الأحد، 27 أبريل 2014

القول الموفور في حقيقة وزن اليَسْتَعُور

القول الموفور في حقيقة وزن اليَسْتَعُور

(وقفة مع أشياخنا البصريين في وزن اليستعور)

     من ألفاظ العربية ما يخفى أصله واشتقاقه، ويعزُّ مثيله أو ينعدم، فيختلف فيه الصرفيون، كاختلافهم في اشتقاق كلمة اليستعور، فمنهم من يراها ثلاثية الأصل ومنهم من يراها خماسية، وللبصريين فيها مذهب يزعمون أنه الصواب وأن من خالفهم فيه هاذٍ لا يدري ما التصريف!! هكذا يقول ابن جني في شرح تصريف المازني، ومما يؤسف له أن رأي البصريين فيها وفي غيرها أرهبنا حينا من الدهر، وأخافنا وصفُهم الشنيع لمخالفيهم بالجهل فأصبحت الأجيال تخشى أن تكون من الجهّال، فتعطّل الفكر أمام جبروت العقل البصري، فصار الأخذ بقولهم هو الأسلم عند من يخاف الزلل في طريق التصريف الشائك، وربما خفّف علينا عبء اللوم والنقد الذاتي أننا لسنا بدعا في عصب العيون فعلماء العربية من لدن القرن الثالث يسيرون على أثر البصريين ولو دخلوا جحر ضب لدخلوه وراءهم، ونحن على أثرهم سائرون داخلون، فهم ونحن أجيال تضع أيديها مع جماعة البصريين وتنصرهم ظالمين أو مظلومين.. وليس لمن يشذ ويترك طريقهم إلا التحقير والازدراء.. وكم أصاب الفراءَ وثعلباً وابن دريد من قوارض ألسنتهم! 

     وما تعريضهم بمخالفيهم في وزن "اليستعور" إلا صورة من صور التحقير والترهيب العلمي وصورة من صور الاعتداد بالمعيارية الجامدة التي تقودهم أحيانا إلى ما يخالف فطرة اللغة ومنطقها.. ونحن مع المعيارية الضابطة ولسنا مع المعيارية الجامدة التي قادت أبا علي الفارسي إلى أن يدعي بكل جرأة علمية وثقة وتهوّر في كتابه (الشعر أو شرح الأبيات المشكلة الإعراب تحقيق د. محمود الطناحي 1/193) أن (اليَنْجَلِب) خماسي وأن الياء فيه أصل وأنه بمثابة الجَحْمَرِش، فأي غلوّ صرفي هذا مع وضوح الاشتقاق لكل ذي عينين، وهل يجهل صغار الصرفيين أن الينجلب منقول من الفعل المضارع (ينجلبُ) وأن الياء فيه ياء المضارعة لا محالة، وأن الجذر ثلاثي (جلب) وأنه لا يمتُّ للخماسي بصلة إلا أن يكون الطير ولد الحوت كما قال بصريٌّ قديم!!.. هذه هي المعيارية الجامدة التي نمقتُها، مع حبنا وتقديرنا الشديد للبصريين بعامة وللجبل الأكبر في الصرف أبي علي الفارسي وتلميذه الصرفي العظيم ابن جني، ومنهما تعلمنا الكثير، ونحن عيال عليهما، لكن لن نأخذ منهما ونقبل دون وعي بمخادعات المعيارية التي نحبّها ولا نقدّسها، فاللغة ليست عقلا في كل أحوالها، بل ربما نراها ثائرةً على معاييرها أو مجنونة في أحايين كثيرة. فما معنى اليستعور؟ ومتى ظهرت؟

معنى اليستعور في اللغة ورأي المعاجم:
اليستعور كلمة قديمة جاهلية، ذكرتها المعاجم القديمة، ومجمل ما قالته فيها:
أن اليستعور: السعير، أو نار الله الحامية، ومعنى قولهم: ذهب في اليستعور، أي في نار الله الحامية، كأنه يراد السعير..
واليستعور شجر تصنع منه المساويك الجيدة، ومساويكه أشدّ المساويك إنقاء للثغر وتبييضا، وفيها شيء من مرارة مع لين، قاله أبو حنيفة في النبات..
واليستعور مكان موحش بعيد أو جبل لا يكاد يدخله أحد إلا رجع من خوفه، قال أبو عبيدة: هو حرة المدينة، وقيل موضع قِبَل حرّة المدينة، كثير العِضاه والسمر والطلح، موحش، أو أجمة.
وقيل هو كساء على عجز البعير..
ويكنى باليستعور عن الباطل، ويقال ذهب في اليستعور أي الباطل.
ولليستعور شاهد وحيد، وهو قول عروة بن الورد (ديوانه 32):
أطعتُ الآمرين بصرمِ سلمى * فطاروا في عضاه اليستعورِ
ويروى:
فطاروا في بلاد اليستعورِ
أي تفرقوا حيث لا يعلم ولا يهتدى لمواضعهم.. أو ذهبوا إلى ذلك الموضع المخوف. ويبدو أن اليستعور من المواضع الدارسة اليوم، واكتفوا في تحديده بأنه موضع أو جبل في حرة المدينة أو قِبَل الحرة، أي ناحية الحرة، فقد ذكره البكري وياقوت نقلا عن العمراني وأبي عبيدة، ومن المعاصرين المحققين ذكره البلادي في معجم معالم الحجاز ولم يزد على قول ياقوت، وفي هذا دليل أنه من المواضع الدارسة أو مما تغير اسمه.
ويمكن تلخيص معاني اليستعور في:
1-                 معنى التسعّر والحرارة، أو هي النار.
2-                اسم مكان قِبَل حرّة المدينة، والحرة من النار، ولعل هذا المكان سمّي يستعورا لتسعّره.
3-                اسم شجر تصنع منه المساويك الجياد، ولعله سمي يستعورا لتسعر مساويكه في الفم فمعلوم أن أجود المساويك ما يكون حارا لاذعا في الفم.
4-                كساء على عجز البعير.
5-                يكنى باليستعور عن الباطل.

