الجمعة، 30 نوفمبر 2018

تشدّدُ الأصمعي ووَهْمُ الجواليقي في النِّحِرير والنَّحارير:


تشدّدُ الأصمعيّ ووَهْمُ الجواليقي في النِّحِرير والنَّحارير

كان الأصمعيّ يحمل لواء اللغويين الأكثر تشدّدًا أو تحرّزًا في رواية اللغة، ويتسع في مفهوم المولد، ونراه أحيانًا ينكر شيئًا من كلام العرب وغيرُهُ يثبته، ومما أنكره كلمة النِّحْرِير وزعم أنها ليست من كلام العرب، قال ابن دريد: ((رجل بليدٌ بَيّنُ البَلادة: ضدّ النِّحْرير. وكان الأصمعِيّ يقول: النِّحْرِير ليس من كلام العَرَب، وهي كلمة مولدة)). (الجمهرة (روغ) 2/ 783).
ويبدو أنّ الجواليقي وَهِمُ فيها حين ظنّ أنّ الأصمعي يراها معرّبة أو أعجمية، بقوله: ((ليست من كلام العرب)) فوضعها في كتاب المعرّب (ص 331)، ضمن الكلمات المعرّبة، ويريد الأصمعي بقوله: إنها ليست من كلام العرب أنّ الأوائل من العرب لم يعرفوها، فهي عنده مما ولّده المولّدون في زمانه. وذكره بعضهم في المولد اغترارا بقول الأصمعي، كالسيوطي في (المزهر 1/ 243) والخفاجي في (شفاء الخليل 497) واعترض الأخير على لأصمعي لحكمه بتوليدها، وإشار إلى عربيتها بشاهد عدي بن زيد والاشتقاق.
ولا يسلّم للأصمعي بهذا الحكم الجائر على هذه الكلمة، فهي عربية المادّة والاشتقاق، وليس فيها من العجمة أو التعريب شيء، وجاءت في شعر قديم، ورواها أغلب صُنّاع المعاجم دون أن ينكروها، ولم يلتفتوا لقوله، وأذكر من نصوصهم:
قال الفارابي في (ديوان الأدب 2/ 77): النِّحْرير: العالِمُ الجيِّدُ العِلْمِ.
وقال الأزهري (تهذيب اللغة (نحر) 5/ 11): النحْرِيرُ: الرجُل الطَبِنُ الفَطِنُ فِي كل شَيْء، وَجمعه: النَّحَارِيرُ.
وقال ابن فارس (المقاييس 5/ 400): والعالمُ بالشَّيءِ المُجَرّبِ نِحْرِيرٌ، وهو إن كان من القياسِ الّذي ذكرناه، بمعنى أنّه يَنْحَرُ العِلمَ نَحْرًا، كقولك: قتلت هذا الشّيءَ علمًا. وارتضى الصغاني في العباب (نحر) هذا الاشتقاق.
وقال الفيروزي (القاموس (نحر) 618): النِحْرُ والنِحْريرُ، بكسرهما: الحاذِقُ الماهِرُ، العاقِلُ المُجَرِّبُ، المُتْقِنُ، الفَطِنُ، البَصيرُ بكُلِّ شيءٍ، لأَنَّهُ يَنْحَرُ العِلْمَ نَحْراً.
وقال الرضي الاستراباذي (شرح الكافية ): ((والنحر، أيضا، بمعنى الأظهار؛ لأنّ نحر الأبل يتضمنه، ومنه قولهم: قتلته نحرا، وقولهم للعالم: نحرير: لأن القتل والنحر يتضمنان إظهار ما في داخل الحيوان))
وزاد مرتضى الزَّبيدي (التاج نحر14/ 187) في هذا قوله: وسُئلَ جَريرٌ عن شُعراءِ الإسلام قال: نَبْعَةُ الشِّعْرِ للفرَزْدَق. قيل: فما تركتَ لنفسك قال: أنا نَحَرْتُ الشِّعرَ نَحْرَاً.
وحين نبحث عن شواهد هذه الكلمة في النصوص نراهم يروون قول عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ العِبَادِيُّ التَّمِيمِيُّ (توفي في 35 ق.هـ)
وأنا النّاصِرُ الحَقِيْقَةَ إنْ أظْـ     ـلَمَ يَوْمٌ تَضِيْقُ فيه الصُّدُوْرُ
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الرَّواغُ ولا يَنْـ      ـفَعُ إلّا المُشَيَّعُ النَّحْــرِيرُ

وهو في ديوانه 90 بتحقيق المعيبد، ويروى هذا الشاهد للأسود بن يَعْفُر، كما في الجمهرة (روغ) 2/ 783 المعرب 331.
وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي (ت 93هـ):
أتحذرُ وَشْكَ البَينِ أم لستَ تحذرُ     وذو الحَذَرِ النِّحْرِيرُ قَدْ يَتَفَكَّرُ

ونجد لهذا الكلمة ذكرًا في كتب غريب الحديث (الغريبين للهروي 6/ 1816 وغريب ابن الجوزي 2/ 396 والنهاية لابن الأثير 9/ 4091) فيما يروونه من حديث حذيفة: ((وُكِّلَتِ الفتنةُ بثلاثةٍ: بالحادِّ النِّحْرير)) قال ابن الأثير: هو الفطن البصير بكل شيء.
ونحرير فعليل، وهو وزن عربي عريق، ومنه صِنْديد وحِلْتِيت وسِرْطِيط، وغِرْبيبٌ، وسِخْتيتُ، وعِبْديدُ، وقِنْديدُ، وخِنْذيذُ، وشِمْطيطُ، وعِرْنِين، وصِّهْميمُ.
ــــــــــــــــــــــــ
عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة 22 ربيع الأول 1440هـ
الموافق 30 نوفمبر 2018م


الاثنين، 19 نوفمبر 2018

السماع بعد عصور الاحتجاج:


السماع بعد عصور الاحتجاج

لستُ بِدعاً في ثقتي فيما تواتر من مفردات البدو في العصور التي أعقبت عصور الاحتجاج، وإن طال بعدهم عن زمن الفصاحة لثقتي بأن المستوى المعجمي أقل المستويات في التأثر بالتغيير، فرأيت من القرائن ما يجعلني أثق في أن ألفاظهم ودلالاتها يمكن أن يستفاد منها إن تحققت فيها شروط الفوائت الظنية، فهذا الزمخشري (ت 538هـ) يثبت في معجمه سماعه من أعرابي في القرن السادس، قال الزمخشري: «وسمعتُ بالبادية كوفيّاً يقول لأعرابيّ: كيف ماوان؟ قال: مَيِّهَةٌ، قال أَمْيَهُ ممّا كانت؟ قال: نعم؛ أَمْوَهُ مما كانت»، فيُلحظ أن الأعرابي صوب للكوفي، فجعل الكلمة واوية لا يائية، فالكوفي يقول: (أَمْيَهُ) والأعرابي يقول: (أَمْوَهُ)، وهذه هو وجه الاستشهاد الذي أراده الزمخشري.

