

القرار السابع: تعريب (فرن المكرويف):

القرار المجمعي السابع: 
يقرر مجمع اللغة الافتراضي بعد المناقشة والتصويت أن تعريب "فرن المكرويف" هو "الفرن الموجي".. ويأمل نشره وتداوله.

الأحد 26م/ 12 /1433هـ الموافق 11 / 11/ 2012م

الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

تعريب المكرويف إلى "الصيخود"




الصيخود والصيخاد:
جذر هذه الكلمة هو "ص خ د".
تكاد تجمع المعاجم العربية والقواميس على أن هذه الدلالة تحمل معنى شدة الحر وغليان الهواجر.
فالخليل بن أحمد وابن دريد والأزهري والصاحب ابن عباد والجوهري وابن سيده؛ وهم من أوائل المهتمين بلغة العرب؛ فعُنُوا بها جمعاً وتوثيقاً وتدويناً وضبطاً، أجمعوا بلا خلاف على أن هذا الجذر يحمل هذه الدلالة لدى كل العرب دون استثناء. وبأقوالهم تأتي مؤلفات لاحقيهم كالزمخشري وابن منظور والفيروز آبادي والزبيدي ليصبحوا عالة عليهم فينقلوا عنهم، رحمهم الله جميعاً.
ومن تصاريفه تتسع دائرة المعاني ليصبح مسمى للشمس فيطلقون على عينها "الصيخد".
يقول ابن دريد في جمهرة اللغة: صَخِدَ يومُنا يصْخَدُ صَخَداً وصَخَدَاناً؛ إذا اشتد حره. ويوم صاخد بين الصخد والصخدان.
وصخدته الشمس، إذا آلمت دماغَه تصخد صخْداً وصخَداً.
وصخرة صيخود: صماء صلبة.
والمصاخد الهواجر، الواحدة مَصْخَدَة، وهي الصواخد.
ويقول الصاحب ابن عباد في المحيط: حر صاخد وصيخد وصخيد: شديد. ويوم صخدان شديد الحر.
والصيخد: عين الشمس. والحرباء تصطخد: إذا تُصَلَّى بحَرِّ الشمس. وتقول: أصخدنا: كقولك أظهرنا. وهاجرة صيخود.
والصيخود: الصخرة الملساء الصلبة وكذلك الصيخاد والصيخدة.
وتتضح بجلاءٍ أكثر لدى ابن سيده في كتابه المحكم فيقول:
والصيخد: عين الشمس.
والإصخاد والصخدان: شدة الحر.
وقد صخِد يومنا يصخد صخداناً وصخِد صَخَداً فهو صاخد، وصيخود وصيخد وصَخَدان وصُخْدان؛ وليلة صَخْدانة.
وصَخَدَته الشمسُ صخْداً: أصابته فحميت عليه. وزاد ابن منظور: "وأحرقته"وبها قال الفيروزآبادي وربما يكون أخذها منه.
والصاخدة الهاجرة. وهاجرة صيخود: متقدة.
ويقول ابن منظور في إضافة داعمة للمعنى المراد: وقيل: صخرة صيخود وهي الصلبة الشديدة التي يشتد حرها إذا حميت عليها الشمس.
وحول هذا القصد تحوم معاني الكلمة لتدلنا على أن الصيخود وصف معنوي لموصوف يستمد حرارته من مزود يمنحه الاتقاد ليصلى ما حوله وهذا ما يتصف به المخترع الحديث الذي يطلق عليه في لغته الأم: " Microwaveميكرويف" وألفه الناس باسمه الأعجمي وبالبحث وجدت وصفه تاماً متماً فرأيت تعريبه لينتقل اللفظ من وصف مشاع إلى عين مخصص فنمنح لفظة:"صَيْخُوْدٍ" للـ"مكرويف" لنضيف إلى المصطلحات العربية لفظاً جديداً ذا معنى مراد وهو:
صيخود: آلة لتسخين بعض الأطعمة بطريقة الحرارة الموجية المستمدة من مغذٍّ خارجي هو الطاقة الكهربية.
وبهذا فهو يشبه الصخرة الملساء التي تستمد طاقتها الحرارية من الشمس فتتقد وتحرق ما يقع عليها مثلما يعمل ذلك الجهاز.
وقد تأتي الكلمة في كلام العرب بالوصف نفسه على "صيهود" بإبدال الخاء هاء.
صالح بن إبراهيم العوض.
الرس.الجمعة 17/12/1433هـ .

الخميس، 1 نوفمبر 2012

المفاهيم الأساسية للنظرية الخليلية الحديثة


بسم الله الرحمن الرحيم

     هذا بحث نفيس شرح فيه الدكتور محمد صاري النظرية الخليلية الحديثة أحببت أن أقدمه لكم في هذه المدونة المباركة:
      ومن أراد تحميل البحث :  فهذا رابطه