رأي البصريين:
يرى البصريون من لدن الخليل وسيبويه إلى اليوم أن اليستعور خماسي الجذر، وأن الياء أصلية، وأنه على وزن (فَعْلَلُول) مثل عَضْرَفُوط، ويخطّئون من يرى زيادة الياء ويصفونه بالجهل في التصريف، وقد حملهم على القول بذلك والقطع به مقياسهم المعياري القائل ((إنّ الحروف الزوائد لا تلحق بنات الأربعة أولاً، إلا الميم التي في الاسم الذي يكون على فعلِه، كمدحرج وشبهه، فصار كفعل بنات الثلاثة المزيد)) ينظر: الكتاب 4/313 والأصول 3/235، والمنصف 1/145، والخصائص 1/236، ورسالة الملائكة 246، والممتع 1/164.
قال سيبويه في الكتاب: وأما يَسْتَعُور فالياء فيه بمنزلة عين عَضرفوطٍ؛ لأن الحروف الزوائد لا تلحق بنات الأربعة أولا إلا الميم التي في الاسم الذي يكون على فعله، فصار كفعل بنات الثلاثة المزيد (الكتاب 4/ 313)
وقال الفارسي في البغداديات ص95-97 : ((ذكر سيبويه قولهم: يستعور، قال: وأما (يستعور)، فالياء فيه بمنزلة عين (عضرفوط)، لأن الحروف الزوائد لا تلحق بنات الأربعة أولا، إلا الميم التي في الاسم الذي يكون على فعله، فقلت في شرح ذلك: يستعور، فيه حرفان من حروف الزوائد وهما: الياء، والتاء، فلا يجوز أن تجعل الياء زائدة فيه، لأن الذي يبقي بعدها أربعة أحرف، وبنات الأربعة لا تلحقها الزوائد من أولها، إلا ما تستثنيه من زوائد الأسماء الجارية على الأفعال فإن قلت: فأحكمُ بأن التاء زائدة وإذا حكمت بزيادتها صار من بنات الثلاثة، لأن الذي يبقى بعد الحكم بأن التاء زائدة، السين، والعين والراء، فيسوغ على هذا أن أجعل الياء زائدة، لأنها على هذا لم تلحق رباعيًا من أوله، إذ كانت التاء زائدة. فالجواب: أن هذا الحكم في التاء غير سائغ أعني: الحكم بزيادتها، وذلك أن هذا الموضع ليس من المواضع التي يحكم فيها بزيادتها، لأنها لا تزاد في غير جمع المؤنث وواحده إلا بثبت فهو على أنها الأصل، حتى يقوم ثبت ودلالة على أنها زائدة، فلا يجوز أن يحكم بأن التاء في (يستعور) زائدة، لما ذكرنا وإذا لم يجز أن تحكم بزيادة التاء لم يجز أيضًا أن تحكم بزيادة الياء؛ لأنك إذا حكمت بأن التاء أصلية صارت الكلمة من بنات الأربعة، وإذا صارت من بنات الأربعة علمت أن بنات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أولها، إلا ما استثني، فتصير الياء إذًا أصلية غير زائدة.
 وقد كان شيخ من أهل اللغة وزن هذه الكلمة بــ (يفتعول)، حتى نُبّه عليه، وله فيما كان أملاه من الأبنية حروف كثيرة تحتاج إلى إصلاح، وسنذكر ما يحضر منه فيما يستقبل من هذا الكتاب..
 ومما يدل على أن الحرفين أصليان أنه ليس في تفسير هذه الكلمة شيء يدل على أنها من: سعر. قال أحمد بن يحيى: يستعور بلد بالحجاز، ويقال: ذهب في اليستعور، أي: في الباطل والكساء الذي يجعل على عجز البعير، يقال له: اليستعور.. وقال أبو عمر الجرمي: واليستعور: يقال إنها شجرة أيضًا))
ويرى الرماني (شرح الكتاب 468 رسالة دكتوراه بتحقيق صالح العبداللطيف) أن ياء يستعور أصلية لثلاثة أسباب تقضي بضعف الزيادة في ذلك الموضع، وهي: بُعْدُ الأول من الموقع الذي هو أحق بالزيادة، يعني الآخر، والثاني كثرة العدد بالأصول الأربعة والثالث أنه في موضع تضعف فيه الزيادة في الفعل، إذ أصل التصريف الفعل.
وقال ابن جني في (الخصائص 3/ 215): ((وذهب أحمد بن يحيى وابن دريد في يستعور إلى أنه يفتعول. وليس هذا من غلط أهل الصناعة)) يريد أنهم ليسوا من أهل التصريف في شيء.
وقال في موضع آخر 3/ 340: ((وذهب بعض أشياخ اللغة في يستعور إلى أنه: يفتعول، وأخذه من سعر، وهذا غلط))
 وقال في (المنصف 1/145): ((ويستعور ليس بجارٍ على فعل, وليس لقائل أن يقول: إن السين والتاء هنا زائدتان ولا إحداهما؛ لأن هذا ليس من مواضع زيادتهما، وستراه إن شاء الله. فلذلك مَثّلَ يستعورا بعضرفوط, وجعل الياء كالعين. فأما من قال: إنّ مثال يستعور: يفتعول فلا يدري من صنعة التصريف شيئا، وإنما هو فيه هاذٍ!!))
وقال الجرجاني في (المقتصد 2/ 1219): (( وأما ياء يستعور فأصل، ووزنه فعللول، يدلك على ذلك أنه مشتمل على أربعة أحرف من حروف الزيادة الياء والسين والتاء والواو، ولا يجوز الحكم بزيادة كافّتها، من حيث إن ذلك يفضي بالاسم إلى حرفين العين والراء، وقد عرفت أن الاسم المتمكّن لا يكون على أقل من ثلاثة أحرف، وإذا بطل القضاء بزيادة الجميع لم يجز أيضا أن يحكم بزيادة السين والتاء جميعا؛ لأنهما لا تزادان معا إلا في استفعل، ولم يجز أن يحكم بزيادة أحدهما على انفراده لأجل أن التاء تزاد في افتعل والسين تقل زيادته.
وإنما جاء في أسطاع، وبعد كاف الضمير في أكرمتُكِسْ، ثم إن الحمل على الأصل أولى، ولا يجوز أن يحكم بزيادة الياء؛ لأنك تجعل حينئذ التركيب من أربعة، وبنات الأربعة لا يكون في أوائلها زيادة إلا ما كان جاريا على الفعل، نحو مُدحرج، فقد اتضح أنه ليس في حروف يستعور زيادة سوى الواو، وأنه مثل عضرفوط))
وقال العكبري في (اللباب في علل البناء والإعراب 2/ 250): ((الياء في يستعور أصل عرف ذلك بالسَّبْر، وذلك أن الواو فيها زائدة بلا خلاف، فبقي فيها من حروف الزيادة الياء والسين والتاء، ويمتنع أن تكون كلها زائدة؛ لأن الكلمة تبقى على حرفين، والحكم على أحد الثلاثة بالزيادة تحكّم، فإن قلت: لمَ لا تكون السين أصلا والآخران زائدان من معنى سعر؟ قيل لوجهين:
أحدهما: أن جعل السين أصلا دون الياء والتاء مع إمكان كونه من يَعَرَ تحكّم
والثاني: أن مثال يفتعول معدوم فلا يُحمل عليه))
وقال ابن عصفور في (الممتع الكبير 1/ 288): ((والذي شذ من غير المضاعف، فجاءت الياء فيه أصلية، نحو : يستعور ؛ وذلك أن السين والتاء  أصلان، إذ ليست السين في موضع زيادتها، ولم يقم دليل على زيادة التاء، فلو جعلنا الياء زائدة لأدّى ذلك إلى شيئين: أحدهما أن يكون وزن الكلمة (يفعلول) وذلك بناء غير موجود، والآخر لحاق بنات الأربعة الزيادة من أولها، في غير الأسماء الجارية على الأفعال، وذلك غير موجود في كلامهم، فلما كان جعلها زائدة يؤدي إلى ما ذكر جعلناها أصلا))
وقال بعد ذلك: ((فإن قيل: فإن في جعلها أصلا أيضا خروجا عما استقر في الياء، من كونها لا تكون أصلا في بنات الأربعة فصاعدا إلا في باب: ضوضيت. فالجواب أنه لما كان جعلها زائدة يؤدي إلى الخروج عما استقر، من أن الزيادة لا تلحق بنات الأربعة فصاعدا من أولها، وجعلها أصلية يؤدي أيضا إلى الخروج عما استقر للياء، من أنها لا تكون أصلا في بنات الأربعة إلا في باب: ضوضيت، كان الذي يؤدي إلى الأصالة  أولى، وأيضا فإن الياء قد تكون أصلا في مضاعف بنات الأربعة، ولا تلحق بنات الأربعة فصاعدا الزيادة من أولها، في موضع من المواضع، وأيضا فجعلها أصلا يؤدي إلى بناء موجود - وهو (فَعْلَلول)  نحو: عضرفوط - وجعلها زائدة يؤدي إلى بناء غير موجود، وهو يَفْعَلُول))
هذه أبرز حججهم وآرائهم فيها، حكيتُها كما قالوها، لتكون حاضرة تحت نظر القارئ ليمكنه التأمل والتمييز بين الآراء والتعليلات، وخلاصة رأي البصريين وحججهم:
1-     أنهم يرون أن يستعورًا فعللول كعضرفوط.
2-    لأن التاء ليست في موضع زيادة فحكموا عليها بالأصالة.
3-    وتبع ذلك أن حكموا على الياء بالأصالة؛ لأن من مقاييسهم ألا تكون الياء زائدة أولا وبعدها أربعة أصول.
4-    وأن القول بزيادة الياء والتاء يؤدي إلى وزن غير موجود في العربية وهو (يفتعول)

رأي الكوفيين ومن وافقهم:
ذهب بعض الكوفيين ومن وافقهم إلى أن اليستعور ثلاثي من (س ع ر) وأنّ الياء والتاء فيه زائدتان، وأنه على وزن (يفتعُول) وليس في المسموع من العربية غيره، ومن القائلين بهذا الرأي: أبو عبيدة كما نقل صاحب التاج (مادة يستعر) وثعلب كما نقل ابن جني في (الخصائص3/ 215) وابن دريد في الجمهرة (2/ 1222) وأبو عبيد البكري في (معجم ما استعجم 2/ 1394) ورضيّ الدّين الشّاطبيّ في حواشيه على (الصّحاح) فيما نقله صاحب اللسان في (مادة يستعر) وأبو حيان في (الارتشاف 1/ 105) والسيوطي في (المزهر 2/ 23) وتردد فيه ابن القطّاع في (أبنية الأسماء والمصادر 155، 317) فقال في موضع: يفتعول، وقال في موضع آخر: فعللول، وربما كان ذلك لاختلاف مصدريه في الموضعين.

الحكم والترجيح:
رأينا المعنى اللغوي لليستعور ورأي البصريين وقولهم: إنه خماسي من (ي س ت ع ر) ووزنه فعللول ورأي الكوفيين وقولهم: إنه ثلاثي مزيد وأصله (س ع ر) ووزنه يفتعول، فثمة ملحوظات:

   أ- يظهر أن سيبويه لم يصل إلى علمه معاني اليستعور التي تدل على السعير والحرارة، ولو بلغه ذلك لقطع بأنها ثلاثية من سعر، كما قطع بأن (إنقحل) من قحل وأن وزنها إنفعل، ولا فرق في الغرابة بين يفتعول وإنْفَعل، ولكن الأتباع في القرون التالية لم يريدوا مخالفة شيخهم سيبويه فتمسكوا برأيه ودافعوا عنه وعن قاعدته المعيارية للتاء ثالثة والياء أولا حين يكون بعدها أربعة أصول، فهل يعقل ألا يطلع البصريون على معاني اليستعور التي تدل على السعير والحرارة وهي في المعاجم بين أيديهم؟ وهل يعقل أن ابن جني - الذي يستخرج أدق الدلالات ويستنبط المعاني الجامعة فيما سماه الاشتقاق الأكبر-  لم ير معنى السعير في اليستعور وهو منصوص عليه في المعاجم؟ وهل يعقل أن يترك الفارسي معاني السعير والحرارة في اليستعور ولا يرى إلا معنى الباطل والموضع والكساء الذي يجعل على عجز البعير؟ لا أرى هذا إلا من التعامي عن الاشتقاق لتسلم لهم القاعدة ولا يقعوا في مخالفة سيبويه، ولو قال سيبويه إنه (يفتعول) لوجدوا له ما يكفي من المسوّغات وعلى رأسها الاشتقاق.