وقد رأيت أن الزمخشري في معجمه أساس البلاغة يكثر من قوله: سمعت، وترددت هذه الكلمة في سماعات لغوية له أكثر من مئة مرة، وروى لنا مادّة تستحق أن تجمع وتدرس، ومنها على سبيل المثال قوله: «سمعتُهُم يقولون: فلان يَسْتَحِيطُ في أمره وفي تجارته؛ أي: يبالغ في الاحتياط ولا يترك».
وقوله: «وسمعتُ من العرب: بيتٌ جَهْوان».
وقوله: «وسمعتُ العرب يقولون في المحاجاة: تَحَكَّيتُك، وهو نحو تقضّي الباز، أو من الحكاية».
            وقوله: «وسمعتُهُم يقولون: عَيناه تَخاذَفَتا بالدَّمْع».
وقوله: «وسمعتُهم يقولون: خَرَطَني بَطْني، وخَرَّطَ البقلُ الماشيةَ تخريطاً».
وقوله: «وسمعتُ أهل السّراة يقولون: رَفَعَ اللهُ خَصَّتَك».
وقوله: «وسمعتُ من العرب من يقول في رائيّة ذي الرُّمّة: أبياتُها كلّها دِفْنُ؛ أي: غامِضة معمّاة».

وقوله: «ورأيت العرب يسمّون الكُزْبَرة والدُّقّة، وينشدون:

باتَـتْ  لهـنَّ ليـــلةٌ دُعْفُقَّـه

طَعْمُ السُّرَى فيها كطعمِ الدُّقّه

مـن غائر العينِ بعيـدِ الشُّقّه

وسمعتُ باعة مكّة ينادون عليها بهذا الاسم».
وقوله: «وسمعتُ من يقول لكلامٍ استهجَنَه: هذا كلامٌ يُذْرَقُ عليه».
وقوله: «وسمعتُ بمكّة -حرَسَها اللهُ- شَيخاً من الشّرف ومعه بُنَيٌّ له مَليح؛ دخلَ عليَّ صَبيحةَ بنائي على أُمِّ هذ الصّبيّ صَبيٍّ من أهلِ السَّراة ابن ثمان سنين فقال لي: ثَبَّتَ اللهُ رَبْعَك وأحدث ابنك؛ أراد: ثَبَّتَ اللهُ بيتَك؛ أي: أهلَك وامرأتَك».

وقوله: «وسمعتُ من يقول: أين رَبِيتَ يا صَبيّ، بوزن رَضِيتَ وتَرَبَّيتَ».
وقوله: «وارْتَدَّ هِبَتَه: ارتجعها، سمعتُه منهم سَماعاً واسعاً، ومنه قوله:
فيا بطحـاءَ مَكّة خَبِّريـني        أما تَرْتَدُّني تلك البِقاعُ»
وقوله: «وسمعتُهُم يقولون: رَصِّنْ لي هذا الخبرَ، بمعنى حَقِّقْه».
وقوله: «وسمعتُهم يقولون: مالي في هذا رَفَقٌ».
وقوله: «سمعتُ مُرْشِدَ بنَ مِعْضادٍ الخَفاجي يقول: خَرجتُ أُبَدِّدُ، كنَّى بذلك عن البَول».
وقوله: «وسَمعتُ مُرْشِداً الخفاجي: تَرَيَّقْتُ الماءَ ورَيَّقْتُهُ الشرابَ: سَقَيته إيّاه على غير ثُفْل».
وقوله: «وسمعتُ خُضيراً الهُذليّ يقول: الحُداء زَبَدُ الفُؤاد؛ أي: يرمى به القلبُ كما يَرمى الماءُ بزَبَدِه، أرادَ سهولتَه عليه».
وقوله: «وسمعتُهُم يقولون: حَيّا اللهُ سَبَلَتَك، وحَيّا اللهُ هذه السَّبَلَةَ المباركة».
وقوله: «وسمعتُ من يحي النار وهو يقول:

تشبّـبي تَشَبُّـبَ النَّميـــمَهْ

تَسْعَى بها زَهْراً إلى تَمِيمَهْ»

وقوله: «وسمعتُ بمكّة من يقول لحامل الجُوالق: اسْتَشِقَّ به؛ أي: حَرِّفْه على أحَدِ شِقَّيه حتى ينفذَ البابَ».
وقوله: «وسمعتُهم يقولون: أَوْرِنِيه».
وقوله: «وسمعتُ في طريق مكّة صَبيّاً من العَرَبِ وقد انْتَحَى عليه بَعيرٌ: ضَرَبْتُهُ فعَرَّدَ عنّي».
وقوله: «وسمعتُ صَبيّاً من هُذيل يقول: غَثَّتْ علينا مَكّةُ فلا بُدَّ لنا من الخروج».
وقوله: «وسمعتُ أهلَ الحِجاز يقولون: غارَقَني كذا؛ إذا دانَى وشارَفَ».
وقوله: «ومن المجاز: فلانٌ حارس من الحرّاس أي سارق، وهو مما جاء على طريق التهكّم والتعكيس، ولأنهم وجدوا الحُرّاس فيهم السرقة. كما قال:
ومُحْتَرِسٍ من مثله  وهو  حارسٌ

فواعجباً من حارسٍ هو مُحْتَرسْ

ونحوه كل الناس عُدول إلا العُدولَ، فقالوا للسّارق: حارس، وقد رأيتُهُ سائراً على ألسنة العرب من الحجازيين وغيرهم، يتكلم به كلُّ أحد، يقول الرجل لصاحبه: يا حارسُ، وما أنت إلا حارس».
وقوله: «وسمعتُ خادماً من اليمامة يقول وقد وَكَفَ السقف: يا سيدي؛ هل أَهَبُ عليه الترابَ؟ بمعنى هل أجعله عليه؟ وهو من الهِبَة».

وقوله: «وسمعتُ العَرَب يقولون: فُلانٌ فَرْخٌ من الفُروخ: يريدون وَلدَ زِناً. وقالوا: فلانٌ فُرَيخُ قومه: للمُكَرَّم منهم».
وقوله: «وسمعتُهم يقولون: افْتَضَحْنا فيك؛ أي: فَرَّطْنا في زيارَتِك وتَفَقُّدِك».
وقوله: «وسمعتهم يقولون: فلان فَلِسٌ من كلّ خير».

وقوله: «وركبتُ في القارِب إلى الفُلك، وهي سَفينةٌ صغيرة تكون مع الملاّحين تُسْتَخَفُّ لحوائجهم، وسمعتُ أنّهم يُسمّونه: السُّنبوك».

وقوله: «واكتريتُ من أعرابيّ فقال لي: أعطني من سِطَاتِهَنَّهْ: أراد من خيار الدنانير».
وقوله: «وسمعتُهُم يقولون: هذا طريق قَشيبٌ: قَذِر، وفيه قَشَبُ: قَذَرٌ».
وقوله: «وسمعتُهُم يقولون: اسْتَهِمَّ لي في كذا».
وقوله: «وسمعتُ من يقول لامرأةٍ: انْدُرِي. وأنْدَرْتُهُ: أخرجته».
وقوله: «وأنشدني بعض الحجازيين:
وبتنــا بقِرْواحِيَّـــــةٍ  لا ذَرا لهـا    مِـنَ الرِّيـح  إلّا  أن نَلُـوذَ بكُـورِ

فلا الصُّبْحُ يأتينا ولا الليلُ ينقضي    ولا الرِّيحُ  مأذونٌ  لها  بسُكُـورِ»

وقوله: «وقف عليّ شيخُ من أهل السَّرَاة في المسجد الحرام فقال لي: ما عَضَبَك؟».
وقوله: «وسمعتُهُم يقولون: وَقَعت هَوشةٌ في السُّوق وجَفْلة، وهو أن ينفِرَ الناسُ لخوفٍ يلحقهم».
وقوله: «وسمعتُ في المسجد الحرام سائلاً يقول: من يَدُلُّني على وَجْهِ عربيٍّ كريمٍ يَحْمِلُني على نُعَيْلَه».
وقوله: «وسمعتُهم يقولون لأهل مكة: المُكُوك، واسْتَوْلَى على مَكّةَ مرةً ناجمٌ من بلادِ نجدٍ فطَرَدُوه، فلما خرَجَ قال: خذوا مُكَيْكَتَكُم».

