الجمعة، 22 يناير 2016

وزن المندق بين مفعل الظاهر ومنفعل الخفي:

وزن المندق بين مفعل الظاهر ومنفعل الخفيّ

          المندق من محافظات منطقة الباحة، ينطقونها : المَنْدَق بفتح الميم وسكون النون وفتح الدال. فما وزنها؟ وما اشتقاقها؟
            لم يذكر أبو عبيد البكري ولا ياقوت الحمويّ ولا غيرهما من البلدانيين (المندق) فيما اطّلعت عليه من كتبهم، ويحتمل هذا الاسم وجهين في الاشتقاق والوزن:

الوجه الأول: أن وزنه مَفْعَل على ظاهر اللفظ المنطوق عند أهله، واشتقاقه من ندق، وهو جذر مهمل، وبهذا لا نعرف معنى صحيحا لهذا الاسم، إلا أن يقال إن الأسماء لا تعلل، أو يقال إنه من نتق بمعنى جذب، ثم أبدلت التاء دالا، ومَفْعَل معروف في أسماء المكان، ومنه: المَنْدَب ومَسْقَط والمَجْمَعة.
        وإلى هذا الوجه يذهب العلامة حمد الجاسر رحمه الله في كتابه (سراة غامد وزهران) قال في ص 183: «المَنْدَق مَفْعَل من ندق، وهو فعل لم أجد له ذكرا فيما بين يديّ من كتب اللغة، ولا أستبعد أن يكون أصله نتق الذي هو فعل مستعمل بمعنى الجذب، كنتق الغَرْبُ من البئر، ونتقتِ المرأة: كَثُرَ ولدُها... والتّاء والدال كثيرا ما يتعاقبان في اللغة».

والوجه الثاني: أنّ يكون محرّفًا من المُنْدَقّ، بضم الميم، اسم فاعل من الفعل اندقّ فهو مُنْدَقّ ووزنه مُنْفَعِل، ولعلّ أصل التسمية أن عَلَمًا أو لِواءً اندقّ -بمعنى دُقَّ- ورُكِزَ على جبل منه ونُصب عليه، ومن هذا المعنى قال أبو الشمقمق:
ما كان مُنـْدَقَّ اللـواءِ لريبــةٍ      تُخشى ولا أمـرٍ يكونُ مبذلا
لكنّ هذا الرمحَ ضعّف متنه     صغـرُ الولاية فاستقلّ الموصلا
أي منصوب اللواء.
        أو يكون الاشتقاق من قولهم سقط رجلٌ من جبل منه (وهو شاهق الجبال) فاندقّت عنقه، والرجل مُندقّ العنق، وهو اشتقاق صحيح فيهما، ثم خفّفوا تضعيف القاف فقالوا: مُنْدَق، ثم توهموا أنه (اسم مكان) ففتحوا الميم، وقالوا: المَنْدَق.

      والوجهان جائزان في اللغة والتصريف.
                                                                                                  عبدالرزاق الصاعدي 
                                                                                                 المدينة المنورة في 12/ 4/ 1437هـ



الخميس، 14 يناير 2016

يُوَضْنِك ليست من الفوائت الظنية بخلاف يضنوِك:

يُوَضْنِك ليست من الفوائت الظنية بخلاف يضنوِك


     أما قولهم في بعض القبائل البدوية بالحجاز وتهامة الحرمين ومنها قبيلتي عوف من حرب: وَضْنَك يُوَضْنِك وَضْنَكةً؛ إذا دمدم بكلام غير مفهوم متضجّرا، مثل حَنْتَم يُحَنْتم حنتمة وحَضْرَمَ يُحضرم حضرمة، فهي مما لم يتحقّق فيه المعيار اللفظي؛ لمخالفته لقياس ائتلاف الحروف في بناء الكلمة العربية، فوَضْنَك وَضنكة يخالف قياسهم؛ لأن حرف العلة لا يكون أصلا في رباعي إلا في باب وسوس، فإن جعلت الواو أصلا خالفت قاعدة صرفية وإن جعلتها زائدة أدى ذلك إلى وزن غير مألوف وهو (وفعل) وإن جعلت النون زائدة أدى ذلك إلى جذر مهمل وهو (وضك) وأبعدها أيضا عن أصل اشتقاقها الذي يدل عليه المعنى وهو ضنك، والصحيح أن وَضْنَك مقلوبة من ضَنْوَك يُضنوِك فتكون الواو زائدة كواو هَرْوَلَ، ويسلم اللفظ من مخالفة ائتلاف الحروف، وضَنْوَك يُضَنْوِك هذا مفكوك من ضَنَّكَ يُضَنِّك؛ أي: من الضّنك، (ضنَّك > ضنوك)؛ لأن المُغضَب الذي يُدمدم بكلام غير مفهوم يشبه المضنوك المشحون بالغضب. ولهذا يمكن أن نقول: إن وَضْنَك ليست من الفوائت الظنية؛ لأن المعيار الأول غير متحقق فيها فهي متفرّعة بالقلب المكاني من ضَنْوَك يُضَنْوِك، والقلب مقصور على السماع، ولا يظهر أن هذا القلب قديم فيها، فهي إلى اللحن الصرفي أقرب.
عبدالرزاق الصاعدي