    ب- حين نخضع معايير البصريين في اليستعور إلى النقد، نتبين أن معيارهم الأول يمكن نقضه، وهو قولهم: إن التاء في (يستعور) ليست في موضع زيادة، وإنهم لم يجدوها زائدة في هذا الموضع، فحكموا عليها بالأصالة.
فأقول: قولهم بأن التاء لا تزاد في هذا الموضوع منقوض بـالشيتعور والتاء زائدة فيه، لأنه من الشَّعير، ووزنه فيتعول، وفي المعاجم: الشيتعور الشعير، وقالوا جاء في شعر أمية بن ابي الصلت، وروى: الشَّيْتَغُور بالغين عن ابن جني، قالوا: والتاء فيه زائدة فوزنه فيتعول لا فيعلول.
ومثل الشيتعور الخيتعور، وهو من أسماء الغول، وكلّ شيء لا يدوم على حاله، ويتلاشى كالسّراب وهو فيتعول من الخَيْعَرَةُ خِفَّةٌ وطَيْشٌ.
وكما زيدت التاء في هذا الموضع زيدت النون – وهي أختها من الزوائد - في (الشينقور) وقد جاء في شعر أمية بن أبي الصلت قال صاحب التاج: وهو نظير الشيتعور.
وروي اليستعور على القلب، حكاها الصاحب في (أخلاق الوزيرين ص 486) وقال ياقوت (في معجم البلدان 3/ 293): السَّيْتَعُورُ: بفتح أوّله، وسكون ثانيه ثمّ تاء مثناة، وعين مهملة، وواو ساكنة ثم راء، قال العمراني: مكان. قلت: واضح أنه مقلوب اليستعور أو العكس.
فهذه ثلاثة ألفاظ زيدت فيها التاء في هذا الموضع ثالثة حشوا، وهي الشيتعور والخيتعور والسيتعور، فلا يمتنع ورود التاء زائدة في هذا الموضع على الرغم من قلته، والاشتقاق مؤيد لزيادتها في الشيتعور من الشعير والخيتعور من لخَيْعَرَةُ، واليستعور ومقلوبه السيتعور من السعير،
أما معيارهم الثاني وهو قولهم إن الياء لا تكون زائدة أولاً وبعدها أربعة أصول، وأن الحروف الزوائد لا تلحق بنات الأربعة أولا إلا الميم التي في الاسم الذي يكون على فعله كمدحرج وشبهه، فيُردّ بأمرين:
 أولهما أن في جعل الياء في يستعور أصلا أيضاً خروجاً عما استقرّ في حال الياء في الأصالة والزيادة، وهو أنها لا تكون أصلا في بنات الأربعة فصاعدا إلا في باب: ضوضيت، وهذا معيار مستقر من معاييرهم.
وثانيهما أن التاء في يستعور لا يمتنع زيادتها لما تقدم، فإن كانت زائدة بطل الاستدلال بهذا المعيار على يستعور، لأن الياء المتصدرة لم يأت بعدها أربعة أصول، بل ثلاثة، وهي في موضع يزاد فيه الياء وبعدها ثلاثة أصول، مثل: اليعسوب والينبوع (وهي ينبع حاليا) والينسوعة واليسنوم ويُسْرُوع وأُسروع ويحموم ويخضور ويعفور على يفعول، ورجل يَلَنْدَدٌ يفنعل، ملحق بغضنفر وطيرٌ يَنَادِيد وأَنادِيد: متفرقة بمعنى أبابيل، على أفاعيل، واليَهْيَرٌّ اللّجاجة والتّمادي في الأمر : يفعلّ أو يَفْيَعْلُ، وقال بالثاني الرضي، واليهيرّى يفعلّى  قال سيبويه: يكون على يفعلّى وهو قليل قالوا يهيرّى.. وينابعاء موضع ، ويناصيب واليحاميم والينوفى واليمؤود، كل ذلك مما زيدت فيه الياء أولا متبوعة بثلاثة أصول، وهي من الباب حين يصح القول: إن التاء في يستعور زائدة، ليكون بعد الياء ثلاثة أصول فحسب.
ورابع معاييرهم في تأصيل ياء يستعور أن القول بزيادتها يؤدي إلى وزن غير موجود في العربية وهو (يفتعول) فأقول: لـِمَ يمتنع أن يكون اليستعور يفتعولا؟ وهم يبنون على القليل، وربما عقدوا البناء على المثال الواحد الذي لا نظير له، ألم يثبت سيبويه (4/ 244) وزن (فِعِل) من الثلاثي بلفظ واحد هو (إِبِل) وقال: ((وهو قليل، لا نعلم في الأسماء والصفات غيره))
 وألم يقولوا: إن ضَهْيِأ مزيدُ الهمزة وأن وزنه (فعلأ) وهو رأي سيبويه (الكتاب 4/ 248) ولا نظير له كما قال ابن عصفور؟ (الممتع 1/ 229) وقال الزجاج في حديثه عن ضهيأ: ((ويجوز أن تكون " فَعْيَل " وإِن كانت بِنِيَةً ليس لها في الكلام نظير، فإِنّا قد نعرف كثيراً مما لا ثَاني له. من ذلك قولهم كَنَهْبَل وهو الشجر العظام تقديره فَنَعْلل، وكذلك قَرَنْفل، لا نظير له، وتقديره فَعَنْلُل)) (معاني القرآن وإعرابه 2/ 443)
وجاء في المصباح (سخن): وماء سُخَاخِينُ على فعاعيل بالضم وليس في كلام العرب غيره. وقال الأزهري (التهذيب عجف) : وليس في كلام العرب أفعل فعلاء جمعاً على فعال غير أعجف وعجفاء وهي شاذة، ونقل الأزهري (التهذيب خزعل) عن الفراء أنه كان يقول: ليس في كلام العرب فعلال من غير المضاعف غير حرف واحد جاء نادرا، وهو قولهم: ناقة بها خزعال. وقال ابن دريد (الجمهرة 1/ 66): ليس في كلام العرب اسم على فعاويل إلا سراويل. وقال ابن عصفور في الممتع الكبير (1/ 133): وعلى تَفْعلاء: قالوا: هو يمشي التَّرْكَضاء، ولم يسمع غيره.
ولذا ربما قاس مجمع اللغة في القاهرة على المثال الواحد في بعض قرارته، فهذا أحد أعضائه ( د. محمد حسن عبدالعزيز) يقول في مجلة مجمع اللغة العربية 90/21: ((ومفهوم القياس عند المجمعيين قائم على الحمل على الوارد الكثير، والكثير قد يكون بمثال واحد إذا لم يسمع غيره في بابه))
وبهذه الأمثلة يثبت أن معيار ((عدم النظير)) لا يعوّل عليه، فهم أول من كسر هذا المعيار، وزيادة على ما تقدم فقد كان سيبويه لا يعرف لإنْقَحْلٍ نظيراً، قال (الكتاب 4/ 247): (ويكون على إنفعلٍ، قالوا: إنقحلٌ في الوصف لا غير) وهو معدوم في الأسماء ولم يذكروا  له ثانيا في الصفات، فانظر كيف أثبت به وزنا ولا ثاني له عنده كما قالوا (ينظر: سر الصناعة 2/ 754) فما الفرق في التفرّد والغرابة بين إنفَعْل وزن إنْقَحْل ويفتعول وزن يستعور؟ والأول لا ثاني له ومع ذلك أثبتَ به وزنا؟ ثم انظر إلى ما قاله ابن جني في بعض حِجاجه في الخصائص (1/ 252) في باب الحمل على الظاهر: ((وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره ألا يحكم به، حتى يوجد له نظير. وذلك أن النظير -لعمري- مما يؤنس به، فأما ألا تثبت الأحكام إلا به فلا، ألا ترى أنه قد أثبت (أي سيبويه) في الكلام فَعُلْتُ تَفْعَل وهو كُدْتُ  تَكاد، وإن لم يُوجِدنا غيرَه، وأثبت بإنقحل باب (إنْفَعْل) وإن لم يحكِ هو غيرَه وأثبت بسُخاخين (فُعاعِيلا) وإن لم يأتِ بغيره)) ومثل هذا الحِجاج نراه في سر الصناعة 2/ 753 وبه أثبت أن ياء شيراز بدل من الواو، ولا نظير له.
فأقول: ليتك يا أبا الفتح مع هذا القول الجميل أثبت يفتعولا بيستعور ودافعت عن ابن دريد كدفاعك عن سيبويه ولا وصفته بأنه هاذٍ، لا لذنب سوى أنه من غير الجماعة.
ثمّ إنه لا يغيب عن البال أن البصرييين أكثر الناس علما بأن اللغةلم تصل إلينا كاملة، فكيف تكون المعيارية قاطعة كحد السيف؟ ويعلمون أيضا أن مقولة (ليس في كلام العرب) تجاوزت حدود المجازفة، لعلمهم بسعة اللغة ولهجاتها.. ومن بعد ذلك كله يعلمون أن لكل حكم ما يخرج عنه، ولكل قاعدة شواذّها.