وقوله: «وسمعتُ صَبِيّةً سَرَوِيّة بمَكّة تقول: عُيَينَتِي نُوَيظرةٌ إلى اللهِ وإليكم».

والزمخشري في هذه السماعات ينقل عن أهل زمانه في القرن السادس في الحجاز وغيره؛ لأنّه يعرف أن اللفظ ليس كالتركيب النّحوي الذي أصابه الفساد بعد عصور الاحتجاج، وكأنه بهذا لا يقرّ قصر السماع في الألفاظ والدلالة على زمن الاحتجاج المشهور، وأكثر سماعاته من أهل الحجاز، حين إقامته بمكة والمدينة، ولو استقرّ في نجد لنقل سماعاته ودوّنها في معجمه، ومنهجه سديد.
وفي القرن السابع نجد الصغاني في غير موضع ينقل عن أهل زمانه، ففي التكملة نراه يرد على الجوهري ويستند إلى استفاضة المسموع في عصره، ويصوّب له العُضَل بضم العين ويقول: «هذا سياق كلام الجوهري، وهذا السياق يندّد بأنّه: العُضَل، بضمّ العين، على ما هو هِجّيراه في وضع كتابه. والصواب: العَضَل ، بالتحريك، واستفاضة هذه اللغة، واستمرارُ ألسنة أهل حَرَض وما والاها عليها تغني عن الاستظهار فيه بما سواه»، وحرض هذه مدينة يمنية لم تزل معروفة إلى اليوم، جعل الصغاني لغة أهلها دليلا له على الردّ على الجوهري؛ وصحح بما في لهجتهم في القرن السابع ضبط الكلمة؛ لأنه أدرك أن لغتهم وثيقة الصّلة بجذورها القديمة، وأنها لم تفسد في المفردات.

وفي القرن الثاني عشر نرى المرتضى الزَّبيدي يأنس أحياناً بلغة أهل عصره، ويقول : «قلتُ: ويُقال: فُلانٌ في تَنْبُوكِ عِزِّه؛ أي: غاية ما بَلَغ من عِزِّه، سَمِعْتُها من عرب الحجاز».

وقال في مادة تبك: «تَبُوك؛ لأنَّ الأزهرِيَّ قد نَقَل عن بعضٍ أَصالَة التّاء، كما سَبَق، فينبغي أن يُشِيرَ إليه، كما فَعَل في تِبراك مع أنّه ذَكَرَه في برك ويُقَوّي هذا القول ما سَمِعْت من عامَّة أهل الشّامِ ينطقون به بضمّ الأوّل».

وقال في تأصيل يستأهل: «قلتُ: وسمعتُ أيضا هكذا من فُصحاء أعراب الصَّفراء، يقول واحِدٌ للآخر: أنت تَسْتَأْهِلُ يا فُلانُ الخَيرَ، وكذا سمعتُ أيضا مِن فُصحاء أَعراب اليَمن»( ). وتأمل قوله في وصفه حالهم: «فُصحاء أَعراب الصَّفراء» والصفراء وادٍ في ناحية الغرب من المدينة وعلى ضفته تقع بدر، وتسكنه قبائل وبطون أكثرها من حرب من بني سالم وبعض بني عوف، ونقلت عن الأعراب في هذا الوادي كثيرا من الألفاظ التي دوّنتها في الفوائت الظنية.

وقال الزَّبيدي: «ومما يُستَدرَك عليه: إِشْكِيفٌ، كإِزْمِيلٍ: الغُلامُ الحَسَنُ الوَجه، هكذا يَسْتَعْمِلُه الحجازيّون، ولا إِخالُهُ إلاّ مُعَرَّباً».

وقال: «الجَبُوبُ: حِصْنٌ باليمن، والمشهور الآنَ على أَلسنة أهلها ضَمُّ الأَوّل كما سمعتُهم».

وقال بعد أن أورد قول سيبويه في (المِسْكِينُ) وأنه مِن الألفاظ المُتَرَحَّم بها: «قلْتُ: وسَمِعْتهم يقُولُونَ عنْدَ التَّرَحُّم مُسَيْكِين بالتَّصْغيرِ».

وقال: «الغَزْغَزة: الأكلُ بالأشداقِ من غير شَهوةِ نفسٍ؛ كأنّه مُكرَهٌ عليه، هكذا سمعتهم يقولون، وأَحْرِ به أن يكون عربيّاً صَحيحا».

وقال: «وكِنْدَةُ، بِالْكَسْرِ، هذا هو المشهور المتداول، وعليه اقتصر الجمهور، قال شيخنا: ورأَيت مَنْ ضَبَطَه بالفَتح أيضاً في كُتب الأنساب. قلت: وسمعت أهل عُمان والبحرين والكِندِيِّين يقولون: كُنْدَة، بالضمّ».

وتفيد هذه الروايات أهمية السماع من (الأعراب) أهل البادية، لنقاء لغتهم في تلك الأزمان، وأنه يمكن أن يستفاد من كلامهم في اللغة، وإن كانت الرواية عنهم بعد عصور الاحتجاج. ومعلوم أن لغة الأعراب هي مادة اللغة في عصور الفصاحة ولم تزل كذلك حتى بعد عصور الفصاحة، على الرغم مما طرأ عليها كغيرها، لكن لهجاتهم تبقى هي الأقرب للفصحى، وعلى اللغويين أن يستفيدوا من كلام الأعراب، دون وجل، فبأيديهم معايير الفُصحى وموازينها تُعينهم على اكتشاف المخبوء.

 وليت الباحثين اللغويين وطلاب الدراسات العليا يلتفتون إلى البحوث اللغوية الميدانية ويرحلون إلى المواضع النائية في بادية الجزيرة لمشافهة أهلها من كبار السن، وتسجيل كلامهم صوتيا وتدوينه واستخراج ما فيه من فصيح، وعرضه على المعجم ومعايير العربية. فثمة بقايا للفصاح في كلامهم، يوشك أكثره أن ينقرض وتفقده العربية.

            ولو قُدّر لصنّاع المعاجم بعد القرن الرابع (أي في الخامس والسادس والسابع والثامن) أن يشافهوا الأعراب ويأخذوا عنهم ويختاروا ما يناسب أقيسة اللغة لجمعوا قدراً وافراً مما فات أسلافهم من صنّاع المعاجم، وحفظوا ألفاظاً نُقدِّر أنها دَرَسَتِ اليومَ وفات معاجمنا العراقية تدوينها فذهبت بذهاب أهلها. 
ـــــــــــــــــــ
تركت الإحالات هنا وهي في الكتاب (فوائت المعاجم).

