الثلاثاء، 25 ديسمبر 2018

لهجات (بلاد المنبع):


لهجات (بلاد المنبع)
         تكرّر في تغريداتٍ لي في حسابي أو حساب مجمع اللغة الافتراضي منذ سنوات مصطلح (لهجات أرض المنبع) أو (لهجات بلاد المنبع) وفُهم مرادي من مصطلح (المنبع) في أوساط اللغويين، ولكنّ بعضهم يسأل عن ماهيّته وحدوده ومستنده اللغويّ والتاريخي والجغرافي، وهو سؤال مشروع، ويلزمني الجواب لدفع الغموض أو اللبس. 


فأقول: لا يجادل أحد في أنّ منبع عربيةِ القرآنِ هي جزيرةُ العرب، قلبُها وأطرافُها، ويشمل ذلك اليمن وعُمان والسواحل الغربية والجنوبية للخليج العربي، لكنْ يقتضي واجب العلم وما نعرفه من تاريخ لغتنا أن نخصّص في الفصاحة ونذكر أنّ لقريشٍ ومن جاورها يدًا طولى في انتخاب الأفصح من قبائل الحجاز وتهامة والسراة ونجد جيلا بعد جيل؛ فيمكن القول بعد ذلك: إنّ الصريح في أرض المنبع للعربية القرآنية هو: نجد والحجاز والسّراة وتهامة.

وقد نزل القرآن في تلك الدّيار بين ظَهرانيهم، وكان رسولنا محمدٌ صلّى الله عليه وسلّم  أفصحَ العرب، ولغته لغةُ قريش. قال ابنُ فارس في (الصاحبي 33) في باب القول في أفصح العرب: «أجمَعَ علماؤنا بكلام العرب، والرُّواةُ لأشعارهم، والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومَحالّهم، أنّ قُرَيشاً أفصحُ العرب ألسنةً وأصْفاهم لغةً؛ وذلك أنّ الله جلّ ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبيَّ الرحمة محمداً -صلى الله عليه وسلم- فجعل قُريشاً قُطّان حَرَمِه، وجيران بيته الحرام، ووُلاتَهُ. فكانت وُفود العرب من حُجاجها وغيرهم يَفِدون إلى مكّة للحجّ، ويتحاكمون إلى قريش في أُمورهم. وكانت قريشٌ تعلّمهم مَناسكَهم وتحكُمُ بينهم...

وكانتْ قريشٌ مع فصاحتها وحُسن لغاتها ورِقَّة ألسنتها، إذا أتتهُم الوُفود من العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسنَ لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع ما تخيّروا من تلك اللغات إلى نَحائزهم وسَلائقهم الّتي طُبعوا عليها. فصاروا بذلك أفصح العرب».

وقال في باب القول في اللغة التي بها نزل القرآن: «حدثنا أبو الحسن عليُّ بنُ إبراهيم القطَّان قال: حدثنا عليُّ بن عبد العزيز، عن أبي عُبيد، عن شيخ له، أنه سمع الكلبيّ يُحدّث عن أبي صالح، عن ابن عباس، [أنه] قال: نزل القرآن على سَبْعة أحرُف، أو قال: بسَبع لغات، منها خمسٌ بلغة العَجُزِ من هَوازن، وهم الذين يقال لهم علُيا هَوازن، وهي خمس قبائل أو أربع، منها سَعدُ بن بكر وجُشَمُ بن بكر ونَصْر بن مُعاوية وثَقيف.

قال أبو عُبيد: وأحسِبُ أفصَحَ هؤلاء بني سعد بن بكر وذلك لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصَحُ العَرَب مَيْدَ أنّي من قريش، وأنّي نشأت في بني سعد بن بكر"، [ويروى: بَيْد] وكان مُسْتَرْضَعاً فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العَلاء: أفصح العرب عُلْيَا هَوازِن وسُفْلَى تميم.
وعن عبد الله بن مسعود أنه كانَ يَستَحِبُّ أن يكون الذين يكتبون المَصاحف من مُضَر.
وقال عُمَر: لا يُمْلِيَنَّ فِي مَصاحِفِنا إلا غِلمان قُريش وثَقيف.
وقال عثمان: اجعلوا المُمليَ من هُذَيل والكاتبَ من ثقيف»(الصاحبي 41).