المفاهيم الأساسية للنظرية الخليلية الحديثة
                                                                     د/ محمد صاري
                                                                     قسم اللغة العربية وآدابها
                                                                     جامعة عنابة
مقدمة :
        تهدف هذه الدراسة إلى تعريف الباحث العربي في علوم اللسان بالأهمية التي تكتسيها نظرية النحاة العرب، لا من حيث إنها ما تزال ذات قيمة كبيرة من الناحية العلمية والنظرية، بل من حيث إنها يمكن أن تستثمر مفاهيمها في الميادين التطبيقية لحل مشكلات لغوية وتربوية تعترض سبيل ترقية استعمال اللغة العربية في المجالات الحيوية.
        والدراسة عبارة عن قراءة جديدة للتراث النحوي مقارنة بالنزعات والطروحات الحديثة في العالم العربي. كما تعد امتدادا منتقى للآراء والنظريات التي أثبتها النحاة العرب الأولون، وبخاصة "الخليل بن أحمد". فهي في الواقع نظرية ثانية Métathéorie لأنها في الوقت نفسه تنظير وبحث في الأسس النظرية الخليلية الأولى.
        واهتمامي بهذه النظرية نابع مما تميزت به أفكارها من أصالة وتجديد، إذ يرجع لها الفضل في :
- تنبيه الباحثين لضرورة الاهتمام بشخصيات علمية فذة في تاريخ الفكر اللغوي العربي.
- اقتراحها لمصطلحات جديدة وإحياؤها لمصطلحات أصيلة.
- تفسيرها العميق لكثير من المفاهيم النحوية والبلاغية التي استغلق فهمها على كثير من الدارسين.
- مساهمتها في التعريف بالتراث الأصيل وإحيائه وتسهيل الاطلاع عليه.
- تنبيه الباحثين الذين اشتغلوا بموضوع تيسير القواعد النحوية إلى ضرورة التمييز الحاسم
بين النظرية النحوية العربية القديمة وتطبيقاتها التربوية.
- إثبات أن المفاهيم والمبادئ التي قامت عليها النظرية اللغوية العربية القديمة، ليست غريبة، ولا هي ملفقة أو دخيلة على الدرس اللغوي كما يزعم المفتونون بالمناهج الغربية الحديثة.


2 - المفاهيم الأساسية للنظرية الخليلية :
        اتجهت النظرية الخليلية الحديثة إلى إعادة قراءة التراث اللغوي العربي الأصيل، والبحث عن خباياه، لا حبّا للقديم في ذاته، ولا محافظة من أجل المحافظة، ولكن بغية التنبيه إلى الطفرة التلقائية المفاجئة التي أحدثها "سيبويه" وشيوخه وتلاميذه في تاريخ علوم اللسان البشري بعد أن تحامل عليهم كثير من الدارسين الذي تأثروا بالمناهج الغربية الحديثة.
        لقد سعت النظرية الخليلية منذ ظهورها إلى بعث الجديد عبر إحياء المكتسب فتجاوزت مرحلة الاقتباس السلبي عند نقلها عن الغرب، أو عند نشرها عن العرب. وتنطلق هذه النظرية قي قراءتها للتراث وتأصيل أفكاره من منطلقين أساسيين هما:
        1 - لا يفسر التراث إلا التراث، فكتاب "سيبويه" لا يفسره إلا كتاب "سيبويه". ومن الخطأ أن نُسقط على التراث مفاهيم وتصورات دخيلة تتجاهل خصوصياته النوعية.
        2 - أن التراث العربي في العلوم الإنسانية عامة واللغوية خاصة ليس طبقة واحدة من حيث الأصالة والإبداع، فهناك تراث وتراث!
        فالتراث الذي تعلقت به النزعة الخليلية الحديثة هو التراث العلمي اللغوي الأصيل الذي تركه أولئك العلماء المبدعون الذين عاشوا في زمان الفصاحة اللغوية الأولى، وشافهوا فصحاء العرب، وقاموا بالتحريات الواسعة النطاق للحصول على أكبر مدونة لغوية شاهدها تاريخ العلوم اللسانية. وأما الذين جاؤوا من بعدهم فكانوا عالة عليهم، إذ ضيقوا حدود النحو الواسعة، واستبدلوا مفاهيم القدماء الإجرائية النشطة بمفاهيم أخرى جامدة تأملية،  مع بقاء نفس الألفاظ التي تدل عليها في الغالب.
        لقد اعتمد العلماء العرب، ورائدهم في ذلك الخليل، في تحليلهم للظاهرة اللغوية عددا من المفاهيم والمبادئ اللغوية التي سيكون لها دور عظيم في تفسير العلاقات المعقدة المجردة الكامنة وراء اللغة، ومن ثمة في تطوير معلوماتنا حول الظواهر اللغوية. ومن الغريب جدا - كما يقول الدكتور الحاج صالح  أن تكون هذه الأعمال التي لا تضاهيها إلا ما أبدعه العلماء الغربيون في أحدث أعمالهم، مجهولة تماما في كنهها وجوهرها عند كثير من الدارسين والاختصاصيين المعاصرين، ومن أهم هذه المبادئ نذكر المفاهيم الآتية:

2 - 1 - مفهوم الاستقامة :
        يميز "سيبويه" في الكتاب بين السلامة الراجعة إلى اللفظ، والسلامة الخاصة بالمعنى، كما يميّز أيضا بين السلامة التي يقتضيها القياس (أي النظام العام الذي يميز لغة من لغة أخرى) والسلامة التي يفرضها الاستعمال الحقيقي للناطقين، وذلك في قوله في باب "الاستقامة من الكلام والإحالة" : »فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب، فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمس، وسآتيك غدا، وأما المحال فأن تنقض أول كلامك بآخره فتقول: أتيتك غدا، وسآتيك أمس. وأما المستقيم الكذب فقولك: حَمَلْتُ الجَبَل، وشربتُ ماء البحر ونحوه، وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه نحو قولك: قد زيدا رأيت، وكي زيدٌ يأتيك وأشباه هذا. وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس «.
        فواضح من هذا الكلام أن "سيبويه" يحدد مفهوم السلامة وعلاقتها باللفظ والمعنى من ناحية، والقياس والاستعمال من ناحية أخرى. فهناك المستقيم الحسن، والمستقيم القبيح، والمستقيم المحال، ويمكن صياغة هذه المعاني بشكل آخر أكثر وضوحا :
- فالمستقيم الحسن = السليم في القياس والاستعمال جميعا.
- والمستقيم القبيح = السليم في القياس وغير السليم في الاستعمال.
- وأما المستقيم المحال = سليم في القياس والاستعمال، غير سليم من حيث المعنى.
        ومن ثم جاء التمييز المطلق بين اللفظ والمعنى، ومعنى ذلك أن اللفظ إذا حدد أو فسّر باللجوء إلى اعتبارات تخص المعنى فالتحليل هو تحليل معنوي، أما إذا حصل التحديد والتفسير على اللفظ دون أي اعتبار للمعنى فهو تحليل نحوي، والخلط بينهما - كما يقول الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح - يعتبر خطأ وتقصيرا »وقد بنى على ذلك النحاة أن اللفظ هو الأول، لأن هو المتبادر إلى الذهن أولا ثم يفهم منه المعنى، ويترتب على ذلك أن الانطلاق في التحليل يجب أن يكون من اللفظ في أبسط أحواله وهو الانفراد«.