علّة الثقة في لهجاتنا في أرض المنبع على مستوى المعجم:


علّة الثقة في لهجاتنا في أرض المنبع على مستوى المعجم

إنّ مما يجعلنا نثق في لهجاتنا في جزيرة العرب ومنها منابع اللغة كنجد والحجاز وتهامة والسراة أنْ نرى الألفاظ أو الأساليب الغريبة التي دونتها المعاجم وكتب الغريب لم تزل حَيّة مستعملة كما هي.ومن يقرأ معاجم اللهجات مثل (فصيح العامّيّ في شمال نجد) لعبدالرحمن السويداء، في مجلداته الثلاثة و(معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة) للشيخ محمد بن ناصر العبودي، في مجلداته الأحد عشر يقفْ على مادّة معجميّة فصيحة ثريّة.

وقد رأيت في بعض ما جمعتُهُ من ألفاظ لهجاتنا في أرض المنبع الكثير مما كنتُ أظنُّه للوهلة الأولى فائتًا ظنيًّا فإذا هو مرصود في معاجمنا، بلفظه ومعناه، وفي كل مرة تزداد ثقتي في المستوى المعجمي للهجاتنا، وأن ما أصاب بعض ألفاظها من تغيير في الصوت أو البنية لم يبعدها عن أصلها أو يطمس معالمها، ومن السّهل إصلاح ذلك ومعجمتها على وجهها الفصيح القديم.

ومن أمثلة ذلك قولهم في تهامة الحرمين: ما له سَبَد ولا لَبَد، أو ما يترك سَبَد ولا لَبَد. والاستعمال قديم، وهو مُمعجم، قال الأزهري: «وقولهم: ما له سَبَد ولا لَبَد، أي: ما له ذو شَعْر ولا ذو وَبَر متلبِّد، ولهذا المَعنى سُمِّيَ المالُ سَبَداً»( )، وفي هذا دلالة على فصاحة البادية، وأنهم يتوارثون لغتهم العربية القديمة ولا يتأثّرون بغيرها مع أن هؤلاء على طريق الحج في تهامة.

ويقولون في بادية الحجاز ونجد: فلان يحضرم، إذا كان يدمدم بكلام غير مفهوم من الغضب والغيظ()، وهذه ممعجمة، قال الزبيدي: «حَضْرَمَ الرَّجُلُ حَضْرَمَةً: إذا لَحَنَ وخالَفَ الإعراب في كلامِهِ»( ).

وفي لهجاتنا في نجد والحجاز: فلان يَتَحَرْقَص، إذا تحرّك من وجع أو ضجر الانتظار، فهو يتحفّز  ويتقبّض، وقال الشيباني في الجيم: «والتَّحَرْقُص: أن يتقبّض الرجل، أو الدّابّة، من البرد أو الوجع»( ).

ويقولون في تهامة وجازان: الشِّجْنة: القبيلة، ويقولون: من أيّ شِجْنة أنت؟ أي: من أيّ قبيلة؟ وما شِجنتك؟ أي ما قبيلتك( )؟ وفي الصحاح: «يقال: بينى وبينه شِجْنةُ رَحِمٍ وشُجْنَةُ رحمٍ، أي قرابةٌ مشتبكةٌ. وفي الحديث: "الرَحِمُ شِجْنَةٌ من الله"؛ أي: الرحم مشتقَّة من الرحمن، يعني أنَّها قرابةٌ من الله -عزّ وجلّ- مشتبكة كاشتباك العروق»( ).

وقولهم في بادية الحجاز وتهامة الحرمين وعالية نجد: فلان يَعْتِب في مَشْيِه؛ أي: يظلع، يظنها الظانّ عامية لا أصل لها، ولكن في العين: «والفحل المعقول، أو الظالع إذا مشى على ثلاث قوائم كأنّه يَقْفِزُ يقال: يَعْتِبُ عَتَباناً»( ).

ويقولون في تهامة الحرمين: غَرَّزَتِ الجرادة، إذا غَرَزَتْ ذيلَها في الأرض لتبيض، وفي الجمهرة: «وغَرَّزتِالجرادةُ، إِذا أدخلتْ ذنبَها فِي الأرض لتبيض»( ).

ويقولون في منطقة حَوالة وما حولها من نواحي الباحة بالسراة: العِيشة باسلة، وهي عربية فصيحة، وردت في اللسان( ) وغيره.

ومما يجري على ألسنتهم: السِّعِن والشَّكوة لأديمٍ يُتّخذ من جلد السَّخلة، يشبه القربة الصغيرة، يُجعلوعاءً للبن أو السّمن، وهي شائعة لدى قبائل جزيرة العرب، وذكرتها المعاجم القديمة بلفظها ومعناها.
ويقولون في السراة: فلان (يُغَوِّث) أي: يصرخ بأعلى صوته كأنه يستغيث. وفي التاج: «غَوَّثَ الرجلُ، واستغاث: صاح: وا غوثاه»( ).

ومن ذلك الوَعِيْ (ويقفون عليه بالسكون ويحرّكون العين بالكسرة) وهو الصّديد أو القيح الذي يخرج من الجرح. وهذا بلفظه ومعناه في معاجمنا، ففي التّهذيب عن أبي زيد الأنصاري: «إذا سالَ القَيْح من الجُرْح قيل: وَعَى الجُرْحُ يَعِي وَعْياً. قال: والوَعيى هُوَ القَيْح. ومثله المِدَّة»( ).

ومن نوادر لهجاتنا: قولهم: تَخَطْرَيتُهُ وتَخَطْراني وتَخَطراه؛ أي: تجاوزه، وقد يَظُنّ ظانٌّ أنها عامّيّة، ولكنّها عريقة مُمعجمة، ففي التاج: «قالوا: تَخَطْرَاك وتَخَطَّاك بمعنًى واحِد، وكان أبو سَعيدٍ يَرْويه: تَخَطَّاكَ، ولا يَعرف تَخَطْرَاك. وقال غَيره: تَخَطْرانِي شَرُّ فلانٍ وتَخَطَّانِي: جَازَنِي»( ).

وفي احتفاظ لهجاتنا بالغريب والنادر وغير الشائع ونحوه دلالةٌ واضحة على فصاحتها في منابع العربية القديمة، واتصالها الوثيق بأصولها الأولى، ومقاومتها لتعاقب الأزمان، وأنها حفظت لنا مخزونَ الألفاظ والدلالة، وأن الفساد أصاب النحو وبعض التصريف، وبقيت الألفاظ على المستوى المعجمي صالحة قريبة المأخذ. وحين نجد شيئا من هذا على المستوى المعجم والدلالة ولا نراه في المعاجم القديمة فليس لنا أن نردّه ونسِمُه بوسم العامّيّة، بل على الباحث أن يتمهّل وينظر في القرائن والمرجّحات، فقد يكون فصيحاً فائتاً.

ولم تبتعد لهجات القبائل البدوية في ديارها في جزيرة العرب عن أصولها الفصيحة وهي حجة في المستوى المعجمي للألفاظ والدلالة وبخاصة حين يتسع الأطلس الجغرافي للفظ، ولست أول من فصّحها فقد رأيت اللغوي المصري الدكتور محمد عيد يرى شيئا من هذا، حين يقول: «لا ينسب إلى لهجات العصر الجاهلي من التفضيل والتمييز  ما تحرم منه اللهجات التي تنطق الآن بين قبائل الجزيرة العربية التي تقطن الأماكن التي وجدت فيها اللهجات العربية القديمة»( ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تركت الإحالات هنا وهي في الكتاب (فوائت المعاجم). 