ورُوِي عن الخليل بن أحمد الفراهيديّ (الفاضل 113) أنه قال: «أفصحُ الناس أَزْدُ السَّراة».
وقال أبو عَمرو بن العلاء (المزهر2/ 483): «أفصح الناس عُلْيَا تميم وسُفْلَى قيس».
وقال أبو زيد (العمدة لابن رشيق 89): «أفصح الناس سافلة العالية وعالية السافلة، يعني عَجُز هوازن».
وقال السيوطي في ( المزهر 2/ 410) : «قال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح الشعراء ألسنا وأعربهم أهل السَّرَوات وهنّ ثلاث، وهي الجبال المطلّة على تِهامة مما يلي اليَمن، فأولها هُذيل، وهي تَلي الرّمل من تِهامة، ثم عِلية السَّراة الوُسطى، وقد شَرِكَتهم ثقيف في ناحيةٍ منها، ثم سَرَاة الأزد؛ أزد شَنُوءة، وهم بنو الحارث بن كعب بن الحارث بن نَصْر بن الأزْد.
وقال أبو عمرو أيضا: أفصح الناس عُلْيَا تميم وسُفْلَى قيس.
وقال أبو زيد: أفصح الناس سافلةُ العالية، وعالية السافلة، يعني عَجُز هوازن وأهل العالية أهل المدينة ومن حولها ومن يليها ودنا منها».

وهذه القبائل التي توصف بالفصاحة في نصوص علمائنا تؤيّد ما نذهب إليه من أنّ أرض المنبع هي نجد والحجاز والسراة وتهامة. ثم يضاف إليها ما يليها من نواحي اليمن وعمان والساحل الغربي لخليج العرب، لكنّ القبائل في جزيرة العرب تفرّقت وهاجر بعضها، وفشى اللحن في النحو وفي بعض التصريف، وبقي المعجم سليمًا في الأعمّ الأغلب، وهنالك بقايا للهجات فصيحة نجدها اليوم في شمال جزيرة العرب (بادية العراق وسوريا والأردن وفلسطين) ولهجات فصيحة مهاجرة في شمال أفريقيا (بادية ليبيا وتونس وشرق الجزائر ويلحق بهم موريتانيا) ولهجات مهاجرة غرب البحر الأحمر (صعيد مصر وبادية السودان) وفي تلك الأمصار قبائل عربية صريحة حافظت على مخزونٍ لفظيٍّ نحترمه ونأنس به حين يوافق ما في لهجات المنبع.

وأما البعد التاريخي، ومنه عصور الاحتجاج، التي يقولون إنها انتهت بنهاية القرن الثاني أو منتصفه في الحاضرة ونهاية القرن الرابع أو منتصفه في البادية، فإن هذا القيد الصارم يصلح لحال النحو وقواعد التصريف بلا ريب، ولا يصلح لحال المعجم، لبقاء الوحدات المعجمية سليمة على ألسنة الناس؛ لأنّ المعجم هو أساس اللغة وجوهرها، ولا يمكن الاستغناء عن الألفاظ، وفساده يعني فساد اللغة في جوهرها، وهو اللفظ والمعنى، وقد تمسّك الناس بالوحدات المعجمية (الكلمات) واستغنوا عن الإعراب، وصلح لهم حال الاتصال اللغوي مجردًا منه، وحين نفتّش في العمق لعصور الاحتجاج يظهر لنا تخفف العرب من الإعراب منذ العصر الإسلامي على الأقل، فلم تكن العرب تلتزم الإعراب في كل أحوالها، فربما اختلسوه أو سكّنوا في كلامهم في سحابة يومهم وهم يمارسون حياتهم، بعيدا عن المحافل ومناسبات الشعر التي تتطلب الحضور اللغوي في أزهي صوره، فمنهم من يعرب، ومنهم من يختلس، ومنهم من يترك الإعراب،كما يُفهم مما جاء في بعض المصادر. وعلة ذلك أنّ المعنى عندهم أكثر أهمية من الإعراب؛ وقد يُحصّلون مرادهم في لغة الاتصال اليومي من دلالة المفردات وترابطها في الجمل وبالتقديم والتأخير والتنغيم دون الحاجة إلى الإعراب، وكان الإمام مالك بن أنس يتكلّم في شأنه اليومي بلغة خطابٍ دارجةٍ لا إعراب فيها.