2 - 2 - مفهوم الانفراد :
        ينطلق النحاة الأوائل في تحليلهم للغة من "الاسم المفرد" باعتباره النواة أو الأصل الذي تفرع عنه أشياء أخرى. وقد أطلق "الخليل" على هذا المفهوم مصطلح "الاسم المظهر (¹ المضمر)، كما أطلق عليه "ابن يعيش" و"الرضي الإسترباذي" مصطلح اللفظة.
        واللفظة في اللسانيات الخليلية عمادها الوقف والابتداء، فهي أقل ما يُنطقُ به مما ينفصل فيُسكت عنده ولا يلحق به شيء. أو يَبْتَدِئ فلا يسبقه شيء. فما ينفرد وينطلق، أو ما ينفصل ويبتدئ هو صفة الانفراد. ومما تجدر الإشارة إليه، أن كل وحدة لغوية قابلة للانفصال عما قبلها أو ما بعدها من الوحدات؛ بمعنى أن كل وحدة لغوية يمكن الابتداء بها والوقوف عليها حسب موقعها في الكلام.
        فمن الألفاظ ما ينفصل ويبتدئ مثل: "الرئيس" في نحو قولنا: "جاء الرئيس" و"الرئيس جاء". ومنها ما ينفصل ولا يبتدئ مثل ضمير "تاء الفاعل" و"نا المضاف إليه في نحو قولنا: "خَرَجْتُ" و"كتابُنا". ومنها ما يبتدئ ولا ينفصل مثل حرف الجر في نحو قولنا: "في التأني السلامة".
        ويحمل النحاة "اللفظة" على غيرها من المثل والنماذج فتفرع إلى لفظات هي نظائر للنواة، ولكنها أوسع منها، من خلال تعاقب زيادات قبلية وبعدية عليها دون أن تفقد وحدتها أو تنفرد فيها أجزاؤها، فلا تخرج عن كونها لفظة (أي قطعة واحدة). وسمى النحاة هذه القابلية للزيادة يمينا ويسارا "التمكن" ولاحظوا أن لهذا التمكن درجات تترتب كالآتي:

        أ - المتمكن الأمكن، الذي يحمل معناه بداخله ولا يحتاج إلى غيره، ويتمثل في اسم الجنس المنصرف كرجل وفرس وشجرة.
        ب - المتمكن غير الأمكن، ويتمثل في الممنوع من الصرف.
        جـ - غير المتمكن ولا أمكن، ويتمثل في الاسم المبني.
وانطلاقا من التصور السابق لمفهوم اللفظة يحدد د/ عبد الرحمن الحاج صالح اللفظة الاسمية تحديدا إجرائيا كما يلي:


يتبين لنا من خلال التحديد الإجرائي السابق للاسم ما يلي:
 أ - أن التحويل بالزيادة والتعاقب هو الذي يحدد الوحدات في النظرية الخليلية.
ب - أن كل الوحدات المحمولة بعضها على بعض بعمليات التحويل هي نظائر للنواة من حيث إنها وحدات تنفرد أولا ومتفرعة عنها بالزيادة ثانيا.
ج - أن الوحدات المحمولة بعضها على بعض تكوّن مجموعة ذات بنية تسمى في الاصطلاح الرياضي بالزمرة (structure de groupe).
وهنا نشير أن العلاج الآلي للنصوص يستلزم مثل هذه الصياغات الرياضية التي تكون على شكل خوارزمات (Algorithmes).

2 - 3 - مفهوم الكلمة واللفظة :
                كما سبق وأن أشرنا، أن النحاة الأوائل انطلقوا في تحليلهم للغة من مستوى اللفظة باعتبارها أصغر وحدة من الكلام مما يمكن أن ينفصل ويبتدئ، وهي أقل ما يمكن أن ينطق به مما يصلح أن يكون مبنيا على اسم أو فعل، أو مبنيا عليه اسم آخر أو فعل. وبناء على هذا المفهوم فإن العبارات التالية: رجل، الرجل، مع الرجل، رجل الغد، رجل قام أبوه أمس، الرجل الذي قام أبوه أمس... كل واحدة منها بمنزلة اسم واحد أي "لفظة" بتعبير "الرضي" لا كلمة.
        ولقد عَرَفَ "سيبويه" هذه الوحدة وعبَّر عنها في أماكن عديدة من "الكتاب" بعبارة "كالاسم الواحد" أو "بمنزلة الاسم الواحد"، ومن ذلك مثلا قوله عندما تعرض لموضوع النعت : »فأما النعت الذي جرى مع المنعوت فقولك: مررت برجلٍ ظريفٍ قبلُ، فصار النعت مجرورا مثل المجرور لأنهما كالاسم الواحد«.
        أما الكلمة عند النحاة الأوائل فهي أدنى عنصر تتركب منه "اللفظة"،  إذ تحدد بالموضع الذي تظهر فيه في داخل المثال (الحد). وعلى هذا فالكلمة كاصطلاح نحوي ليست دائما مورفيما أقل ما ينطق به مما يدل على معنى بل هي العنصر الدال الذي يمكن أن يحذف من (اللفظة) دون أي ضرر أو تغيير للعبارة، كالحذف لحرف الجر من لفظة "بالرجل". فخروجه لا يسبب تلاشي الاسم.
        أما العنصر الدال الذي إذا حُذِفَ أو استبدل بشيء آخر أدى إلى تلاشي العبارة التي يدخل فيها "كالنون" في "نَذْهَبُ" و"التاء" في "افْتَعَلَ"، فهذه مورفيمات وليست كلما، لأنها عناصر من مكونات الكلمة، فهي داخلة في صيغتها وليس لها الاستقلال النوعي الذي للكلم.