الأحد، 18 نوفمبر 2018

أنواع الفوائت الظنية وشروطها:


أنواع الفوائت الظنية وشروطها
تعريف الفوائت الظنية:
 هي ألفاظ أو دلالات خَلَتْ منها المعاجم، ولم ترد في مصدر قديم يعتدّ به، مع وجودها في بعض لهجات المنبع وما يرفدُها، وتحققت فيها معايير ترجّح فواتها مع احتمالها التوليد الصحيح.

الفوائت الظنية ثلاثة انواع:
1-    جذورٌ وهذا قليل، ولكنه ليس نادرا، مثل بقص وجغم ودسمر وعذرب وغوش، وكلها مهملات، ووجدنا لها مادة في لهجاتنا وتحققت في فيها شروط الفوائت.
2-    ألفاظٌ أو مشتقاتٌ في جذر مستعمل، وهذا كثير، وهو يشمل المشتقات (الأوزان) السماعية، أما القياسية فليست من هذا؛ لأنهم قد يتركون القياسيات تخفيفا، للعلم بها. وأمثلته في نماذج الفوائت الظنية في القسم الثاني.
3-    دلالةٌ للفظٍ مستعمل، وهذا كثير أيضا. وأمثلته في نماذج الفوائت الظنية التي سيأتي ذكرها في القسم الثاني.

ضوابطها أو شروطها اللازمة ومؤشراتها المرجّحة:
    وضعتُ للفوائت الظنّيّة ضوابطَ أو معاييرَ أو شروطاً إذا تحققت فيها بلغ اللفظ درجة الفائت الظنّيّ، والشروط أو المعايير أو الضوابط نوعان: شروط أو ضوابط لا بد من تحققها فيها وهي ثلاثة ، ومعايير فرعية أو مؤشرات مساعدة مُرجّحة، ليست لازمة، ولكن حين نجد بعضها مع الشروط الثلاثة اللازمة فإنها ترفع من صِدقيّتها وموثوقيتها إلى درجة عالية تقربها من الفوائت القطعية.

     والفرق بين النوعين أن تحقّق الشروط أو الضوابط اللازمة الرئيسة الثلاثة لازم، وإن تخلّف أحدها بطل القول بالفوات الظني، أما المؤشرات المرجّحة فلا يلزم تحققها نظرا لندرة تحققها بسبب طبيعتها، ولا يكون تخلّفها مُخلاً أو مانعاً من حكم الفوات الظني، إلا أن في تحققها أو بتحقق بعضها مزيد تأكيد وتأييد وترجيح للحكم بالفوات، دون أن يغني ذلك شيئاً إنْ تخلّف شرط من الشروط الرئيسة، وفيما يأتي تفصيل ذلك:

أ:  الضوابط أو الشروط اللازمة لمعرفة الفوائت الظنية: وهي ثلاثة:
الشرط الأول: تحقق المعيار اللفظي:
     وأعني به بناءَ الكلمة في أصواتها وصرفها، فيجب أن توافق ما جاء في كلام العرب زمنَ الفصاحة، أصواتاً وصرفاً، والباحثُ اللغويُّ يدركُ السبكَ العربيَّ الفصيح، ويدركُ أيضا ما يلحقُ باللهجات من تغييراتٍ عامّيّةٍ تؤثّر على تصريف كلامهم في كثيرٍ من ألفاظهم الفصيحة، وفي وسعه أن بردِّها إلى أصلها البنائيّ بيسرٍ أو بلطف الصنعة، وكان علماؤنا يأنسون بالمشابهة، وربما قبلوا لفظا أو ردّوه لهذا، وهذا ابن فارس يرد لفظا، ويقول في العلّة: لأنّه لا يُشبه كلام العرب( )، وقال في موضع آخر: وهذا لا يُشبِهُ كلامَ العَرَب( ).
فمن ذلك كلمة: (الخَشِير بمعنى الشريك) و(ارتبش) على وزن افتعل بمعنى اضطرب، فإنّ حروفَهما تشير إلى أنهما من حاقِّ كلام العرب، فهي عربية الصوت والبنية.

     وكذلك (عَرَشَ العظم) إذا أخذ العظم بيديه ونهس بقايا اللحم عليه بأسنانه، وكذلك اعترشه، وعرمشه، وهذا الأخير مفكوك من عرّش، بقلب ثاني المثلين راء، وللفكّ نظائر في كلام العرب.

     ومنه قولُهم: الجُغّمة مقلوب الغُمجة، وقولهم: ادْمَحْ الزَّلّة، وادْمَحْ زَلِّتي، وفلان يدمحُ الزلة؛ أي: يغضي عن الخطأ في حقّه. وفي المعاجم دَمَّحَ الرجلُ رأسَه طأطا وانحنى.. والصلةُ بين المعنى اللهجيِّ هذا والمعنى الأصليِّ واضحة؛ لأنّ من يَدمَحُ الزّلّةَ ويُسامحُ عليها كمن يَحني ظهرَه ويُرخي رأسَه، تساهلا وإغضاءً عن زَلّة صاحبه.
     وأما قولهم في بعض القبائل البدوية بالحجاز وتهامة الحرمين ومنها قبيلتي عوف من حرب: وَضْنَك يُوَضْنِك وَضْنَكةً؛ إذا دمدم بكلام غير مفهوم متضجّرا، مثل حَنْتَم يُحَنْتم حنتمة وحَضْرَمَ يُحضرم حضرمة، فهي مما لم يتحقّق فيه المعيار اللفظي؛ لمخالفته لقياس ائتلاف الحروف في بناء الكلمة العربية، فوَضْنَك وَضنكة يخالف قياسهم؛ لأن حرف العلة لا يكون أصلا في رباعي إلا في باب وسوس، فإن جعلت الواو أصلا خالفت قاعدة صرفية وإن جعلتها زائدة أدى ذلك إلى وزن غير مألوف وهو (وفعل) وإن جعلت النون زائدة أدى ذلك إلى جذر مهمل وهو (وضك) وأبعدها أيضا عن أصل اشتقاقها الذي يدل عليه المعنى وهو ضنك، والصحيح أن وَضْنَك مقلوبة من ضَنْوَك يُضنوِك فتكون الواو زائدة كواو هَرْوَلَ، ويسلم اللفظ من مخالفة ائتلاف الحروف، وضَنْوَك يُضَنْوِك هذا مفكوك من ضَنَّكَ يُضَنِّك؛ أي: من الضّنك، (ضنَّك > ضنوك)؛ لأن المُغضَب الذي يُدمدم بكلام غير مفهوم يشبه المضنوك المشحون بالغضب. ولهذا يمكن أن نقول: إن وَضْنَك ليست من الفوائت الظنية؛ لأن المعيار الأول غير متحقق فيها فهي متفرّعة بالقلب المكاني من ضَنْوَك يُضَنْوِك، والقلب مقصور على السماع، ولا يظهر أن هذا القلب قديم فيها، فهي إلى اللحن الصرفي أقرب.

الشرط الثاني: تحقق المعيار الدلالي:
     وهو أن تكونَ الدلالةُ مناسبةً لحياةِ العربِ في أزمانِ الفصاحة، أي مما هو مألوفٌ في حياتِهم، فإن كانتِ الدلالةُ لشيءٍ حادثٍ في العصورِ المتأخرة مما جدّ في الحياةِ عُرفَ أنها دلالةٌ محدثة، وأنها ليست من فوائتِ المعاجمِ القديمة.
    وحينَ نُنعمُ النظرَ في الأمثلةِ السابقةِ (الجُغْمة والخشير وارتبش وعَرَشَ العظم وعرمشه ويدمحُ الزلة) نجدُ أن الدلالةَ متوافقةٌ مع ما يألفُه العربُ في حياتِهم اليومية، وليستْ دلالةً حادثةً بعدَ أزمانِ الفصاحة.