    ت- ومما أضيفه في تأصيل ياء اليستعور بعد نقض حججهم أن الاشتقاق وهو سيّد الأدلّة يقضي بأنّ اليستعور من سَعَر وأنّه يفتعول؛ لأنه من السعير والتسعّر، وهذا جليّ في معاني اليستعور التي تقدمت، وليس لأحد أن يقدم شيئاً من المعايير على معيار الاشتقاق، وهذا مذهب كبيرهم وكبيرنا سيبويه لكنهم تجاوزوا الحد في هذا حين وصل الأمر عند الفارسي والرمّاني وابن جني فأمست الصنعة عندهم مقدمة على الاشتقاق، مع أنهم يعلمون ويقرّون في مواضع كثيرة أن الكلمة إذا قويت بالاشتقاق فلا سبيل إلى رد حكمه بقلة أو كثرة، فلا يعدل عن الاشتقاق بشيء، ولسيبويه كلمة ذهبية استهان بها الأتباع حين قويت دولة القياس في القرن الرابع وهي قوله: ((وكل حرفٍ من حروف الزوائد كان في حرفٍ فذهب في اشتقاقٍ في ذلك المعنى من ذاك اللفظ فاجعلها زائدة (كذا والأحسن سياقاً: فاجعله زائدا) وكذلك ما هو بمنزلة الاشتقاق، فإن لم تفعل هذا لم تجعل نون سرحان وهمزة جرائضٍ وميم ستهمٍ زائدة. فعلى هذا النحو ما تزيده بثبت. فإن لم تفعل ذلك صرت لا تزيد شيئاً منهن. ومثل ذلك: شمألٌ وشأملٌ، تقول: شملت وشمالٌ )) (الكتاب 4/ 325، 326)

   ث- وأن المتأول لا يعدم في اليستعور ما يشبه تأويلاتهم وتمحّلاتهم في غيرها ليثبت أن اليستعور يفتعول لا فعللول، وأنه من أصل ثلاثي هو (سعر) وليس خماسيا، فيمكن القول: إن اليستعور مغيّر عن بنائه للتهويل؛ لأنه اسم لمكان مخوف، وإنه في الأصل منقول عن المضارع، كأن يكون الأصل: (يستعر) من استِعارِ النار، وهذا مناسب لمعنى اليستعور كما تقدم في دلالتها المعجمية، ومثله في النقل الينجلب من ينجلب (خرزة تُؤَخِّذ بها النساءُ الرجال) لكن يشكل وجود الواو في اليستعور! إن صح أنها منقولة من يستعر، فمن أين جاءت هذه الواو الغريبة؟ وهنا يمكن اللجوء لمزيد من التأويل كما يفعلون هم، وإن كان تأويلنا هنا يقف على جناح المجازفة، أو مما يُتعوّذ منه! بعد أن يقال إن الكسرة في يستعر أشبعت فتولدت الياء: (يستعير) فوقع التباس بفعل الاستعارة، أي شابَهَ (يستعير) هذا المشبعُ الفعلَ يستفعل من الثلاثي الأجوف (عير) أعنى استعار يستعير من عير، فالتبس معناه بمعناه، فقلب صانع هذه الكلمة الواء ياء وضم العين فقال: يستعور، على وزن: يفتعول، وأظن أن صانعها شاعر قديم متهوّر لغويا، وهو عروة بن الورد العبسي من الشعراء الصعاليك الجاهليّين الفُتّاك (توفي سنة 30 قبل الهجرة) فشعره أقدم مصدر حفظ الكلمة وحملها إلينا، نعم الرجل هو إن كان صانعها..
 فإن قال البصريون: هذا تكلف وفساد في الصنعة! قلت لهم أما التكلف فكم تحملناكم وأنتم تصدعون رؤوسنا، وكم قبلنا منكم تأوّلات وتمحّلات أفلا تقبلون منا؟ أما الفساد فلا فساد فللإشباع نظائر كينباع في ينبَع وأدنو فأنظور في أنظُر، ووزنهما (يفعال) و(يفعول) وآمين على وزن (فاعيل) أصلها أَمين على وزن فعيل، هكذا قلتم أنتم، وللقلب نظائر، وللفرار من وجه إلى وجه خوف الإلباس نظائر. فحصل للشاعر المجازف من الإشباعِ ثم القلبِ التهويلُ والفرارُ عن اللبس.

     ج- ومن أعجب ما في التصريف البصري المغرق في المعيارية غير الرشيدة أحيانا زعمُ كبيرهم في القرن الرابع أبي عليّ الفارسي أن (اليَنْجَلِب) خماسيٌّ بأصالة الياء والنون، هكذا قال، فما اليَنْجَلِب؟ هي خرزة تُؤَخّذُ بها النساءُ الرجال، للرّجوع بعد الفِرار، أي لجلب الزوج الهارب وبقائه للزوجة، عن ابْن الأعرابيّ وابن دريد وغيرهما، قالوا: كانت نساءُ الأعراب يُؤَخِّذْن الرجال بخَرَزة يَقُلْن: يا قَبَلَة اِقْبِليه ويا كَرارِ كُرِّيه أُعيذه باليَنْجَلِب. وحكى اللحياني عن العامرية: إنهن يقلن: ((أخذته باليَنْجَلِب، فلا يرم ولا يغب، ولا يزل عند الطُّنُب))
فما أصل الينجلب؟ وما جذرها؟ قال الفارسي في (كتاب الشعر 1/ 193، 192): ((فأما قولهم في بعض الأُخَذِ: (اليَنْجَلِب) فالنون إذا كانت ثانية، لم يُحكم بزيادتها، فإذا لم يُحكم بذلك، حَصَلَتْ من الأربعة، وإذا حصلتْ من الأربعة، فالأربعة لا تلحقها الياء زائدة في أولها، ألا ترى قوله في يستعور؟ فإذا كان كذلك كان الينجلب بمنزلة الجحمرش، وقد يتجه على هذا أن يكون إِنْقَحْلٌ بمنزلة قِرْطَعْبٍ، فيكون مما اتفق فيه بعضُ حروف القَحْل وليس منه))
     وتمسك الفارسي بهذا الرأي بشدّة، وقال في الشيرازيات: ((وأما اليَنْجَلِب فإنه من باب القَهْبَلِس، ألا ترى أن الزيادتين لا تتواليان أوّلا في غير الأسماء الجارية على أفعالها؟ ومن ثم قلنا في المنجنيق: إن الميم فاء لما ثبت زيادة النون
فإن قلت: أفليس قد قال في إنقحل إنه من القَحَل؛ فهلاّ قلتَ في هذا أيضا إنه من الجَلَب؛ لأن المرأة إنما تُريد بذلك إقبال الرجل عليها، وترك الإعراض عنها، كما أن ذلك من القحَل واليُبْس؟
فإن هذا يمكن أن يقوله القائل، إلا أن المعمول عليه (لعلها المعوّل) الأول، وكأنه في القضية الأولى لم يعتدّ بإنقحل لقلّته)) (الشيرازيات 2/ 589)
       قلت: هنا في هذا النص الصريح لشيخ البصريين أبي عليّ الفارسي يتجلّى الفكر المعياري الجامد في أوضح أو أعجب صُوَره حين يلوي عُنق اللفظ (الينجلب) - على الرغم من وضوح اشتقاقه وأنه منقول من المضارع (ينجلبُ) - لتسلم له قاعدة صرفية ذهبية هو وأشياخه من صنعها، وهذا الفكر الذي جعل الياء في الينجلب أصلية هو بعينه الذي جعلهم يقولون: إن الياء في اليستعور أصلية وإنه فعللول كعضرفوط، وليس يفتعولا.

      ح- وتبعاً لاختلاف البصريين اضطرب صُنّاع المعاجم في اليستعور؛ لأنهم ترددوا فيها بين الاشتقاق ومعايير البصريين، فمنهم من وضعها في (سعر) كالمحيط والمجمل والمقاييس وهذا هو الصواب، ومنهم من وضعها في (يستعر) كالتهذيب والصحاح والمحكم والطراز الأول، ومنهم من وضعها في موضعين (سعر) و(يستعر) كاللسان والقاموس والتاج، وأكثرهم بصريون، ووضع بعضهم إياها في سعر دليل شكّهم في خماسيتها، وأن الصنعة المعجمية السليمة لم تطاوعهم ليهملوا ذكرها في مادة (سعر) مظنتها ومكان اشتقاقها الصحيح.