نعم، لقد فُقِد الإعراب في الكلام مع تعاقب الأجيال واندثرت سليقته، وتمارض التصريف ولكنه لم يمت، وأما المخزون المعجمي فبقي حيّا على ألسنة العرب وفي عقلهم الجمعي، فينبغي حين ننقّب عن الفائت ونمارس عملنا في الاستدراك على معاجمنا العراقية أن نراعيَ الثوابت والمتغيّرات وألا نتعصّب لأيّ زمان ومكان ولا بيئة ولا قبيلة، وعلينا في هذا المشروع المعجمي أن نسعى لأنْ يكون نشاطا علميًّا ممنهجا، وهذا يقتضي التعامل مع أحوال المكان والإنسان والبيئة والتركيز على ما نجده قريبًا من أصوله في بيئةٍ كانت منبعَ اللغة في عصور الاحتجاج، وعلينا أن نحترم ما نجده في جمعٍ من القبائل أو البيئات، وألا نردّه بسكوت المعاجم عنه مع علمنا نقصها وعدم إحاطتها، ومما يعيننا أنّ في المنبع اليوم أكثر من أربعين قبيلة بدوية محافظة على أصولها، وألفاظهم متاحة للباحثين في المستدرك على ضوء المعايير المعلنة للفوائت الظنية، مع الاستئناس بما يُسمع في بلاد العرب مما يلتقي بلغة المنبع.

عبدالرزاق الصاعدي
نشرت في جريدة الجزيرة (الجزيرة الثقافية) 
بتاريخ بتاريخ 15 ربيع الآخر 1440هـ 22 ديسمبر 2018م

الثلاثاء، 11 ديسمبر 2018

أحوال المفردات في العربية:

أحوال المفردات في العربية
حين نتأمّل أحوال مفردات العربية نجد أنها نوعان: ممعجم وغير ممعجم، وفيما يأتي تفصيلات  أحوالها بصورة حاصرة:
    الأول: الممعجم، وهو أربعة أنواع:
   1-        ما تواتر ذكره في المعاجم، وهو جمهور اللغة.
   2-        ما كاد أن يفوت وانفرد به معجمي واحد، وعنه نُقل.
   3-        ما تشكّكتْ فيه المعاجم.
   4-        ما وَهِمَتْ فيه المعاجم.
   الثاني: غير الممعجم، أو ما خلت منه المعاجم،  وهو نوعان:
1- نوعٌ مهمل لم تتكلمْ به العرب.
2- ونوعٌ تكلمت به العرب، وخلت منه المعاجم، وهو نوعان:
     1- نوعٌ مندثر، وهو ما أُميتَ وتُرك.
     2- ونوعٌ مستعمل، وهو أربعة أنواع:
     1- نوعٌ دُوّنَ في مصادرَ قديمةٍ غير المعاجم، وأسميه: الفوائت القطعية.
     2- ونوعٌ لم يُدوّن في مصادرَ قديمة، ووجدناه في لهجاتنا وتحققت فيه شروط خاصة، وأسمّيه: الفوائت الظنية.
3- ونوعٌ ولّده المولّدون بعد عصور الاحتاج، على قياس كلام العرب، وهو يغني عن مصطلح المُحدَث؛ لأنّ التوليد مستمر إلى قيام الساعة، ويمكن تقييده بزمانه، فيقال: مولّد عبّاسي، مولّد مملوكي، مولّد عثماني، مولّد معاصر أو حديث.
4- ونوع ولّده المولّدون بعد عصور الاحتجاج، وخالف قياس كلام العرب، وهو العامّيّ.

هذه أحوال المفردة العربية، من جميع الوجوه والاعتبارات، فأرجو أن يكون تقسيمًا وافيًا جامعاً مانعاً.
     
عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة
11 ديسمبر 2018م


الثلاثاء، 4 ديسمبر 2018

من تاريخ العربية المجهول: الجذور الثنائية البائدة:

من تاريخ العربية المجهول: الجذور الثنائية البائدة

كنتُ بصريًّا محافظًا في التصريف حين كتبتُ (تداخل الأصول) سنة 1414هـ / 1994م لا أكاد أحيد عن مذهب البصريين فترًا، وكنت لا أُلقي بالاً لنظرية ثنائية الألفاظ، مع أني طالعت بعض ما كتبه أعلامها الكبار، وقرأت شيئا في سرّ الليال للشدياق والفلسفة اللغوية لجرجي زيدان ومعجميات عربية سامية للدومنكي ونشوء اللغة ونموها واكتهالها للكرملي ومقدمة لغة العرب للعلايلي، ولعل انصرافي عنها يعود إلى أمرين؛ أحدهما أن دراستي الصرفية في أيام الطلب ومراحل الدراسات العليا كانت قائمة على أصول البصريين وكان الصرفيّون واللغويون الذين أخذت عنهم التصريف يميلون إلى المذهب البصري، ومن أبرزهم الدكتور عبدالعزيز فاخر  صاحب كتابَي (توضيح الصرف) و(توضيح النحو)، وكانوا لا يُعيرون الثنائيّة ما تستحقّه من الاهتمام، ويراها بعضهم من اللغو ومن اجتهادات المعاصرين غير الموفّقة، والثاني -وهو الأهم- أن دراسة تداخل الأصول القائمة على حصر مواضع التداخل في المعاجم تحتاج إلى انضباط صرفي صارم في خضمّ الجذور اللغوية المضطربة في معاجمنا العراقية، ولا يجدي في هذا إلا المذهب الصرفي المنضبط، ومذهب البصريين أحسن المذاهب في القياس والحزم الصرفي الذي يشبه الرياضيات.

ولكني في هذه المرحلة المتأخرة من عمري العلمي أعد نفسي واحدًا من أنصار النظرية الثنائية؛ إلا أنني لا أتخلّى عن الانضباط الصرفي البصري، ولا أجد في هذه النظرية ما يعارض النظام الصرفي المحكم الذي بُنيت عليه عربية النص القرآني وآداب العرب القديمة وأشعارها منذ العصر الجاهلي إلى اليوم.
ولا أريد أن أفصّل القول في هذه العجالة في تاريخ النظرية الثنائية وأحوالها، فقد كُتِب عنها الكثير، وحسبي أن أذكر خلاصتَها، وأُبيّن مذهبي فيها، وكيف أنها لا تتعارض مع الضبط الصرفي البصري، وفي هذا السياق أقول: إنني لا أعرف أحدًا واءم بين المحافظين والثُّنائيين مواءمة مقبولة ولم أجد أحدًا يشير إلى درء تعارض التصريف ونظرية الثنائية من قبل، وقد يكون ذلك مردودًا إلى نقص عندي في البحث والإحاطة. 

فما الثُّنائيّة تلك؟
الثنائية نظرية لغوية معاصرة يرى أصحابها (من أبرز أعلامها: الشدياق واليازجي وجرجي زيدان ومرمرجي الدومنكي وأنستاس الكرملي، ومن المستشرقين فورست ورينان وجزينس) أن أصول الألفاظ التي نشأت منها العربية وأخواتها العروبيات (الساميّات) تعود إلى المقطع الثنائي المكون من صامتين متحرك فساكن [ينظر: الأثول الثنائية في العربية 11] ثم فُؤمت، كما يقول بعضهم؛ أي: زيد فيها حرف أو أكثر في الصدر أو الحشو أو الطرف، وأكثر الزيادة تكون في الطرف ويليها ما يكون في الحشو ثم ما يكون في الصدر، وهم يسمونها زيادة وأنا أسمّيها فكًّا للتضعيف بإبدال ثاني المثلين حرفا آخر، أو إبدال أول المثلين أو حذف أحدهما بعد الفك وتعويضه بحرف في صدر الكلمة، فالمضعَّف عندي ثلاثي تطوَّر بالتضعيف من أصله الثنائي المتروك كما سيأتي، وهذه أمثلة لكل نوع من تلك الأنواع الثلاثة:

أولا: أمثلة لما يقع في الطرف ويسمّى التذيل، وهو الأكثر:
1-     (قطْ/قطّ) وهو ثنائي تدور دلالته على القطع، ومنه تولّدت أصول ثلاثية بفكّ ثاني مثليه بالإبدال، مثل: قطب/ قطع/ قطف/ قطل/ قطم. ومعنى القطع فيها جميعا مع اختلافات يسيرة يختص بها كل أصل.
2-     (غمْ/ غمّ) وهو أصلٌ ثنائي تدور دلالته على التغطية والستر، ومنه تولّدت أصول ثلاثية، بفكّ ثاني مثليه بالإبدال، مثل: غمد/ غمر/ غمس/ غمض/ غمل/ غمن/ غمى، ومعنى التغطية ومعنى الستر فيها جميعا مع اختلافات يسيرة يختص بها كل أصل.