2 - 4 - مفهوم الموضع والعلامة العدمية :
                إن المواضع التي تتعاقب عليها الكلم، وتترتب فيها مع النواة (أي الاسم المفرد)، بعمليات الوصل (simple concaténation)، هي خانات تحدد بالزيادة التدريجية، إذ تمثل هذه الزيادات التحويلات التفريعية التي يتم من خلالها الانتقال من الأصل إلى مختلف الفروع أو العكس (ردّ الفروع إلى أصلها)، وعلى الرغم من الاختلاف الموجود، من حيث الطول والقصر بين العبارات التي تظهر بالتحويل التفريعي في داخل المثال المولد للفظة (schème générateur)؛ (رجل، الرجل، بالرجل، رجل الغد، رجل قام أبوه أمس..الخ.) إلا أنها تُعدُّ عبارات متكافئة باصطلاح الرياضيات، ولا يخرجها ذلك عن كونها لفظة. وبهذه العمليات التحويلية الخليلية يتحدد موضع كل عنصر في داخل المثال، كما في الرسم التالي :




وللإشارة فإن المواضع التي هي حول النواة الاسمية يمينا ويسارا تدخلها الزوائد (العناصر اللغوية)، وتخرج منها بعمليات الوصل، وقد تكون فارغة، أي خالية من العنصر لأن الموضع شيء وما يحتوي عليه شيء آخر. وهذا الخلو من العنصر مع بقاء أو ثبات الموضع هو ترك للعلامة وخلو منها. ويطلق د/ عبد الرحمن الحاج صالح على هذا المفهوم العلامة العدمية (Expression zéro وتختفي هذه العلامة في موضع لمقابلتها لعلامة ظاهرة في موضع آخر، فعلامة التذكير العدمية تقابلها علامة ظاهرة في المؤنث (عالم – عالمة). وعلامة المفرد العدمية تقابلها علامة ظاهرة في التثنية والجمع. وعلامة الابتداء العدمية (التجرد من العوامل) تقابلها علامات لفظية ظاهرة. وتنطبق العلامة العدمية أيضا على التقابل بين الحروف الصوتية، كعدم غنّة الباء في مقابل غنّة الميم وكلاهما له مخرج واحد.
        إن هذه الطريقة في تحليل الكلام، واكتشاف البنية الجامعة للكمية الكبيرة من الأنحاء، قد بناها النحاة الأولون على عدد من المفاهيم والتصورات، وعدد من الأساليب في علاج الكلام، فالنحاة العرب كما يقول د/ عبد الرحمن الحاج صالح ينطلقون من اللفظ في ظاهره، ولكن لا يتناولون الكلام جملة جملة، وقطعة بعد قطعة، فيقابلوا بينها لإظهار الفوارق من حيث صفاتها الذاتية كما هو الشأن عند البنويين (الانطلاق في التحليل من ظاهر الكلام فقط)، بل يحملون هذا النحو على ذاك حتى يظهر الترتيب والنظم (لا الصفات الذاتية فقط). وعليه فإن مفهوم الموضع، وكذلك المثال لا يوجد مثلهما في اللسانيات الغربية إطلاقا، وهو أعظم فارق يفترق فيه النحو العربي عن اللسانيات الغربية الحديثة.

2 - 5 - مفهوم الأصل والفرع :
                مما لا شك فيه أن المفهوم الذي ينبني عليه لا النحو العربي فحسب، بل علوم العربية كلها هو مفهوم الأصل والفرع. وقد جعل "الخليل" و"سيبويه" النظام اللغوي كله أصولا وفروعا، والفرع هو الأصل مع زيادة، أي مع شيء من التحويل، ويحصل ذلك بتفريع بعض العبارات عن عبارات أخرى تعتبر أبسط منها وبالتالي أصولا لها. ويبين ذلك النحاة العرب باللجوء إلى منهج علمي هو ما يسمونه حمل الشيء على الشيء أو إجرائه عليه بغية اكتشاف الجامع الذي يجمعها، وهو البنية التي تجمع بين الأنواع الكثيرة من الجمل، كما توضحها المتتاليات من الجمل التي أوردها سيبويه في كتابه:
-       مررت برجلٍ راكبٍ وذاهبٍ.
-       مررت برجلٍ راكبٍ فذاهبٍ.
-       مررت برجلٍ راكبٍ ثم ذاهبٍ.
-       مررت برجلٍ راكعٍ أو ساجدٍ (بمنزلة إما وإما...).
-       مررت برجلٍ راكعٍ لا ساجد (إما غلط فاستدرك وإما نسي فتذكر)...الخ.
 وينطلقون في ذلك من أبسطها وهي التي تتكون من عنصرين؛ "زيد منطلق"، فيحملون عليها جملا أخرى تكون فيها زيادة بالنسبة إلى الجملة البسيطة، بحيث تظهر بذلك كيفية تحوّل النواة بالزوائد، وهي في الحقيقة مقارنة بنوية أساسها تطبيق مجموعة على مجموعات أخرى طردا وعكسا. فالمذكر مثلا أصل والمؤنث فرع، والمفرد أصل والمثنى والجمع فرع عليه، والمكبّر أصل والمصغّر فرع عليه، والجملة المبنية للفاعل أصل للجملة المبنية للمفعول. وقد اعتبر "شومسكي" الجملة المبنية للفاعل نواة ومنطلقا للتفريع.
        والأصل عند الأئمة النحاة هو ما بُني عليه ولم يبن على غيره، ولا يحتاج إلى علامة ليتميز بها عن فروعه فله العلامة العدمية  Æ (Marque zéro).
        والنحو العربي العلمي، لا التعليمي أو الفلسفي، هو مجموع المثل والقواعد التي يمكن أن تفرع بها وعليها جميع الإمكانات التعبيرية الخاصة بالوضع العربي. فهذا الجانب الديناميكي للغة تجهله اللسانيات البنوية التقليدية لأنها تركز كل اهتمامها على تشخيص الوحدات في ذاتها وبالاعتماد على تقابل الصفات الذاتية التي تميزها عن غيرها.