    خ- ويمكن أن يُستدلّ على صحة اليستعور على وزن اليفتعول بافتراض القلب المكاني، فربما كان اليَسْتَعُور مقلوبا عن السَيْتَعُور وقد سُمع هذا اسما لموضع كما تقدم، وأشار التوحيدي إليه في (أخلاق الوزيرين ص 486) حكاية عن الصاحب بن عباد في سؤالاته عن بعض الغريب، ومنه: ((وما السَّيْتَعور وما اليَسْتَعور؟)) وقال ياقوت: السَّيْتَعُورُ: مكان.
 قلت: ونظير السَيْتَعُور: الشيتعور بمعنى الشعير، والخيتعور: الذئب أو الباطل، والثلاثة على زنة فيتعول، دون خلاف في هذا، ولو قلب العرب الخيتعور والشيتعور وقالوا: يختعُور ويشتعور كما قلبوا السيتعور حين قالوا: اليستعور، ثم سألت الصرفيين عن وزنهما بعد القلب لقالوا بالإجماع: يختعور ويشتعور: يفتعول، فلمَ لا يقولون: يستعور يفتعول كأختيه؟ ألا يصح أن يكون  مقلوباً من سيتعور؟

    د- ولو قلت لعربيّ سليقيّ لا يعرف معايير التصريف: ابنِ لي على مثال (يستعور) من السراب والخراج والرجيع لقال: يستروب ويختروج ويرتجوع، ولو قلت له: ابن لي منهنّ على مثال (عضرفوط) لقال لك: سرببوب وخرججوج ورجععوع، ولا أظنه يحيد عن هذا إن كانت سليقته اللغوية سليمة، وهذا قياس الوزنين عندهم في مسائل التمرين وعند كل صرفي حين يقرّ لك بصلتها بالتسعّر والسعير كما أشارت بعض المعاجم، وليس له أن يخالف المعنى العام الظاهر فيها وهو السعير حين ينعم النظر في معانيها المعجمية إلا إن يكون بصرياً متعصباً لسيبويه والمعيارية الصارمة فيجادلك في أمر التاء الثالثة والياء المتصدرة حين يتلوها أربعة أصول، ويقول لك: إن اليستعور بمعنى السعير وليس منه، كما قال أبو علي الفارسي إن إِنْقَحْلا بمنزلة قِرْطَعْبٍ، وأنه مما اتفق فيه بعضُ حروفِ القَحْل وليس منه، فلن تخرج منه بطائل.

    ذ- ولأن الاشتقاق سيد الأدلة أردتُ أن أختم به ليشهد مع ما تقدم بأن اليستعور من سعر؛ لأنه يمكن رد المعاني المعجمية المذكورة لليستعور إلى الحرارة والتسعّر والنار، وأن معانيه في غالبها تقرّبه من الأصل الثلاثي: سعر، كالسعير والنار والحرّة جزء من النار، والمكان المسمى قريب منها، والمساويك الحارّة الجيّدة في الفم جزء يسير من حرارة النار، حتى إننا إلى اليوم نقيس جودة المساويك بشدّة حرارتها في الفم مع لينها، فمعنى الحرارة والاستعار ملحوظ في أكثر المعاني المعجمية لهذه الكلمة.. ولذا أشار ابن فارس وغيره في تفسير معنى البيت (فطاروا في بلاد اليستعور) إلى معنى السعير، وأن الشاعر أراد هذا المعنى.
وأمَّا المعنى الذي تمسَّك به الفارسي ولا تظهر له صلة بمعنى التسعّر وهو الكساء الذي يجعل على عجز البعير  فيُحمَل على ما ظهر اشتقاقه، وقد يكون متطوّرا عن معنى التسعّر وخفيت صلته به.

    والذي أنتهي إليه وأراه أن اليستعور مشتق من السعير، على وزن (يَفْتَعُول) كما قال ثعلب وابن دريد وغيرهما، وأن جذره (سعر) لما تقدم من معنى التسعّر، أو ربما اشتقه شاعرٌ من هذا الجذر فأغرب في البنية وطوّعه لوزن الشعر، أو أغرب فيه من سمّاه لتهويل المكان، الذي وصفوه بأنه موحش صعب المنال، لا يكاد يدخله أحد إلا رجع من خوفه، وهذا شيء من شجاعة العربية، وينبغي ألا نكون عبيدا للقياس حين نرى الاشتقاق بأعيننا وألا نتركه بحجة أنه لم يرد له مثيل فيما وصل إلى علمنا من كلام العرب؟ إننا حين نفعل ذلك نكون كأبي علي الفارسي حين يدعي أن الينجلب خماسي بمنزلة الجحمرش وهذا ليس هذياناً فحسب بل أكثر من ذلك.
عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
نشر هذا المقال في مجلة الخفجي:
العددان الثالث والرابع -  مارس / إبريل 2014م
 جمادى الأولى وجمادى الآخرة 1435هـ )
(وهنا زيادات ليست في نص الخفجي)


الجمعة، 25 أبريل 2014

تصحيح قولهم: الأمر الرئيسيّ والقضايا الرئيسيّة

تصحيح قولهم: الأمر الرئيسيّ والقضايا الرئيسيّة
         ثمة باحثون معياريون يخطّئون من يقول: ((هذا الأمر الرئيسيّ بين الأمور، والأعضاء الرئيسيّة في الجسم)) ويقولون: الصواب: الأمر الرئيس والأعضاء الرئيسة في الجسم، وحجتهم أن إضافة الياء المشددة إلى الصفة ليست من استعمالات العربية، واللفظ ليس في موضع نسب، وأنه لم يرد في أساليب علماء العربية.. قال بهذا باحثون معاصرون، كعباس حسن ومصطفى جواد ومحمد العدناني.
      وحجتهم في تخطئة الرئيسي والرئيسية أن هاتين الكلمتين وأمثالهما هما من الصفات المصوغة على وزن فعيل ومؤنثه فعيلة، كالشريف والشريفة والنجيب والنجيبة، وأن إضافة الياء المشددة إلى الصفة كأن يقال: الرئيسي ليس من الاستعمالات العربية، وأن إضافة هذه الياء المشدّدة ليس من المقيس في غير باب النسب.
      وقد عرضت المسألة على مجمع القاهرة، وقدم ثلاثة من أعضائه بحوثا مفصلة فيها وهم الأستاذ محمد شوقي أمين، والأستاذ عباس حسن والأستاذ محمد خلف الله، وانتهى اثنان منهم إلى جواز لحاق الياء في مثل: الأمر الرئيسي والأعضاء الرئيسية، وخالفهما الثالث: عباس حسن.
     وبعد مداولات ومناقشات في الدورة الثامنة والثلاثين لمجمع القاهرة المعقودة في 22/ 12/ 1391هـ الموافق 7 من فبراير 1972م أجازها المجمع بالأغلبية واتخذ القرار الآتي:
       ((يستعمل بعض الكتّاب "العضو الرئيسيّ" و"الشخصيّات الرئيسيّة" وينكر ذلك كثيرون. وترى اللجنة تسويغ هذا الاستعمال، بشرط أن يكون المنسوب إليه أمراً من شأنه أن يندرج تحته أفراد متعددة)) (ينظر كتاب المجمع: الألفاظ والأساليب ص 16)
       وأجازها تأييدا للمجمع عدد من الباحثين، منهم الدكتور عبدالعظيم فتحي خليل، والدكتور إميل يعقوب، والأستاذ عبداللطيف الشويرف.
    وممن أجازها أيضا الدكتور فوزي الشايب في مقال له بمجلة مجمع اللغة العربية الأردني، وكان من أبرز حججه:
1- أن النسب إلى الصفة وارد في كلام العرب، وفي القرآن الكريم، كقوله تعالى: {أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيّ} إذ نسب إلى لفظ "أعجم" وهو صفة مشبهة، ومما ورد عن العرب كذلك دوّاريّ وأكثري وباطليّ وحنيفيّ و ظاهريّ وغريبيّ.
2- أن من النحاة من أجاز النسب إلى الصفة.
3- أن كلمة رئيس قد وردت في كلام للقلقشندي صاحب صبح الأعشى، وهو قوله: "وأما استيفاء الدولة فهي وظيفة رئيسية"

     وأرى إجازتها تأييداً لقرار مجمع القاهرة، وأخذاً بمبدأ التيسير على الناس ما وجد إلى ذلك سبيلٌ  من سبل  المعيارية مما يمكن أن يُحتجّ به للمسموع الشائع، وأرى أن إجازة هذه الياء في الرئيسيّ تكون إما على باب النسب، أي من باب نسب الشيء إلى نفسه أو على أن الياء المشددة هنا للتشبيه، فقولهم "العضو الرئيسيّ" يعني أن هذا العضو ينزل من الأعضاء منزلة الرئيس، أو من باب ورود الياء زائدة للمبالغة أو التوكيد. 

عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة
الجمعة 25 / 6/ 1435هـ الموافق 25 /4 / 2014م.