3-    (نفْ/ نفّ) وهو أصل ثنائي تدور دلالته حول الخروج وأنواعه، ومنه تولّدت أصول ثلاثية تحمل المعنى هذا، بفكّ ثاني مثليه بالإبدال،وهي: نفت/ نفث/ نفج/ نفح/ نفخ/ نفد/ نفذ/ نفر/ نفز/ نفس/ نفش/ نفص/ نفض/ نفط/ نفغ/ نفق/ نفل/ نفو/ نفي، ومعنى الخروج فيها جميعا مع اختلافات يسيرة يختص بها كل أصل.

ثانيا أمثلة لما يقع في الحشو، أي بفك أول مثليه بالإبدال:

1-     (نمْ/ نمّ) وهو أصل تدور دلالته حول النفس والحياة والنفس والصوت(الأثول الثنائية في العربية 120)، فيتولّد منه أصول ثلاثية بالحشو، أي بفك أول مثليه بالإبدال، منها: نأم/ نتم/ نثم/ نجم/ نحم/ نخم/ ندم/ نسم/ نعم/ نغم/ نهم، فإن تأملت معانيها في المعاجم وجدتها تدور حول ذلك المعنى العام للثنائي مع اختلافات يسيرة يختص بها كل أصل.

2-     (فقْ/ فقّ) وتدور دلالته الأصلية حول الشَّقّ والاتّساع [الأثول الثنائية 91] فيتولّد منه أصول ثلاثية بالحشو، وهي: فأق/ فتق/ فحق/ فرق/ فسق/ فشق/ فلق/ فنق/ فهق. فإن تأملت معانيها في المعاجم وجدتها تدور حول ذلك المعنى العام للثنائي مع اختلافات يسيرة يختص بها كل أصل.
3-    (سح/ سحّ) ومن دلالاته الجامعة التّباعد والاتّساع، فكان تطوره كما يلي: سح > سحّ> سبح/ سجح/ سدح/ سرح/ سطح/ سفح/ سمح/ سنح/ سوح/ سيح. مع اختلافات يسيرة يختصّ بها كلّ لفظ.

ثالثا أمثلة لما يقع في الصدر ويسمّى التصدير:

1-     (رمْ/ رمّ) وتدور دلالته حول الكسر والقطع، وتولّد منه أصول ثلاثية بالتصدير؛ فينتقل إلى الثلاثية بالتضعيف (رمّ) ثم يُفكّ التضعيف وحذف أحد المثلين ويعوّض عنه بحرف في صدر الكلمة؛ فتولّد منه جذور، وهي: ثرم/ جرم/ خرم/ شرم/ صرم/ عرم،  فإن تأملت معانيها في المعاجم وجدتها تدور حول ذلك المعنى العام للثنائي وهو الكسر والقطع وشبههما، مع اختلافات يسيرة يختص بها كل أصل.

2-     (فزْ/ فزّ) وتدور دلالته حول الوثوب والتهيّؤ له [الأثول الثنائية 84]، فينتقل إلى الثلاثية بالتضعيف (فزّ) ثم يُفكّ التضعيف، وحذف أحد المثلين ويعوّض عنه بحرف في صدر الكلمة؛ وتولّد منه أصول ثلاثية، وهي: أفز/ جفز/ حفز/ شفز/ ضفز/ عفز/ قفز/ نفز/ وفز، وتدور حول ذلك المعنى العام للثنائي وهو الوثوب والتهيّؤ له، مع اختلافات يسيرة يختص بها كل أصل.
3-    (هرْ/ هرّ) وتدور دلالته حول الإضاءة والنور والنار والوضوح [الأثول الثنائية 122]، وتولّد منه أصول ثلاثية بفك التضعيف والحذف والتعويض، منها: بهر/ جهر/ زهر/ سهر/ شهر/ صهر/ ظهر/ نهر/ وهر، وتدور حول ذلك المعنى العام للثنائي العام، مع اختلافات يسيرة يختص بها كل أصل.