2 - 6 - مفهوم الحركة :
                مفهوم غامض في أذهان كثير من المستشرقين واللغويين العرب الذين لم يتجردوا بعد من التصورات التي ورثها الغربيون عن الحضارة اليونانية. ووجه الغموض في هذا المفهوم راجع إلى عدم تمييز هؤلاء بين الحركة كصوت مسموع (أي مصوت=voyelle) لا يقوم مقام الحرف ولكنه من جنسه، ولذلك سميت حروفا صغيرة، والحركة التي تمكن من إخراج الحرف ووصله بغيره، والخروج منه إلى حرف آخر. وهذا هو المفهوم الذي يقصده القدماء من الحركة. قال الرماني في شرحه لكتاب "سيبويه" : »الحركة تمكن من إخراج الحرف، والسكون لا يمكن من ذلك« وقال أيضا : »وإذا تحرك الحرف اقتضى الخروج منه إلى حرف آخر«، ومعنى ذلك أن الحرف لا يحدث إلا في مدرج صوتي، أي في سياق متسلسل.
        وقال ابن جني : »... لأن أصل الإدراج للمتحرك إذْ كانت الحركة سببا له وعونا عليه«. وعلى هذا الأساس، فإن الحركة عند العلماء الأوائل هي الدفعة والنقلة العضوية والهوائية التي تهيئ المتكلم لما بعدها، إذ يحتاج إليها للانتقال من مخرج حرف إلى مخرج حرف آخر، وكذلك من كلمة إلى كلمة أخرى. فهي إطلاق بعد حبس، عكس السكون الذي هو وقف لا يستلزم الانتقال إلى حرف آخر.

2 - 7 - مفهوم العامل :
                يعد العامل، أو العمل النحوي الفكرة الجوهرية التي تتأسس عليها نظرية النحاة العرب، ويعني القدماء بالعامل العنصر اللغوي الذي يؤثر لفظا ومعنى على غيره كجميع الأفعال العربية وما يقوم مقامها، فهو معقول من منقول. فكل حركة من الحركات الإعرابية التي تظهر على أواخر الكلم، وكذلك كل تغيير يحدث في المبنى والمعنى إنما يجيء تبعا لعامل في التركيب، فلا نجد معمولا إلا وتصور له العلماء الأوائل عنصرا لفظيا أو معنويا هاما هو العامل الذي يكوِّن مع معموله زوجا مرتبا (couple ordonné). وههنا ينطلق النحاة من العمليات الحملية الإجرائية (حمل الشيء على الشيء) فيحملون مثلا أقل الكلام مما هو أكثر من لفظة وينطلقون من الجملة التي تتكون من عنصرين، كما سبق وأن أشرنا، نحو : زيد منطلق، ثم يشرعون في تحويلها بالزيادة مع إبقاء النواة (كما فعلوا باللفظة) للبحث عن العناصر المتكافئة، أي البنية التي تجمع وتشترك فيها الأنواع الكثيرة بل اللاّمتناهية من الجمل.
هذا ويصرح "سيبويه" في "الكتاب" أن عنصرين اثنين لا تكاد تخلو منهما أبدا البنية اللفظية للجملة، وهما العامل والمعمول الأول.
        وتجدر الإشارة أن موضع العامل ليس له مكان معين في مدرج الكلام، بل هو موضع في داخل المثال أو الحد. فالعامل شيء، ومحتواه شيء آخر (كما أن الموضع شيء، وما يدخله من الزوائد شيء آخر). فقد يكون في موضع العامل "فعل تام" أو "فعل ناسخ" أو "إن وأخواتها" أو تركيب آخر كما في المصفوفة التركيبية الآتية :

نستنتج من خلال هذا الجدول الحملي ما يلي :
 أ أن النظرية النحوية العربية القديمة تنطلق من العمليات الحملية ، فيجري النحاة تحويلات بالزيادة على النواة (أقل الكلام) كما فعلوا باللفظة للكشف عن العناصر المتكافئة داخل المصفوفة (الزمرة).
ب أن العامل أو المعمول الأول شيء، ومحتواه شيء آخر، ففي العمود الأول يدخل عنصر قد يكون كلمة أو لفظة أو تركيبا وله تأثير على بقية البناء، لذلك سمي عاملا.
ج إثبات قانون مهم وهو امتناع تقديم المعمول  الأول على عامله، إذ إن عبارة "سيبويه": » أول ما تشغّل به الفعل «تستلزم كما يقول د/ عبد الرحمن الحاج صالح شيئا آخر وهو استحالة تقدم المعمول الأول على عامله مهما كان، فإذا تقدم تغيّرت بنية الجملة دون معناها الوضعي.
 د جواز التقديم والتأخير ما عدا المعمول الأول بالنسبة إلى عامله وفي حدود معينة.
 هـ قد يخلو موضع العامل من العنصر المشار إليه بالعلامة   Æ ، فهذا هو الذي يسميه النحاة بالابتداء، ومعناه عدم التبعية التركيبية، وليس معناه بداية الجملة كما يعتقد البعض.
        فمفهوم العمل إذن، هو مفهوم إجرائي يمكن أن تفرع عليه وبه جميع الإمكانات التعبيرية الخاصة بالوضع اللغوي العربي. وقد تفطن "شومسكي" إلى أهمية هذا المفهوم (العامل النحوي) في المنهج التحويلي على صورة لا تبتعد كثيرا على الصورة التي جاءت في النحو العربي.