الثلاثاء، 22 أبريل 2014

مداخلة في كلمة الغطاش من أكاديمي طلب عدم ذكر اسمه

مداخلة في كلمة الغطاش من أكاديمي طلب عدم ذكر اسمه، ونصها:

     كلمة الغَطاش أراها من الفوائت القطعية، وأمَّا قول ابن الأعرابي الذي انفرد به ابنُ سيده: (غَطَشَ وأغْطَشَ والغُطَاشُ - شدَّة الظُّلْمة وَقيل هُوَ أَولهَا وَآخِرهَا وليل أغْطَشُ وغَطشٌ وَلَيْلَة غَطْشَاء)
       وروى المرزوقي قول العرب عن أبي حاتم: (أتانا حين هدأت القدم، وحين هدأ السّامر، وجئتك بغطاش من اللّيل) وهو بلا ضبط في النُّسح المطبوعة عندي
ولا أستبعد خطأ ابن الأعرابي أو أنه يروي لغة في الغَطاش بالفتح؛ فهي رواية مفردة لا تكون حجة على لهجاتنا
       ودعوى أن الغَطاش محرفة عن الغُطاش لا دليل عليها بل الدليل ينفيها، فلهجاتنا لا تتخلَّص أبدا من الضم إلى الفتح وإنَّما ما كان عندهم على فُعال يسكنونه فيقولون (افْعال) وكذلك في بعض ما جاء على (فِعال) وليس في لهجاتنا فرار في هذا البناء أو ما يقاربه من الضم أو الكسر إلى الفتح.
     وما كان على (فَعال) أبقيناه لخفَّته، ولذا أراه من الفوائت؛ لأن عدم عده من الفوائت يوجب أن نقول للناس قولوا: غُطاش لا غَطاش !! 
       وهذه المسألة من أدقّ مباحث الفوائت . انتهى كلامه بنصه.
                                                                             أكاديمي (طلب عدم ذكر اسمه)

تعليقي:
قلت: رأيه يستحق النظر، وأنا أكاد أتفق معه، وأرى أن أنواع الفوائت ثلاثة، وهي:

1-     جذور وهذا قليل ولكنه ليس نادرا، ووجدت منه قدرا لا بأس به. 
2-    ألفاظ أو مشتقات في جذر مستعمل، وهذا كثير، وهو يشمل المشتقات (الأوزان) السماعية، أما القياسية فلا؛ لأنهم قد يتركون القياسيات تخفيفا، للعلم بها.
3-   دلالة للفظ مستعمل، وهذا كير أيضا.
ولذا يجب علينا التريث في القبول أو الرد في فوائت النوع الثاني، ومن أمثلتها استسمع فهو استسمع أي أصغى وأرهف السمع، قال الحطيئة:
دعاهنَّ فاسْتَسْمَعْنَ من أينَ رِزُّهُ     بسحماء من دونِ اللهاةِ هديرُها
وروى ابن سلام في الطبقات قول الفرزدق:
وإنكما قد هجتماني عَلَيْكُمَا     فَلَا تجزعا واستسمِعا للمَراجم
وروى مثله قول الراعي:
وإِن كنتما أعطيتما القَوْم موثقًا   فَلَا تغدرا واستسمعا للمراجم
قال محمود شاكر: ((استسمع: أصغى إصغاء أبلغ من الأول، ولم يرد في كتب اللغة))
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ألا أبلغِ المستسمعينَ بوقعةٍ     تَخِفُّ لها شُمْطُ النساءِ القواعدُ
وقال ذو الرّمّة:
حداها جميعُ الأمرِ مٌجّلوّذُ السّرى    حُداءً إذا ما استسمعتُهُ يهولُها
وفسّره أبو نصر الباهلي صاحب الأصمعي في شرح ديوان ذي الرّمّة بسمعته، قال: ((قوله: إذا استسمعته يريد إذا سمعتِ الحداء هالها)) وبهذا فسّره المرزوقي في شرحه قول ابن هرمة:
فجاوبه مستسمعُ الصوت للقرى    له مـع إتيـان المهبــين مطـعم
يكاد إذا ما أصبر الضيف مقبلاً     يكلمه من حبـه وهـو أعجم
قال المرزوقي: ((يعني بمستمع الصوت: الكلب. ويقال: استمع بمعنى سمع، فهو كاستعجب وعجب))
قلت: استسمع وما تصرف منه بناء شائع في الشعر ولهذا الفعل ومتصرفاته أكثر من عشرين شاهدا، ولم تذكره المعاجم كما قال المحقق محمود شاكر، فكيف فاتتهم؟! ولاستسمع دلالة زائدة على سمع، كما قال شاكر، وهي إرهاف الإصغاء مع إرهاف السمع، وهي في زيادة المعنى مثل: أبصر واستبصر، والمعاجم تذكر الصيغة إذا كان فيها فضل معنى، ألا تراهم يذكرون نحو: اسْتَحَقبَهُ، أي: احْتَملَهُ، واسْتَحلبَ اللَّبنَ، أي: اسْتَدَرَّه، واسْتَرهبَه: من الرَّهَب، واسْتَصْحبَ الكِتابَ وغَيْرَه. واسْتَصْعَبَ عليه الأمْرُ، أي: صَعُب، واسْتَضْرَبَ العَسلُ، أي: صار ضَرَبا، واسْتَطرَبَ القَوْمُ، أي: طَرِبُوا اللَّهوِ طَرَباً شديداً.
ولذا فإن استسمع بمعنى أصغى وأرهف السمع مع كثرة شواهدها يجب أن تذكر في المعاجم، ولذا أراها من أعجب الفوائت!

عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
23/ 6/ 1435هـ

الأحد، 20 أبريل 2014

مداخلة في رسم حرف القيف

مداخلة في رسم صوت القيف
       لعل أقدم محاولات رسم صوت القيف هو ما وصل إلينا عن بعض القدامى وهو رسمها بالكاف الفارسية (گ) وهي من القرن الرابع وربما قبله، وبها رسم ابن دريد في الجمهرة وابن فارس في الصاحبي بيتاً لشاعر تميميّ نجدي بلغة القفقفة: 
                                              ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوم قَدْ نضجت
      وقد تبين لي من دراسة هذه الكاف الفارسية المعبّر بها عن صوت القيف أنها محاولة من القدامى غير موفقة؛ لأنه ينتج عن هذا الرسم في الغالب انحراف صوتي ولحن يتفاقم مع الأيام، وتتحول القيف إلى كاف، وهذا الانحراف يذكّرنا بالانحراف الصوتي في رسم مئة (مائة) وعلّة ذلك الانحراف وسببه أنهم يتهاونون في رسم الشرطة فوق الكاف لأنها غير مألوفة، ومع الأيام يقرؤونها بالكاف العربية، وحدث هذا في عدد من الأسماء العراقية كثيرا، منها العلم (قاصد) ينطقونه بالقيف ويرسمونه بالكاف الفارسية، (گاصد) ومع الأيام تناسوا أنها كاف فارسية واختفت الشرطة، فتوارثوه جيلا بعد جيل بالكاف العربية (كاصد) ورأيتهم يكتبون جملة (كاصد كريم) يعني قاصدُ كريمٍز
    ومثله العلم (مطلق) ينطقونه في العراق كما ننطقه في لهجاتنا بحرف القيف، ولكنهم كتبوه بالكَاف الفارسية (مطلگ) ومع الأيام وبسبب وهم الكتابة تحول إلى الكاف العربية، فكتبوه: (مطلك) وهو علم مشهور عندهم اليوم بهذه الكاف المحرّفة.
       ومن هذا قبيلة (العگيدات) في الشام تنطق القاف بحرف القيف، ويكتبونها بالكاف الفارسية (العگيدات) ومع الأيام تحولت إلى كاف خالصة: (العكيدات) والنسبة إليهم (عكيدي) 
     ومثله (فهد المارك) الأديب السعودي مؤلف كتاب من شيم العرب، تحرف اسمه، فأكثرنا ينطقه: (المارْكْ) وهو في الأصل: (المارِق) اسم فاعل من مَرَق يمرق، ولأنه ينطق بالقيف كتبوه بالكاف الفارسية، ثم تركوا شرطتها، فاختلطت بالكاف العربية، فهم اليوم ينطقون هذا الاسم بالكاف العربية الخالصة (مارك) وقد ظللت زمنا في حيرة من اشتقاق هذا الاسم: (فهد المارْكْ) فكنت أظن المارك أعجميا، ولم يخطر ببالي أنه اسم فاعل (مارِق) بالقيف، وهذا من مساوئ كتابة القيف بالكاف الفارسية.
     وأوضح الأدلة على فساد هذه الكاف الفارسية ذلك البيت الآنف الذكر للشاعر التميمي الذي أفسدته تلك الكاف، وأورده ابن دريد وابن فارس وتناقله محدثون كالرافعي في تاريخ آداب العرب وعبدالله عبدالجبار في قصة الأدب في الحجاز، وكتبوه بالكاف العربية متناسين أنه بالكاف الفارسية، حتى إن محققي الجمهرة والصاحبي لم ينتبها إلى هذا، وهما من علماء اللغة الكبار..  فتحولت القيف المكتوبة بالكاف الفارسية مع الأيام إلى الكاف العربية الخالصة، والبيت هو:
ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوم قَدْ نضجت      ولا أكولُ لبابِ الدَّار مَكْفولُ
هكذا رسموه في المصادر الأربعة، دون شرطة فوق الكاف الفارسية، وصوابه:

ولا أگولُ لگدر الگوم گد غليت  ولا أگول لباب الدار مگفول

 والأحسن أن يكتب بصوت القيف:

ولا أݠولُ لݠدر الݠوم ݠد غَليت  ولا أݠول لباب الدار مݠفول
وأصله في الفصحى:
ولا أقُول لقِدْرِ القَوْمِ قَد غَلِيَتْ   ولا أقُولُ لبابِ الدارِ مقفول

والرواية الأكثر صحة (ولا أقُولُ لبابِ الدارِ مغلوق) يعني: أقول: غَلَتّ ومُغلق.