أصول الثنائية لدى علمائنا:


يبالغ باحثون معاصرون حين يربطون بين صنيع بعض المعجميين في مدرسة التقليبات والنظرية الثنائية ويدّعون أنّ ما جاء في أبواب الثنائي في معاجم العين والجمهرة والبارع والتهذيب والمحيط والمحكم يعدّ دليلا على أن أصحاب تلك المعاجم كانوا يرون الثنائية في أصول بعض الألفاظ، وهو ما جاء فيها على صورة الثنائي مضعّفا، والحقيقة أنّ ما في تلك المعاجم ما هو إلا صنعة معجمية اقتضاها تيسير التقليب الكمّيّ للجذور في معاجمهم؛ لأن الثلاثي المشدّد لا ينتج عنه عند التقليب إلا جذران في الاستعمال، هذا هو الغالب لندرة باب سلس وددن، على نحو ما فصّلته في تداخل الأصول، فمثلا الجذور قدّ وشدّ وصبّ ينتج عنها مقلوب واحد هو: دقّ ودشّ وبصّ، وليس في الكلام من باب سلس: دقد ودشد وصبص، ولا قدق وشدش وبصب، وليس فيه من باب ددن: ددق أو ققد، ولا ددش أو ششد، ولا ببص أو صصب، ولذا وضعوه في الثنائي صناعةً معجمية فحسب، وليس تصريفًا أو تأصيلَ جذور، ألا تراهم يقولون في باب الثنائي: والحرف المشدّد حرفان؟! قال الخليل وهو رائد مدرسة التقليبات: «التشديد علامة الإدغام والحرف الثالث» [العين1/ 50] وقال ابن دريد وهو من أرباب هذه المدرسة: «واعلم أنّ الثلاثيّ أكثر ما يكون من الأبنية، فمن الثلاثي ما هو في الكتاب وفي السّمع على لفظ الثنائي وهو ثلاثي لأنّه مَبنِيٌّ على ثلاثة أحرف: أوسطه ساكن وعينه ولامه حرفان مثلان، فأدغموا السّاكن في المتحرك فصارَ حرفا ثقيلا، وكل حرف ثقيل فهو يقوم مقام حرفين في وزن الشّعر وغيره» [الجمهرة 1/ 51] وانظر إلى قول القالي في البارع وهو من هذه المدرسة حين يفتتح أبواب الثنائي بنحو قوله: «الجيم والراء في الثنائي في الخط والثلاثي في الحقيقة لتشدّد أحد حرفيه» [البارع 568] وقوله: «الجيم والصاد في الثنائي في الخط والثلاثي في الحقيقة لتشدّد أحد حرفيه» [البارع 578].

وبهذا يظهر جليًّا أنّ أبواب الثنائي في مدرسة التقليبات ليست دليلا على قولهم بالثنائية أو إشارتهم لثنائية الجذور، بوجه أو آخر، فلا صلة لأصحاب تلك المدرسة بنظرية الثنائية من قريب أو بعيد.

لكن هناك إرهاصات لنظرية الثنائية تظهر في أقوال بعض اللغويين، حين يربطون بين الثنائي (الثلاثي المضعف) والأجوف أو الناقص، منها قول ابن الأعرابي: «ومن العربِ مَن يَقْلِبُ أحد الحرفين المُدغَمَينِ ياءً فيقولُ في مَرٍّ: مَيْرٍ، وفي زِرٍّ: زِيرٍ، وهو الدُّجَةُ، وفي رِزٍّ: رِيز» [اللسان (زير) 4/ 336]. 

ومن هذا قول ابن السكيت إن العرب تقول في كلّ بحر أو نهر إذا فاض: طَمَّ يطمّ، وطَمَا يطمو، ويقال بالياء، أيضاً [ينظر:القلب والإبدال: ضمن الكنـز اللّغويّ 60، 61].

وقول ابن جنّي في الخاطريّات: « أرى في اللّغة ألفاظاً صالحة يتوالى فيها التّضعيف واعتلال الأوّل من المثلين جميعاً ، وذلك كقولهم: الضِّحّ والضّيح، ونحو قولهم: انصَبّ وصابَ يَصُوبُ...»[بقية الخاطريات 26].