الأربعاء، 6 يناير 2016

من الخطأ تخطئة "البِداية":

من الخطأ تخطئة "البِداية"

      يُخطّئ جماعة من اللغويين المتقدّمين مَن يقول: (البِداية) ويرون أنها لحن العامّة وأن الصواب، الهمزة: البِداءة والبُداءة والبَداءة والبُدْأة والبِدْأة والبَدِيئة، وهنّ لغات فصيحة فيها وكلها بالهمز، وورد فيها قلب الهمزة هاء: البداهة. ولم يرووا في معاجمهم لغة التسهيل أو قلب الهمزة ياء، ومن رواها نصّ على خطئها، ولذا أوردوها في كتب لحن العامة. قال ابن الحنبلي في سهم الألحاظ في أوهام الألفاظ: ومن ذلك؛ أي من أوهام العامّة: (البِدايةُ) بالياء، خلاف النهاية. على ما في مُغرِب المُطَرِّزِيّ من أنّها عامِّيّةٌ، وأَنّ الصواب: البِداءَة. قال: وهي فِعالةٌ، من بَدَأَ، كالقِراءة والكِلاءةِ، من قَرَأَ وكَلأ.

      وقال صاحب التاج بعد أن ذكر رأي المطرّزي: عدَّها ابن بَرّيَ من الأَغلاط، ولكن قال ابن القطّاع: هي لغةٌ أنصاريّة، بَدَأْتُ بالشيء وبَديِتُ به: قَدّمته: وأَنشد قولَ ابن رواحة:
باسمِ الإلاهِ وبه بَدِينَا
ولو عَبَدْنَا غيرَهُ شَقِينَا
      وظاهر كلام ابن جني إجازتها، قال في سر الصناعة: ((وقد أبدلوا الهمزة ياء لغير علة إلا طلبا للتخفيف، وذلك قولهم في قَرَأْتُ: قَرَيْتُ وفي بَدَأْتُ بَدَيْتُ وفي تَوَضَّأْتُ تَوَضَّيتُ، وعلى هذا قال زهير:
جَريءٌ متى يُظلمْ يًعاقِبْ بظُلمه     سَريعا وإلا يُبْدَ بالظُّلم يَظْلِمِ
 أراد يُبدأ، فأبدل الهمزة وأخرج الكلمة إلى ذوات الياء)).

     وأجازها محمد العدناني في معجم الأغلاط اللغوية، وأحمد مختار عمر في معجم الصواب وعبداللطيف شويرف في تصحيحات لغوية. وقال العدناني عَقيب كلام ابن جني: ((فمن قال: بِداية بناه على هذه))؛ أي: إجازة بقلب الهمزة ياء لغير علة إلا طلبا للتخفيف، وهو ضرب من ضروب التسهيل.

     وأقول:كلمة "البداية" (العامية عند بعضهم) لغة أنصارية قديمة، فرضت نفسها وتفوّقت في الاستعمال على "البُداءة" و"البِداءة" وأخواتهما مما جاء في معاجمنا، وشاعت "البداية" منذ قرون لدى العلماء والمثقفين، وحَسُنت في أفواه الناس وأسماعهم، والكلمات تقوى أو تضعف بما يشاكلها، فكما ضعفت ودع ووذر وماتتا استغناء بترك قويت "البِداية" لمشاكلتها النهاية، فتفوّقت على "البُداءة" و"البِداءة" وأخواتهما وأخملتهنّ.

     وأنا أجيزها للشّاهدَين وأستحسنها للهجة الأنصارية أو الحجازية، وأقيسها بالمشاكلة على ضدها النهاية، فبين البداية والنهاية تشاكل لغوي بالغ الحسن، ولو كان اسم كتاب ابن كثير: [البُداءة والنهاية] لكان اسما ثقيلا فجّا، بخلاف البداية والنهاية، ومن فقه اللغة ألا يكون اللغوي أسيراً لأقوال بعض المتشددين في السماع والقياس، فاللغة الحية قد تحوم حول معاييرها وقد تراوغ وتلتفُّ ولكنها لا تبتعد عن أصولها، وما أجملها حين تنساب طيّعة مرنة على ألسنة قبيلٍ من الناس أو أٌمّة كاملة كما ينساب الماء في جدول صغير أو نهر عظيم.. فقل "البداية" ولا حرج.
عبدالرزاق الصاعدي

26/ 3/ 1437هـ