        ونجد اليوم أن كل من يقرأ هذه القيف (الكاف الفارسية) (حتى من المتخصصين للأسف) ينطقها بالكاف العربية، والحقيقة أنها بالقيف، وقد جاء التحريف الصوتي بسبب الكاف الفارسية المشؤومة.
          ولذا أرى أن نستبعد هذه الكَاف الفارسية من مقترحات رسم حرف القيف، لما ينجم عنها من تحريف وتغيير وفساد ولحن ليكون اجتهادنا دائرا حول رسم القاف بتغيير يسير في إعجامها، ويعضّد هذا أنها حين تكون قريبة من حرف القاف تربطنا بالأصل الفصيح للحرف وهو القاف، فالقيف في أصلها قاف وليست كافاً، ولا يبعدنا الرسم أيضاً عن نطقها الأصلي الأفصح أعني القاف، ثم لا يؤدي إلى انحراف صوتي وتغيير تام لحرف القيف كما حدث مع الكاف الفارسية.
     ومن المقترحات التي طرحها الزملاء في نقاشاتهم في المجمع الافتراضي وأراها تستحق النظر  وأنه يمكن الاختيار منها: أن يرسم حرف القيف بإحدى الصور الآتية:
1-    بنقطتين من تحت.
2-   بنقتين فوقه ونقطة من تحت.
3-  بنقطتين عموديتين من فوق.
4-   بثلاث نقط من فوق.
5-   بنقطة وسط دائرة القاف.
6- بقاف غير منقوطة فوقها رأس الهمزة
7-كتابة القيف بحرف مثل القاف ولكنه مهملٌ من النقط.

وربما يحسن أن يراعى في رسمه وجود الحرف المختار حاليا في الحواسيب، كبعض حروف اللغات الأخرى التي تكتب بالأحرف العربية مما يوافق بعض هذه الأوجه المقترحة أو يقاربها، لأن ذلك سيسهل انتشاره، والرأي ما يراه الجمهور من أعضاء المجمع واللجنة التي ستنظر في هذا.
                                                             كتبه/ عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
                                                            20/ 6/ 1435هـ  -الموافق 20/ 4/ 2014م

الجمعة، 18 أبريل 2014

هل تصحُّ كتابة: (أنتي فعلتي) بإثبات الياء؟ هذا رأيي:

هل تصحُّ كتابة: (أنتي فعلتي او فعلتيه) بإثبات الياء؟ هذا رأيي:

      كتبتُ رأيًا وجيزًا في تغريدات عارضة في حسابي في تويتر في مسألة زيادة ياءٍ بعد ضمير المخاطبة،  نحو (أنتي فعلتي) دون ضمير بعدها و(فعلتيه وضربتيه) متبوعًا بضمير، وكان أصل المسألة الدعوة إلى كتابة اللغة على وجه يراعي التيسير والاطّراد، ومحاولة ردّ الشّاذ إلى القاعدة ومثّلتُ لذلك بكلمات معروفة ومشهورة، مثل: لكن ولاكن، ومائة ومئة، وذلك وذالك، وهذا وهاذا، وهؤلاء وهاؤلاء، والرحمن والرحمان، والحرث (علم) والحارث، وثلثة وثلاثة، وعثمن وعثمان، ونحو هذا، ودار في ذلك جدل بين مؤيّد ومعارض. وأما (أنتي فعلتي أو فعلتيه) فليست من صريح هذا الباب؛ لأن المكتوب المتعارف عليه - أعني (أنتِ) - يوافق المنطوق في الفصحى، ولكنْ ثمة وجهٌ لها، يدخلها في الباب، ولي فيها رأيٌ ربّما يؤخذ عليّ، وأساس رأيي أنّ الكتابة تحكي أو تحاكي اللغة المنطوقة، فإن كنتَ تتكلم بالفصحى، فستكتبها : أنتِ؛ لأنّك لا تمطل هنا، وإن كنت تقولها بلهجتك الممطولة أو في حوار تفاعلي مكتوب فلا بأس من كتابتها (أنتي) حكاية للهجتك فيها، كما يكتبون أمثلة المطل المختلفة، ثم إني أزيدُ على هذا زيادة، وهي أنّهم لو أرادوا التمييز في الفصحى مطلقًا بين (أنتِ فعلتِ) للمؤنث و(أنت فعلت) للمذكر، فكتبوا المؤنثة بالياء (أنتي فعلتي) واصطلحتْ عليه الجماعة لكان حَسَنًا، على أن يكون رمزا كتابيا لا لغة، لأن الفصحى لا تمطل هذا.

            وهذه الياء في (أنتي) ليست ضميرًا، بل علامة، كما أنّ الواو في (أنتمو) و(عليكمو) ليست ضميرًا، ولكنها حرف إشباع، وقد وردت الواو الممطولة عن العرب، ومن لغة المطل هذه ما ذكره سيبويه (الكتاب 3 / 189) في قولهم: ضربهو زيدٌ.
  
   و(أنتِ) و(أنتي) مثل (اللاءِ) و(اللائي) فهما لغتان صحيحتان، والياء في (اللائي) مثل الياء في (أنتي) والظاهر أنّ لغة الإشباع فيها كانت معروفة عند المتقدمين، في قبائل منها قبيلة ربيعة كما رُوِيَ عن الأخفش في كتاب الأوسط (ينظر: ارتشاف الضرب 2/ 912) وعزاها لربيعة أيضا الدماميني في (تعليق الفرائد 2/ 22 )، ووصفها بأنها لغة رديئة (أتحفّظ على وصفها بالرداءة ويكفي وصفها بالشذوذ) وعزاها أبو العلاء المعري في عبث الوليد 226 لعَدِيّ الرِّباب، وذكر أنّهم يقولون: ضربتِيهِ وأكرمتِيهِ. قلت: وهذه اللغة فاشية ومشهورة في كلام المتأخّرين؛ وربما المتقدمين، لورودها في عدد من الأحاديث، مصحوبة بضمير بعدها، والمطل في نحو (فعلتِيهِ) أسهل على اللسان من المطل في أنتِ.

ويمكن قبول الياء في قولهم: «أنتي فعلتي أو فعلتيه» بأربعة أوجه:
    1- اللغة القديمة المحكيّة عن ربيعة أو عديّ الرِّباب.
   2- قياس المطل.
   3- زيادة الرسم في بعض الضمائر مثل (أيّها).
  4- الحاجة إلى التفريق في الرسم بين لفظين متشابهين: أنت للذكر وأنت للأنثى، وبخاصة في لغة التواصل والخطاب اليومي.

ولمطل حركة ياء المخاطبة ثلاث صور:
  أولاها -وهي الأكثر- أن تكون الياء متبوعة بضمير، نحو: ضربتيه وفعلتيه.
  والثانية: ألا تكون متبوعة بضمير، نحو: فعلتي. 
 والثالثة: أن تكون مع ضمير المخاطبة المنفصل: أنتي.

فأما الصورة الأولى -أعني مطل كسرة تاء المخاطبة مع ضمير الغائب بعدها نحو (فعلتِيهِ) فمرويٌ في اللغة عن الخليل وغيره، وذكروا أنها لغة قليلة أو رديئة، قال سيبويه (الكتاب 4/ 200 هارون): «وحدّثني الخليل أنّ ناسًا يقولون: ضَرَبْتِيهِ، فيلحقون الياء. وهذه قليلة» وقال (4/ 200): «واعلمْ أن ناسًا من العرب يُلحقون الكاف التي هي علامة الإضمار إذا وقعت بعدها هاء الإضمار ألفاً في التذكير، وياءً في التأنيث؛ لأنه أشدّ توكيداً في الفصل بين المذكر والمؤنث... وذلك قولك: أُعْطِيكِيها وأُعْطِيكِيهِ للمؤنث، وتقول في التذكير: أُعْطِيكاهُ وأعطيكاها». وقال (4/ 200): «وأجود اللغتين وأكثرهما أن لا تُلحِق حرفَ المدّ في الكاف». قال السيرافي (5/ 70 بيروت): «يريد أن الأجود أن لا تزاد على الكاف ألف ولا ياء وإنما تزاد على الهاء؛ لأنها خفيّة خفيفة لشبهها بالألف فاحتملت الزيادة لذلك». ولم يتعرّض سيبويه للمطل فيما ليس فيه ضمير بعد الياء، نحو أنتي فعلتي، ولم يتعرّض أيضا للمطل مع الضمير المنفصل أنتِ. 
وحكاها ثعلب في المجالس (1/ 112 هارون) ورواها الأنباري في المذكر والمؤنث (1/ 212 عضيمة). 