2 - 8 - التمييز الواضح بين الكلام كبنية والكلام كخطاب :
لم يقتصر الفكر النحوي الخليلي في تحليلاته للغة وتفسير ظواهرها على الجوانب الشكلية (اللفظية) فحسب، بل تجاوز ذلك إلى الجوانب الوظيفية الإبلاغية، فتحدث النحاة عن الكلام الذي تحصل به الفائدة، وعن معاني النحو وما يتيحه لصاحب الخطاب من طرق متنوعة للتعبير عن المعاني المقصودة. فمادة الدراسة النحوية عندهم هي الحديث (لا الحكم) من حيث هو تبادل لفظي ذو فائدة، يتم بين قطبين أساسيين هما المتحدث والمتحدث إليه. ولقد ربط "سيبويه" والنحاة الأوائل، عند وصفهم للغة، بين كل ظاهرة من الظواهر الصرفية والنحوية (الإفرادية والتركيبية) بما يمكن أن تؤديه من معنى، لا من حيث اللغة، ولكن من حيث البلاغة والفائدة. وأوضح دليل على ذلك هو اهتمامهم (أي النحاة) بمفهوم الجملة، وتمييزهم الصريح والحاسم بين الكلام كبنية والكلام كخطاب.
        ومن الجوانب التي اهتمت بها النظرية الخليلية الحديثة، تنبيه الباحثين إلى مفهوم الجملة وما يقتضيه التصور العربي لها. إذ يخطئ، في رأيها، من يعتقد أن "الكتاب" الذي اشتمل على أمهات المسائل اللغوية، والذي شهد له العلماء بالنضج والاكتمال، خال من مفهوم الجملة. فخلو الكتاب من المصطلح لا يعني بالضرورة خلوه من المفهوم كما أن خلو كتاب "سوسير" من كلمة بنية لا يعني أبدا إهماله لمفهوم البناء، فاستعماله لمصطلح نظام يتضمن مفهوم البنية.
        حقيقة إن "سيبويه" لم يستعمل مصطلح جملة، ولكن العلماء لاحظوا أنه يسميها كلاما، وإذا دقق القول استعمل مصطلح "الكلام المستغنى" ويقصد به : قطعة الكلام المستقلة لفظا ومعنى، والتي يحسن بالمتكلم أن يسكت عند انتهائها لأنها تشكل وحدة تبليغية يستفيد بها المخاطب علما معينا، فمقياس الجملة المفيدة أو علامتها عند "سيبويه" هو الفائدة (الإفادة).
        ومعلوم أنه لا فائدة إلا إذا كان الكلام تاما، أما الكلم المفردة فلا تتعلق بها الفائدة وإن تعلقت بها الدلالة على معنى مفرد (لفظي). قال الزجاجي :  » الاسم يدل على مسماه ولا يحصل منه فائدة مفردا حتى نقرنه باسم مثله، أو فعل أو جملة، وإلا كان ذكرك له لغوا وهذرا غير مفيد، وكذلك الحرف إذا ذكرته دلَّ على المعنى الموضوع له، ثم لم تكتمل الفائدة بذكرك إياه حتى تقرنه بما تكمل به فائدته، فهو والاسم في هذا سواء، لا فرق بينهما «.
        وعليه فإن لفظة "كلام" كما لاحظ العلماء كافية الدلالة على مفهوم الجملة المفيدة عند "سيبويه". ومن يرجع إلى "الكتاب" يلاحظ أنها تواترت عشرات المرات من خلال العناصر الأساسية لتكونها وهما المسند والمسند إليه، والمبتدأ والمبني عليه.
        وعلى الرغم من ظهور مصطلح "الجملة" في كتاب "المقتضب"   للمبرد   (ت:285هـ) إلا أن لفظة كلام ظلت سائدة تنافس المصطلح الجديد، حيث استعملها بعض اللغويين والنحاة، ومن ذلك مثلا قول ابن جني عند تعريفه للكلام :  « كل لفظ مستقل بنفسه، مفيد لمعناه نحو، زيدٌ أخوك، وقام محمد وصَهْ ومَهْوأفّ  «. وقال "ابن آجروم" في مقدمة "الآجرومية" : » الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع «، وهذا الذي يسميه النحويون جُملة.
        ومن مظاهر الأصالة والإبداع، أيضا، في الفكر النحوي الخليلي هو تمييز القدماء بين جانبين اثنين، عند تحليلهم للغة، ليس بينهما أي تناظر كما يقول د/ عبد الرحمن الحاج صالح، ويتمثل هذان الجانبان في :
1 الجانب اللفظي الصوري الذي يخص اللفظ في ذاته وهيكله وصيغته، أي المعنى الموضوع له بقطع النظر عما يؤديه من وظيفة في الخطاب غير الدلالة الوضعية (دلالة اللفظ).
2 وجانب الخطاب ويتمثل في كيفية استعمال تلك الألفاظ ومدلولاتها في عملية الإفادة، أي الإعلام والمخاطبة وتبليغ الأغراض بين ناطق وسامع في موقف اجتماعي حيّ يُعتبر "المتكلم" جزءا منه إلى جانب السامع والكلام  .
        وأوضح دليل على سلامة هذا التصور، في منظور د/ الحاج صالح، هو عجز النحويين المتفلسفين عن تحديد مفهوم الاسم في مقابل الفعل والحرف، حيث حددوه بتعريفات كثيرة، تأتلف حينا وتختلف أحيانا، ولا يُعلم تعريف سلم من المعارضة والنقد.
        ولكي يضبط تعريف الاسم ضبطا دقيقا، فيسلم تحديده من التناقض يرى بعض اللسانيين أنه لا بد من مراعاة ما يلي :
أولا : تحديد نوع الاسم، هل هو اسم مطلق، أم اسم مضارع للفعل والحرف، وهل هو متمكن تجري عليه حركات الإعراب، أو هو مستحق لها (أي متمكن أمكن أو متمكن غير أمكن)
ثانيا : تحديد الجانب الذي يحدد فيه، هل يحدد في الجانب الوظيفي الدلالي الخاص بالإفادة، أم يحدد في الجانب اللفظي الصوري الخاص بالبنية والهيكل. فالاسم من حيث وظيفته الدلالية والإفادية (أي من حيث دلالته على معنى) "هو لفظ يدل على شيء لا يكون حدثا مع زمان"، ثم هناك "الاسم المطلق" والاسم المضارع للحرف والفعل. "فالاسم المطلق" يدل على ذات أي على كل شيء يصح الإخبار  عنه (بمعنى قابل أن يكون متحدثا عنه).
        أما من الجانب اللفظي الصوري، فالاسم كلمة أو عنصر قابل أو يحتمل دخول الزوائد عليه يمينا وشمالا بحسب درجة تمكنه أو عدم تمكنه إذ يصلح أن تدخل عليه "ال"  وحروف الجر والتنوين والإعراب، ويمكن أن يضاف وأن يوصف والشكل التالي يوضح ذلك :