الشرط الثالث: تحقق المعيار الجغرافي أو الأطلس الجغرافي:
     وأعني به بيئةَ اللهجة، فحينَ تكون اللهجة واسعةَ الانتشار معروفةً في عددٍ من القبائل المتفرقة فإنّ ذلك يرجّح فصاحتها مع الأخذ بالمقياسين السابقين، فكلماتٌ مثل (الخشير والجغمة وعرش العظم وعرمشه ويدمح الزلة) منتشرةٌ بينَ قبائل الجزيرة وبيئاتها، وكذلك الفعل (ارتبش) واسع الانتشار في قبائل حجازية ونجدية وفي منطقة عسير وفي الشمال نواحي حائل وتبوك والجوف.

     فإن كانتِ الكلمة محصورةً في قبيلةٍ أو بيئةٍ واحدةٍ فحسب دعا ذلك إلى التريّث قبلَ الحكم بأنها من فوائت المعاجم، مع أنّ علماءنا القدما أثبتوا في معاجمهم ما يُسمعُ من قبيلةٍ واحدة أو من شاعر واحد، لكننا في مقامِ احتراز، فيحسنُ التشدّدُ هنا؛ لأنّ أمرَ الفوائتِ ظنيّ.

     فكلماتٌ مثل: الجُغمة، والخَشير، وارْتَبَشَ فهو مرتَبِش، ويدمَحُ الزّلّة، والرَّهْوة: المكانُ المرتفع، والشَّرْوَى وشرواك؛ أي: مثيلُك، وأزْرَيتُ بمعنى عجَزْتُ عن فعلِ شيء، والهَمْطُ وهو الهذرُ في الكلام، وانحاشَ بمعنى هربَ وولّى، وارجَهَنّ بمعنى جلسَ وسكن، والعَزْقُ بمعنى التضييق، ومُتَحَشِّد؛ أي: مُستحٍ؛ هي مما ينتشر بينَ قبائل الجزيرة وبيئاتها.
     وأنبّهُ على أمر مهم وهو أن القطعَ أو الجزمَ بالفوات أمرٌ لا سبيلَ إليه مالم نجدْ شاهداً قديما، ولكنَّ هذه المقاييسَ الثلاثةَ هي للتقريب، أو لنقلْ للترجيحِ، فحينَ نقول إن هذه الكلمةَ من الفوائتِ الظنية، يعني هذا القولُ غلبةَ الظنّ بأنها من الفوائت؛ لتعذّر القطعِ بالفائت بغيرِ شاهد. واجتماع هذه المعايير الثلاثة في كلمة أو دلالةٍ لهجيةٍ حريّ بأن يقربَها من درجة اليقين حين يُحكمُ بأنها من الفوائت، دونَ الجزمِ المطلقِ بذلك؛ لتعذّر القطع بالفائت دونَ شاهدٍ أو نصٍّ قديم، بخلافِ الفوائتِ القطعية، فهي مرصودةٌ في مصدرٍ قديمٍ موثوق، كدواوينِ الشعرِ وكتبِ الأدبِ واللغة والنوادر ومصادر التراثِ الموثوقِ بها.

ب: المؤشرات المساعدة المرجّحة غير اللازمة، وهي أربعة:
     ذكرت فيما سبق ثلاثة ضوابط أو شروط للحكم على كلمة أو دلالة في لهجاتنا بأنها من فوائت المعجم.. وهنا أذكر مؤشرات مساعدة أو مرجّحة ومقوّية لما سبق، ولكن لا يلزم تحققها في كل فائت ظني لما أسلفت، وهي:

1-  اللهجات المهاجرة، وأعني بهذا أن تؤكد لهجة مهاجرة لفظة أو دلالة فتوافق الفروع الأصول؛ أي: توافق ما في أصولها في جزيرة العرب، وهذا يحدث في لغات القبائل المهاجرة من المشرق إلى المغرب العربي إبّان الهجرات الأولى في زمن الفتوحات وما أعقبه من موجات للهجرة والاستقرار  هناك،  فيدل اتفاق الفرع والأصل على قدم الكلمة أو الدلالة، لأنها وصلت إلى لغات المغاربة منذ زمن مبكر مع القبائل التي هاجرت إلى تلك الديار أيام الفتوحات الإسلامية أو في الهجرات المتعاقبة لقبائل من سُليم وهُذيل وتميم استوطنت الشَّمال الإفريقي، ومن آخرها تغريبة بني هلال، فالتوافق يشير إلى قدم اللفظ أو المعنى، وأنه يرجع إلى أيام الفصاحة؛ لأن استعماله - في الغالب - كان شائعا قبل نزوح تلك القبائل إلى المغرب العربي بزمن يكفي لشيوعه وتمسكّ المهاجرين والباقين في ديارهم به، ليبقى راسخا حيًّا في البيئتين على الرغم من تباعدهما وشبه انقطاع الصلة بينهما مما يجعلنا نطمئن كثيرا إلى قدم اللفظ عند تحقق هذا المعيار الرابع إلى جنب المعايير الثلاثة الرئيسة اللازمة، ومثال ذلك كلمة الجُغمة بمعنى الجرعة من الماء، وجذرها مهمل، وهي منتشرة في لهجاتنا في الحجاز ونجد وعسير واليمن وعمان، وقد تحققت فيها الشروط الثلاثة ويضاف إليها هذا المعيار المُرجح أعني اللهجات المهاجرة، إذ وجدناها مستعملة في شرق الجزائر وجنوب تونس وفي ليبيا، وهذا يجعلنا أكثر طمأنينة في الحكم عليها بالفوات.

2- نظرية الاشتقاق الأكبر عند ابن جني، وهي تعين في الحكم بالفوات الظني، وكان ابن جنّي وشيخه أبو عليّ الفارسي يستعينان بالاشتقاق الأكبر (التقليبات) ويخلدان إليه, مع إعواز الاشتقاق الأصغر( ) في مواضع منها بحثه الجريء عن المعنى العام للتقليبات الستة للثلاثي، وكذلك محاولة الكشف بالتقليب عن حقيقة ما خفي من حروف العلة، كاستدلاله بأن لام الشظا واو لا ياء، فقال : «لام (الشظا) مُشكلة، ولا دلالةَ في شَظِيَ يَشْظى، إلَّا أنَّهم قد قالوا فيما يُساوِقه: الشُواظ والوَشِيظة، ولم أرَ هنا الياء، وهذا مذهبٌ كان أبو عليٍّ يأخذ به. ومعنى الوشيظ والشظا متقاربان لأنَّ الوشيظة: قُطَيعة عظم لاصقةٌ بالعظم الصميم، وهذا نحو الشظا والشَّظِيَّة؛ فهذا يقوي الواو»( )، فجعل ابنُ جني الوَشيظةَ والشُّواظَ دليلاً على لام (الشظا) بالاشتقاق الأكبر، فحكم بواويتها، ولنا أيضا أن نستدلّ بهذا الاشتقاق الأكبر على صحّة السماع في لهجاتنا، وهذا موضع دقيق ونفيس جدا. وهو «أن تأخذ أصلًا من الأصول الثلاثي، فتعقد عليه وعلى تقاليبه، الستة معنًى واحدًا, تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه, وإن تباعد شيء من ذلك عنه رُدَّ بلطف الصنعة والتأويل إليه, كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد... فمن ذلك تقليب "ج ب ر   فهي –أين  وقعت- للقوة والشدة، ... ومن ذلك تراكيب "ق س و " "ق وس " "وق س " "وس ق " "س وق "  وأهمل " س ق و " , وجميع ذلك إلى القوة والاجتماع... ومن ذلك تقليب "س م ل " "س ل م " "م س ل " "م ل س " "ل م س " "ل س م " والمعنى الجامع لها المشتمل عليها الإصحاب والملاينة»( ).