وقول ابن فارس: «إِنَّ للَّهِ تعالَى في كُلِّ شيءٍ سِرًّا ولَطيفةً. وقد تأَمَّلْتَ في هذا البابِ من أَوَّله إلى آخِرِهِ فلا تَرَى الدَّالَ مُؤْتَلِفَةً معَ اللَّامِ بحرفٍ ثالِثٍ إلا وهي تَدُلُّ على حركةٍ ومَجِيءٍ، وذَهابٍ وزَوالٍ من مَكانٍ إلى مَكانٍ، واللَّهُ أَعْلَمُ» [مقاييس اللغة 2/ 298].

 وقول الرّاغب الأصفهانيّ في تفسير قوله تعالى: (وحاقَ بهِم ما كانُوا به يَسْتَهْزِءُون) [سورة هود: الآية 8]: وقوله (ولا يَحيقُ المَكْرُ السَّيّئ إلاَّ بِأَهْلِهِ) [سورة فاطر: الآية 43] : «أي: لا ينْزل ولا يصيب ، قيل: وأصله حَقَّ فقلب ، نحو: زلَّ وزال... وعلى هذا : ذَمَّهُ وذامه» [المفردات (حاق) 266] ، فالحرف المعتلّ في هذه الأمثلة مبدل من الحرف الأوّل في المضعّف ، للتّخفيف. 

وقول الجوهريّ: «غبا ، أصله: غبَّ ، فأبدل من أحد حرفي التّضعيف الألف ، مثل: تَقَضَّى ، أصله: تَقَضَّضَ ، يقول : لا آتيك ما دام الذّئب يأتي الغنم غِبّاً» [الصّحاح (غبس) 3/955] 

وللخليل إماحة مهمة في العين، وهي في قوله: ((ويروى: داعب دَدَدٌ، يجعله نعتا للداعب، ويكسعه بدالٍ أُخرى ثالثة ليتمّ النّعت، لأن النعت لا يتمكّن حتى يصير ثلاثة أحرف)) [العين 2/ 51] وهذا نص تاريخي مهم، وفيه إرهاصات بنقل الثنائيات إلى الثلاثيات بزيادة حرف.

ولعل من أوضح ما يمكن أن يقال عن إلماحات القدماء في شأن العلاقة بين الثنائي (الثلاثي المضاعف) ومفكوكاته الثلاثيات في الدلالة والأصوات ما نجده في كلامٍ للزمخشري في الكشاف عند حديثه عن الآية الثالثة من سورة البقرة ففيه إلماحة باهرة للثنائية وتقارب الجذور المفكوكة، حين قال: «وأنْفَقَ الشيءَ وأنفَدَه أخوان. وعن يعقوب: نَفَقَ الشيءُ، ونَفَدَ واحد. وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء، فدالٌّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت»[الكشاف 1/ 41 سورة البقرة الآية 3]. قال السمين الحلبي: «وهو كما قال نحو: نَفِد نَفَق نَفَر نَفَذ نَفَس نَفَش نَفَثَ نفح نفخ نَفَضَ نَفَل»[الدر المصون 1/ 96 سورة البقرة الآية 3].

ما أراه في الثنائية:

يستقرّ النظرُ عندي على صحّة النظرية الثنائية وصلاحها لتفسير شيء غير قليل من نشأة اللغة العربية والكشف عن العلاقات بين الجذور الثلاثية المتطورة من جذور ثنائية، وكذلك بعض الرباعيات المتطورة من تلك الثلاثيات ذات الأصول الثنائية، وأراها من أحسن النظريات اللغوية التي ظهرت في العصر الحديث، ودون غلوّ فيها، فهي تمثل مرحلة لغوية قديمة في اللغة، ويمكن تسميتها: مرحلة الطفولة، وكان تضعيف الحرف الثاني -ويسميه الصرفيون الثلاثي المضعّف- هو المرحلة الحاسمة في تطور الثنائية، وهو يمثّل مرحلة المراهقة وبداية القوّة والعنفوان، وكان هذا المشدّد هو الجسر الذي عَبَرَت عن طريقه الثنائيات إلى الثلاثيات، وهو حلقة وسطى بين الثنائي والثلاثي،  وينفرد عن غيره بأنه ثنائي من وجهٍ وثلاثي من وجه، وبفضل هذا التضعيف (التشديد) انتقل الجذر الثنائي إلى جذر ثلاثي صحيح أو معتلّ عن طريق الفك والإبدال أو التعويض.