يتضح من خلال الرسم السابق أن زوائد اللفظة الاسمية تختلف عن زوائد اللفظة الفعلية، فالأولى، كما رأينا، تقبل دخول حروف الجر، والتنوين، والإضافة، والْ التعريف. والثانية قابلة لدخول السين، وسوف، وأدوات النفي، والضمائر المتصلة، وتاء التأنيث، وحركة الإعراب كما في الشكل الآتي :


ويبدو تعمق القدماء في هذه المسألة (اللفظ الدال ومدلولاته الوضعية من جهة، واستعمال اللفظ ومدلولاته في عملية الإفادة) من خلال تحليلهم لوحدات تبدو في الظاهر، ولأول وهلة قطع كلامية غير قابلة لمزيد من التحليل والتفكيك لشدة التحام عناصرها المكونة لها، ومن ذلك مثلا ما استدلّ به "ابن جني" من أصناف الدلالات اللفظية والصناعية والمعنوية لتحليل الكلمة لفظا وصيغة، سواء كانت فعلا أو اسما، ثم تعيين وحداتها الدالة الدنيا في كل منها حيث يقول: » ألا ترى إلى قام ودلالة لفظه على مصدره، ودلالة بنائه على زمانه، ودلالة معناه على فاعله... « ثم يتبع هذه الفكرة بعد انتهائه من شرحها بفكرة أخرى فيقول: » وكذلك اسم الفاعل، نحو قائم وقاعد؛
-        لفظه يفيد الحدث الذي هو القيام والقعود.
-         وصيغته وبناؤه يفيد كونه صاحب الفعل.
وكذلك قَطَّعَ وكَسَّرَ، فنفس اللفظ ههنا يفيد الحدث، وصورته [أي صيغته وبناؤه] تفيد شيئين: أحدهما الماضي، والآخر تكثير الفعل.
كما أن ضَارَبَ يفيد بلفظه الحدث، وببنائه الماضي وكون الفعل من اثنين [أي يدل على المشاركة] وبمعناه على أن له فاعلا «.
نستنتج من هذا التحليل العميق، أن الكلمة، سواء كانت اسما أو فعلا، تشمل وحدات دنيا دالة، هي المادة الأصلية والصورة (أي الوزن والصيغة).
               
فكلمة "مفتاح" مثلا تتكون من:
               مادة (ف.ت.ح) التي تدل على الحدث(المعنى الوضعي)      
              صيغة (مفعال) التي تدل على اسم الآلة.
وكذلك ضَرَبَ، وضَارِب، ومَضْرُوب، تتكون من مادة أصلية هي (ض.ر.ب) التي تدل على الحدث (الضرب) في الوضع اللغوي، ومن أوزان أو صيغ هي:
-        فَعَلَ التي تدل على حدث منقطع.
-         وفَاعِل التي تدل على اسم الفاعل.
-         ومَفْعُول التي تدل على الذي وقع عليه الفعل (اسم المفعول).
وبناء على هذا يمكن القول : إن صيغة (فَعَلَ x ض.ر.ب) غير صيغة             (يفعل x ض.ر.ب) غير صيغة (فاعل x ض.ر.ب)، وأن الكلمة أو اللفظة هي نتيجة لتركيب هاتين الوحدتين، المادة والصيغة كما في الرسم البياني الآتي :
        وتجدر الإشارة أن تمييز النحاة الأوائل بين الجانب اللفظي البنوي وبين الجانب الوظيفي الإبلاغي لم يقتصر على المستوى الإفرادي فحسب، بل تعداه إلى المستوى التركيبي، ليشمل الجملة المفيدة المستغنى عنها  بمصطلح "سيبويه".
        فصيغة الجملة العربية اللفظية، في رأي د/ الحاج صالح، هي سياق من العامل زائد المعمول الأول، يكونان زوجا مرتبا هي اللفظة المبني عليها، التي يبتدئ بها الكلام، ويبنى عليها المعمول الثاني (الذي يشغل موضع اللفظة المبنية). كما يمثلها الرسم الآتي:
وتدخل على هذه النواة زوائد مثل التي تدخل في بنية الكلمة، ويمثل الأستاذ الحاج صالح للعلاقة القائمة بين هذه الوحدات التركيبية (النواة + الزوائد) بهذه الصيغة :
   