      وكان ابن جني يدرك ما في تطبيق الاشتقاق الأكبر على كثير من الجذور من صعوبة بالغة، ويرى عدم اطّراده، قال: «واعلم أنّا لا ندعي أن هذا مستمر في جميع اللغة, كما لا ندعي للاشتقاق الأصغر أنه في جميع اللغة. بل إذا كان ذلك الذي هو في القسمة سدس هذا أو خمسه متعذرًا صعبًا, كان تطبيق هذا وإحاطته أصعب مذهبًا وأعز ملتمسًا»( ).

     ومع تلك الصعوبة يمكن الأُنسُ بهذا الاشتقاق الذي ذكره ابن جنّي متى أمكن الوصول إليه وحين نجد معاني الجذور (التقليبات) دائرةً حول معنى واحد أو متقارب كلها أو المستعمل منها فإن هذا يفيد بأن ما يتفق مع هذا المعنى مما نجده في لهجاتنا ولا نجده في المعاجم ومما تحققت فيه الشروط الثلاثة هو من الفوائت الظنية، التي عززتها نظرية الاشتقاق الأكبر.

     ومن ذلك قولهم: عَمَكَ الرّجلُ الشيءَ يَعمُكُه عَمكا إذا عَرَكَه، وعَمَكَ أنفَه إذا حَرَّكه مع ضغطٍ عليه، وتَعَمَّك البعيرُ بغيرِه إذا عَرَكَ أنفَه بغيره، ومن مجاز عمك: تَعَمَّكَ الرجل برفاقه مازحهم وعاضلهم، وتعمّكتِ المرأةُ بزوجها مازحَتْه ولاطفَتْه وعَرَضَت له. و(عمك) في هذا الاستعمال اللهجي جذرٌ مهل، وهو مقلوبُ (عكم) المعجمي، ويؤيد صحّته تأمل المعنى في بعض تقليبات هذا الجذر: (عكم): فمنها يقال عكمت الناقة؛ أي: جمعت شحماً على شحم. و(مكع): مهمل و(كعم): يقال: كعم الرجل المرأةَ إذا قبّلها بطريقة تجمُّعِ الفمِ بعضه على بعض و(كمع): الكميع الضجيع وكامع المرأة إذا ضمّها إليه، وكأنّه يجمعُ جسدَها بعضَه على بعض، و(عكم) يقال: عكم المتاعَ جمعَ بعضَه على بعض، ويُلحظ أنّ الدلالة العامّة هي الجمع والتقبّض، فيستأنس بهذا في دلالة (عمك) اللهجية محلّ البحث، وهو جذر مهل في المعاجم، فقولهم: عَمَكَ أنفّه حرّكه وجمع بعضه على بعض يدلُّ على صحّة هذا الاستعمال؛ لأنّ فيه معنى التجمّع الذي نراه في تقليبات هذا الجذر على طريقة الاشتقاق الأكبر.

3- الاستئناس بنظرية ثنائية الألفاظ أو الجذور، وهي النظرية القائلة بأن اللغة مرّت في مرحلة من مراحل  تطورها بالثنائية، أي كانت ثنائية الجذور، ثم تطورت إلى الثلاثية والرباعية والخماسية، مثل الأصل (غَمْ) تدور دلالته الأصلية حول الستر والتغطية بالماء، وسيل الماء وجرعه، فيفكّ تضعيف الثلاثي المضعف منه (غمَّ) فتنشأ جذور ثلاثية تحمل المعنى الأصلي مع تنويع طفيف في الدلالة يخصص كل أصل منها ويميزه عن غيره، وهي: غمْ - غمّ > غمت > غمج > غمد > غمر > غمز > غمس > غمص (غمصت العين: سال غمصها) غمض > غمل > غمن > غمو > غمي.

     فإن وجد فعل في لهجاتنا ولم تذكره المعاجم واتّسَقَ الفعل مع باقي المفكوكات من الثنائي فإن ذلك يرجّح صحته ويؤيده، وقد نجد المفكوكات المتطوّرة من الثنائي (الثلاثي المضعف) ولا نجده في لهجاتنا، فتصححه المفكوكات منه، وأضرب لهذا النوع الأخير مثالاً واحدا، وهو أن الفعل (لقّ) يلقّ في لهجاتنا يعني لمع وأضاء، أو أن الشيء شديد البياض والنظافة، وهذا المعنى لم يُذكر في معاجمنا، ولكنهم ذكروا المعنى في مفكوكه (لهق) قال صاحب التاج: «ولَهِقَ الشيءُ كفرِح لَهَقاً. ولهَقَ مثل مَنَع لهْقاً، فَهُوَ لهِقٌ: ابيضَّ شَديداً»( ).

     ونرى ذلك في الثلاثي المتطور من الجذر الثنائي (لق) بتصديره بهمزة (ألق) ومعناه البياض واللمعان، ومنه تألّق البرق. فهذان الفرعان المعجميان (ألق) و(لهق) بمعنى البياض الشديد يصحّحان ما في لهجاتنا في قولهم: لقّ يلقّ؛ أي: لمع وأشتدّ بياضه.

     ومن هذا قولهم: شلّ الحَجَرَ يشلُّهُ؛ بمعنى رفعه، وهي مسموعة في عدد من لهجات القبائل في عسير وما حولها وحضرموت، وليست في المعاجم، ولكن فيها الثلاثي الأجوف المفكوك من شلّ أعني: شال، ففي الصحاح( ): شُلْتُ بالجرّة أشول بها شولا: رفعتها، وشالت الناقة بذنبها تشوله وأشالته، أي: رفعته، قال النّمر بن تولب يصف فرسا( ):
جمُـومُ الشَّدِّ شائلةُ الذُّنابَى         تخالُ بياضَ غُرّتِها سِراجا
وفي اللسان: «ورَبَع الحَجَرَ يَرْبَعُه رَبْعاً وارتبعه: شالَه ورفعه»( ). والظاهر أن شلّ بمعنى شال من الفوائت الظنية، وقد تحققت فيها الشروط الثلاثة، وتؤيدها الثنائية فشال مفكوك من شلّ. ومثل هذا كثير لا يكاد يحصى.

4- الاستئناس باللغات العروبية (اللغات السامية) لتأصيل لفظ لهجي غير مُمعجم مما يكون لفظه ومعناه أو بعضه في لغة من اللغات السامية، مع توفّر شروط الفوائت الظنية الرئيسة الثلاثة، فالعروبيّات (الساميات) متقاربة لفرّعها من أصل واحد قديم، وثمة ألفاظ فاتت المعاجم ولم تزل حيّة في موروثنا اللهجي في جزيرة العرب، وهي من بقايا مشترك عروبيّ قديم، وقد يموت اللفظ في بعض العروبيّات ويبقى حيّا في بعضها.
وما أحسنَ قولَ العبودي: «رُبّ لفظٍ مات في كل اللغات الساميّة الحيّة المعروفة، ولكنه بقي في لغة العامّة في بلادنا يدلّ على عروبته ومن ثَمّ ساميّته»( ).