ووردت هذه اللغة في رسائل الجاحظ (2/ 133) في قول بعضهم: «بكم بعتيني يا الخنّاء؟» وعلّق عليه عبدالسلام هارون بقوله: «كذا في الأصل، وهو وجه جائز في العربية، يزيدون بعد تاء المخاطبة وكافها ياء».
وممن رواها من المتأخرين نصر الهوريني (المطالع النصرية 324) قال: في لغة رَبيعة يُلحِقون الكاف بألف الصلة في خطاب المذكَّر وبياء الصلة في خطاب الأُنثى فيقولون للرجل (رَأَيْتُكا) وللمرأة (رَأَيْتُكي) ويفعلون مثل ذلك في التاء أيضًا، يُلْحِقونها بألف الصلة للرجل، وبياء الصلة للأُنثى، فيقولون له: (قُمْتَا) ويقولون لها: (قُمْتي).

ولغة الإشباع هذه مع التاء التي بعدها هاءٌ نحو (فعلتِيهِ) مرويّةٌ في بعض الأحاديث، إذ جاء في الصحيحين: «لا أنتِ أطعمتِيها ولا سَقَيْتِيها حين حبستِيها، ولا أَنتِ أرسلتِيها فأكلتْ من خشاشِ الأرض». وقال ابن حجر في الفتح: «في رواية مُسلم: (لَئِنْ كُنتِ قَرَأْتِيهِ لقد وَجَدْتِيهِ) كذا فيه بإِثبات الياء في الموضعين، وهي لُغةٌ، والأفصحُ حذفُها في خطاب المُؤنّث في الماضي». وفي حديث عطاء بن يسار: «... فبينا هو معها فى لحافٍ واحد إذا انسلّت فقال قد فعلتيها؟ قالت: نعم» (جامع الأحاديث ح44317) وفي (التوّابين لابن قدامة 1/ 50): «قالَ: فَلِمَ تَفْعَلِينَ هَذَا وَلَمْ تَكُونِي فَعَلْتِيهِ قَطُّ؟». وفي سنن الدارمي: «فقال لها لو راجعتِيهِ فإنّهُ أَبو ولدكِ». وفي حديثٍ في بعض المسانيد: «بئس ما جَزَيتِيها» رواه أبو داود (3316)، وأحمد 4/ 429، 430، والنسائي في "السنن الكبرى" 5/ 231 (8762)، وابن حبان 10/ 237 (4392)، والبيهقي 9/ 109.

وجاءت لغة المطل هذه في كلام بعض الصحابة كما في مسندي أبي داود والبَزّار  في خبر أبي بَرْزَة: (لوَدِدْتُ أَنَّكِ جَعَلْتِيهِ في سقاء) وعلى هذه اللغة يتخرّج حديث المولِد من قول الهاتف لآمنة: «إذا وَضَعتِيهِ فسَمِّيهِ مُحَمّدًا». رواه البيهقي في دلائل النبوة 1/ 82. 

           وأما الصورة الثانيةأعني ألا تكون متبوعة بضمير- فقال أبو عبيد القاسم بن سلّام (الغريب المصنف 3/ 666 ط. التونسية): «ويقولون للمرأة: أنتِ فعلتي ذاك وأنتِ ضربتيه، وسائر العرب فعلتِ ذاك وضربتِ».
     وقال أبو حيّان (في الارتشاف 2/ 912، وينظر: التذييل والتكميل 2/ 132) في الصورة الثانية أيضا: «حُكي: ضربتي، بياءٍ ساكنة بعد الكسرة للمؤنث». 

وأما الصورة الصورة الثالثة - أعني أن يكون ضمير المخاطبة منفصلا: أنتي- فذكرها ابن الأثير في كتاب (البديع في علم العربية 2/ 15) إذ قال: «قد أُلحقت تاء المؤنث فى بعض اللغات ياءً، فقالوا: أنتي فعلتي، وأنتي ضربتيه، قال [الشاعر]:
رَمَيْتِيْهِ  فأَقْصَدْتِ         وما أَخْطَأتِ الرَّمْيَهْ
[بسَهْمَيْنِ مَلِيحَيْنِ      أَعارَتِكِيهما الظِّبْيَهْ]
وهي لغةٌ قليلة».

    

      وذكرها الرافعي في (تاريخ آداب العرب 1/ 82)  أشار إلى أنّ الضمير (أنتِ) ينطق في السريانية: (أنتي).

     ويزعمون أنّ مي زيادة سألت العقاد في رسالة: لماذا تكتب لي (أنتي)، وليس (أنتِ) بكسر التاء؟ فأجابها: يعزّ عليَّ كسرك حتى في اللغة. ولم أجد لهذا مصدرًا معتبرًا.
       
    ويبدو أن ياء أنتي أصيلة في بعض اللغات العُروبية (السامية) كالحبشية مثلا، وهذا ما أشار إليه الأستاذ الدكتور عمر صابر في بعض مواقع التواصل حين طرحت تغريدتي وأثارت التغريدة عاصفة من الجدل بين المؤيدين والمعارضين، والدكتور من الباحثين المميّزين في العُروبيات، فقال في تعليقه: يؤكد ذلك ما نراه في الحبشية أخت العربية في قولهم: anty للمخاطبة في مقابل: anta  للمخاطب. وقال مرة أخرى: سعدت كثيرا بالسياحة العلمية عند الصاعدي في هذه المسألة، وأميل إلى أنّ الياء هنا أصل للتفرقة بين المذكّر والمؤنث، كما ورد في لهجة ربيعة وغيرها، وهذه الياء نراها واضحة رسما ونطقا في الحبشية في ضمير الفاعلية كذلك، في نحو qatalky أي قتلتي  في مقابل qatalka للمخاطب (مع ملاحظة أن الكاف هنا في مقابل التاء العربية) وفي السريانية نرى الياء في ضمير المخاطبة في الفعل موجودة رسما، ولكنها غير منطوقة، وهذه إشارة إلى أصلها. انتهى كلامه.


وقال رمضان عبدالتواب في حديثه عن الفعل المسند إلى تاء المخاطبة: «أمّا العربية الفصحى فقد قُصِرت فيها الكسرة هنا، كما قصرت فتحة المخاطب المذكر.... غير أننا لا نعدم في الشعر والنثر القديم أمثلة من الكسرة الطويلة مع المخاطبة المؤنثة، كما قال الشاعر:
رميتِيهِ فأقْصَدتِ     وما أخْطَأتِ الرَّمْيه
كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «أعصرتِيه؟» ويروي سيبويه عن الخليل بن أحمد الفراهيدي أنّ ناسا من العرب يقولون: ضربتيه، فليحقون الياء. وهذا أمر شائع جدا في اللهجات العربية الحديثة؛ إذ يقال مثلا: كسرتِيهِ وسمعتِيهِ، وما أشبه ذلك» (المدخل إلى علم اللغة 280).

         وثمّة أمرٌ ذو صلة ينبغي التنبيه عليه، وهو أنّ استقراء علماء العربية للهجات العرب وعزو المسموع إليها لم يكن وافيًا ولا دقيقًا، فقد وجدنا بعض ما يعزونه إلى قبيلة واحدة أوسعَ انتشارًا مما يظنّون، كظاهرة القفقفة التي عزوها إلى تميم وحدهم، وهي منتشرة في أكثر القبائل البدوية، حتى سماها أبو حيّان قاف العرب، وكذلك العنعنة التي سمّوها عنعنة تميم لم تكن خاصة بتميم وحدهم، فكل القبائل البدوية الحجازية تُعَنْعِن. ومن هنا يراودني الشكّ في روايتهم للمطل في تاء المخاطبة بصورتيه، فلعله أوسع انتشارًا في القبائل، فهذا المطل مع الضمير خاصة (فعلتيه) شائع في جميع القبائل البدوية والحضرية اليوم.. وانتشاره يدل على سهولته على اللسان.

     والخلاصة أنني أجيز الصور الثلاث التي رواها علماؤنا وعزوها لبعض قبائل العرب، ولا أرى بأسًا في رسم ضمير المخاطبة المنفصل (أنتِ) بالياء (أنتي) كما نقل ابن الأثير وغيره، والمتصل دون ضمير يتبعه (فعلتي) كما نقل أبو عبيد القاسم بن سلّام وأبو حيان وغيرهما، والمتصل المتبوع بضمير مثل (فعلتيه)، كما نقل الخليل وسيبويه والأخفش وثعلب وأبو بكر الأنباري والسيرافي وغيرهم، لماسبق من علل، وللتيسير والتفريق بين المذكر والمؤنث دون اللجوء إلى الضبط، ولا أخطّئ من يكتب الياء في الصور الثلاث المشار إليها، مع التنبيه على شأن الفصحى في ذلك كله، وهو أنها تكتفي بالكسرة، ولا تمطل لا نطقًا ولا رسمًا

عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة 
18 إبريل 2014م