ويتبين بهذا الشكل أن العناصر التركيبية هي عناصر خاصة مجردة، كما أن هناك عناصر أخرى أو زوائد (تدخل وتخرج) على النواة التركيبية، وتتمثل في المخصصات كالمفاعيل والحال وغيرها. وللإشارة فإن هذه البنية اللفظية هي التي يعبر عنها النحاة مرة بترتيب اللفظ ومرة بالتغيير الإعرابي.
ويحذر الدكتور الحاج صالح من خطر التخليط في التحليل بين هذه البنية اللفظية (الهيكل البنوي للجملة) وصيغة الخطاب التي تتكون من مسند ومسند إليه (وهما ما لا يستغنى واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدّا)، وإلا لما احتاج النحاة الأوائل إلى تسمية أخرى مثل، المبتدأ و"البني عليه"، ولما احتاجوا إلى تصور عنصر لفظي هام هو العامل وما يتعلق به من معمول.

وعليه، إذا كانت الصيغة الخاصة باللفظ تُوظَّف فيها مصطلحات العامل والمعمول الأول والثاني والفضلة، فإنه يستعمل للحديث عن الصيغة الخاصة بالخطاب المسند والمسند إليه والمخصصات ويظهر هذا التصور بجلاء من خلال حديث النحاة عن الجملة "ذات التركيب المزدوج"، "كالشرط" مثلا، فإنه من الجانب اللفظي، تعدّ "جملة الشرط" أو جملة "جواب الشرط" تامتين تتوفر فيهما الشروط، ولكن من حيث الخطاب والإفادة فهما (كل بمفردها) ناقصتان.
والخلاصة التي نخرج بها من خلال حديثنا عن تمييز النحاة الأوائل بين الكلام كبنية وبين الكلام كخطاب، أن هناك فرقا بين الأوضاع اللغوية الإفرادية والتركيبية (الصرفية والنحوية) وبين ظواهر الاستعمال لهذه الأوضاع، وإن تفسير بنية اللفظ باللجوء إلى اعتبارات تخص الإفادة أو العكس؛ تفسير ظواهر الإفادة والتبليغ بالاعتماد على اعتبارات تخص اللفظ هو غلط فادح، وسبب لأوهام كثيرة كما يقول "د. الحاج صالح"، لأن اللفظ في الوضع اللغوي يدل على معناه الموضوع له وعلى أكثر من معنى (أي أنه متعدد ومتغير ومحتمل خارج السياق)، أما في الخطاب الواحد الخاص فإن المتكلم لا يريد باستعماله إلا معنى واحدا.
وما يمكن استنتاجه من خلال عرضنا للمفاهيم الأساسية للنظرية الخليلية الحديثة هو قيمة "اللفظة" في مجال تحليل النظام اللغوي العربي وتشخيص وحداته، فهي أصغر وحدة في الخطاب أو الحديث، وعلى مستواها يتم اتحاد الوحدة اللفظية بالوحدة الإعلامية (الإفادة)، فهي المستوى المركزي أو المنوال اللساني الذي انطلق منه النحاة الأوائل في التحليل والتفسير إلى مستويات أخرى أكثر أو أقل (من اللفظة)، والجدول الآتي يبين المستويات التي توجد تحتها وفوقها :
وتجدر الإشارة، ههنا، إلى أن الوحدات اللغوية المندرجة في كل مستوى من مستويات التحليل هي نتاج بناء لعناصر ووحدات المستوى الأدنى، تركب على شكل تفريعي إجرائي.
إن لهذا الإقرار "بقيمة اللفظة" في التحليل اللغوي العربي نتائج عظيمة ليس فقط على صعيد التحليل اللساني النظري، بل أيضا على مستوى تطبيقاته التربوية، إذ يمكن أن تستثمر نتائج هذا المفهوم عند اختيار المادة النحوية المراد تعليمها وكذلك عند ترتيبها وتحديد الكيفية التي ينبغي أن تعرض بها على المتعلمين.

الخلاصة :
والخلاصة التي نخرج بها من خلال عرضنا التحليلي للمفاهيم والتصورات الأساسية للنظرية الخليلية، أن النحو عند "سيبويه" وشيوخه وتلاميذه منطق رياضي خاص مستنبط أوضاعا ومقاييس من واقع الاستعمال. فهو ثمرة أصول عديدة تفرعت منها فروعه وفصوله. وإن وجود هذا الأثر المنطقي لدليل على مكانة الجانب العقلي فيه، وهو جانب كان موجودا إلى الجانب النقلي، وقد عاد هذا الجانب ضروريا في البحث اللغوي عند التحويليين، لأنه أداة أصيلة من أدوات بناء العلم، بدونه يتحول علم النحو إلى مجرد جمع وتصنيف.
 وخلافا لما يدّعيه دعاة الإصلاح والتجديد، فإن صعوبة العامل النحوي، قضية مزيفة لا أساس لها من الصحة، ونظرية النحاة الأوائل تتميز بالموضوعية والشمولية والتماسك والاقتصاد، وفكرة العامل ليست مما يغضُّ من شأن النحاة الأوائل، بل هي مما يعلي شأنهم، ويُكبر تفكيرهم، وهي من أخطر النظريات التي سيكون لها دور عظيم في تطوير معلوماتنا حول الظواهر اللغوية، لا سيما وأن لديها قدرة عجيبة وقابلية واسعة للصياغة الرياضية. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا إن اللسانيات الغربية لو انتبه أصحابها إلى نظام العامل في النظرية النحوية العربية القديمة لكانت اللسانيات العامة على غير ما هي عليه، بل لعلها كانت تكون قد أدركت ما لا تدركه إلاّ بعد أمد.