    وهناك أوزان مشتركة بين الساميات، مثل فاعول، فيرى الأب مرمرجي الدومنكي( ) أن وزن (فاعول) ساميّ الوضع والاستعمال؛ لوروده في أغلب الألسن السامية ولهجاتها، وهو كثير الورود في السريانية للدلالة على اسم الفاعل والصفة والمبالغة، كما يطلق أحياناً على اسم العين، لكّنه وارد أيضا في العربية. وإن كان ذلك أقلّ مما في السريانية للتعبير عن الاسمية واسم الفاعل واسم الآلة والوعاء .

    وانتهى عبد الله الجبوري -بعد دراسة نصوص متفرّقة- إلى أن صيغة فاعول صيغة عربية صحيحة وإنْ ورد منها شيء من الأصل السرياني فهو إرث لغوي قديم ساميّ( ) .

    ويقول الجبوري: «إن الآرامية (ومنها السريانية) هي الصورة المتقدّمة للعربية القديمة المتطوّرة، والعبرانية هي فرع من الآرامية.. لأجل هذا تتبعت ألفاظا وردت في لهجتي: الموصل ولبنان لأنهما حفظا إرثا من الأصول الآرامية»( ).

    ومما في لهجاتنا في قبائل الحجاز ونجد وعسير فعل تَشَنْقَلَ فهو مُتَشَنْقِل، أي سقط على رأسه أو ظهره مع ارتفاع قدميه، وشَنْقَلَ رجله رفعها على جانب، وهذا المعنى لم يرد في معاجمنا، ويحتمل هذا الفعل أن يكون رباعيا من شنقل أو ثلاثيا من شقل والرباعي شبه مهمل، والثلاثي فقير جدا في معجمنا حتى قال ابن فارس: (شقل) الشين والقاف واللام ليس بشيء، وقد حُكي فيه ما لا يعرّج عليه( ).

     وعند تحليل الفعل شنقل وتشنقل على ضوء العروبيات (الساميّات) يظهر لنا وجهان في تأصيله؛ أحدهما: أن يكون من (شقل) فتكون النون زائدة، والآخر: أن يكون من (شنق) فتكون اللام زائدة، وبعض العروبيّات ترجح اشتقاقه من (شقل)، ففي الإثيوبية سقل (س=ث في العربية): عَلِقَ، وجذر العبرية (شقل) يدل على الوزن، وفي السريانية (شقل) يعني: وزن، ورفع، وفي الأكادية (شقالو): وزن ورفع، وهذه الموازنات مع تحقق الشروط الثلاثة ترجع أنّ (شنقل) رجلَه -بمعنى رفعها مما هو مسموع في بعض لهجاتنا- من الفوائت الظنية.
     ومما يُؤنس فيه بالموازنات العروبية (الساميّة) الفعل (ذَلَفَ يذلف) فليس في جذر (ذلف) في معاجمنا القديمة  شيء من معنى ذلف اللهجية التي بمعنى غَرَبَ عن الوجه وتنحّى شبه مطرود أو مغضوب عليه، حين يقال في لحظات الامتعاض مع الازدراء: اذْلِفْ عن وجهي، أي أغرب عن وجهي. وهذا المعنى عام في أغلب لهجات الحجاز  في قبائل كهذيل وسليم وحرب وجهينة ومطير وعتيبة وعدوان وفي عموم قبائل نجد، ويقولونها في قبائل الحجر من عسير يقولون على سبيل المثال: فلان ذلف أي ارتحل لكن لا يعلم إلى أين. و تستخدم للطرد بنفس المعنى اذْلف، وبالمعنى نفسه في منطقة الظاهرة في عُمان.

     وقد تحققت في هذه الكلمة شروط الفوائت الظنية وزاد عليها من المؤشرات المساعدة المرجّحة أنها موجودة في بعض اللغات السامية، وقد جرى بيني وبين الدكتور سالم الخماش حوار علمي عنها في موقع التواصل (تويتر)، وأيّد أن تكون من الفوائت الظنية وأن لها جذورا في بعض الساميّات تدعمها، وأفادني برأيه محررا في رسالة إلكترونية، ونصّها: «ذلف يبدو أنها واحدة من المفردات الموجودة في اللهجات الحديثة، وفي بعض اللغات السامية... وبالبحث في مراجع الساميات وجدنا مشتقات تقوي إلى حد ما المعاني الموجودة في اللهجات العربية الحديثة:
لهجات اللغة العربية الجنوبية:
لهجة الدثينة (جنوب اليمن) ذَلَف "قفز"
الحرسوسية: ذِلوف elōf "قفز"
الجبالية: ذُلُف olof "قفز"( )
وذكر Leslau في قاموس الجعزية zalaf التي تعني "نقط، سال" (صفحة 637)، وقد قابلها بالجذر السامية التالية:
العبرية القديمة" زالـﭗ zālap "سال"
السريانية zelap زِلَـﭗ "سال، نقط"
ولكنه قابله أيضا بالجذر العربي دلف بالدال غير المعجمة»( )
    وختم بقوله: «وفي نظري أنه كان هناك جذر سامي هو ذ ل ف lf وكان معناه يدور حول معاني "سال، نقط، سرَب" هذا الجذر تعرض لتغيير في اللفظ والدلالة. فات اللغويين العرب المعنى الأصلي ولم يذكروا منه إلا "استواء قصبة الأنف" الذي أرى أنه من معنى "سلاسة سطح الأنف، وهو معنى قريب للسيلان. ولكن هذا المعنى بقي مائلا في لهجات العربية الشمالية الحديثة في شكل مجازي "ذهب، غاب، اختفى" وفي لهجات العربية الجنوبية الحديثة في معنى "قفز"، وفي معاني زلف في الإثيوبية الجعزية زلف "نقط، سال"، وكذلك في العبرية والسريانية التي تغير فيهما الذال إلى زاي.كذلك لا نستبعد أن زلف ودلف في العربية هي امتداد للجذر السامي ذلف»( ).
    ومن ذلك أيضا الفعل الرباعي (تقرفط) الثوبُ أو القماش أو الجلد فهو متقرفط في لهجات شريحة واسعة في الجزيرة وعدد من القبائل في الحجاز ونجد وعسير وعمان أي تجعد  وانكمش، وتوسّعوا فيها فقالوا : تقرفط الرجل إذا انكمش على نفسه وتكوّر متجمعا ضامّا يديه ولافّا جسده في لحاف لاتقاء البرد، وسمع فيها القلب المكاني: متقرفط ومتقفرط، فهذا الفعل الرباعي ليس في المعاجم وقد تحققت فيه الشروط الثلاثة، وزيادة على ذلك نجد أن الاستئناس ببعض الساميات قد يفيدنا، ويدلنا على قدم هذا الفعل، ومجيئة بصور مقاربة في بعض الساميات، ففي السريانية جذر مشابه لجذر تقرفط في المعنى وقريب منه وهو "قرفد" تقبض، وفي الآرامية: قاپـَد : انقبض، التفّ وربما كان التغيير الصوتي من ق پ د إلى ق ف ط أو العكس( ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تركت المراجح هنا وهي في الكتاب (فوائت المعاجم).