وأما مرحلة النُّضج فهي مرحلة الجذور الثلاثية الصحاح وما بعدها من رباعيات وخماسيات، فالثلاثية في نظري هي الاختراع الصرفي العظيم الذي اكتشفته العربية وعُرفت به في تصريفها ومعجمها الفريد، وقد كثر الوضع في هذه المرحلة حتى رأينا جذورًا لا صلة لها بالثنائية، وقد بلغ من أمرها في ذروة مرحلة النضج عند نزول القرآن بلسان العرب أن تلك الثلاثيات الوليدة في مرحلة النضج والاكتمال التي لا صلة لها بالثنائية هي السواد الأعظم في اللغة وقطب الرحى لمعجمها؛ فلا ندَّعي أنَّ كل ثلاثيِّ ولد من رحم الثنائي.

 وأوجز تاريخ ألفاظ العربية من حيث التطور في ثلاث مراحل، وهي:

المرحلة الأولى: مرحلة الجذر الثنائي المكون من مقطع أحادي (صامتين متحرك فساكن مثل رمْ وقطْ) وهذه هي مرحلة طفولة اللغة، ويظهر أنها مرحلة قصيرة نسبيا.

المرحلة الثانية: مرحلة المراهقة اللغوية والانطلاق، وهي مرحلة تضعيف الحرف الثاني الساكن في المقطع الأحادي، مثل: رمّ وقطّ. وهذه المرحلة بالغة الخطورة؛ لأن هذا الثلاثي المضعّف هو الجسر الذي عبرت عن طريقه الثنائيات إلى الضفة الأخرى ضفة الثلاثي، وهي مرحلة أقصر من سابقتها، كانت كانكسار السّدّ وفيضان الماء.

المرحلة الثالثة: مرحلة الثلاثي وما بعده من رباعيات وخماسيات، وهي مرحلة النضج، وأعدّ الجذر الثلاثي قنبلة اللغة العربية الانشطارية التي فجّرت طاقتها وأغنتها غنى فاحشا في الألفاظ، كما أسلفت، وهي أطول المراحل الثلاث فيما يظهر لي، وأعظمها بلا شكّ.

            ولم يكن انتقال اللفظ الثنائي إلى الفضاء الثلاثي الرحب إلا بعد تضعيف الثنائي، وتحويله إلى ثلاثي مضعف قابل للتحول أو التلوين الصوتي بالفكِّ مع الإبدال أو التعويض، كما سبق في الأحوال الثلاث، فكل ثنائي يتحول إلى الثلاثي بهذا الطريقة. والفك بالإبدال لا الزيادة المحضة هو الأداة ، ويكون الإبدال في الحشو والتذييل، ويكون التعويض في الصدر، كما تقدم، ولا أرى قول القائلين بزيادة الحرف الثالث أو الثاني أو الأول، وهذه نقطة خلاف مع الثنائيين نتجت عن النظر إلى الحرف المشدّد، وما أراه هو أن تشديد اللفظ الثنائي كان الجسر الذي عبرت عن طريقه الثنائية في رحلتها التاريخية إلى الثلاثية.  

ولما كانت الثنائية مرحلة تاريخة تمثّل نشأة اللغة أو طفولتها إن صح التعبير فإن اللغة بعد تحولها إلى الثلاثية ووضعها الأسس الصرفية عليها وعلى الرباعي والخماسي فإنها أي الثنائية- قد هُجرت تماما، ولم يبق من مرحلتها التاريخية الأولى إلا أطلال قديمة متفرقة متناثرة في المعاجم، وأحافير لا تكاد تلحظها إلا عيون الباحثين، لطغيان الجذر الثلاثي بجبروت التصريف، وما أشبه الثنائيات ببقايا أحيائنا القديمة جدا قبل قرون في مدننا الكبيرة حين طغى عليها العمران الحديث والتهمها التوسع والتغيير المهول في الهندسة والعمران، فلم يبق منها إلا رسوم لا يكاد يلحظها أكثر الناس، فأين تلك الأحياء الصغيرة القديمة من مساحات المدن الكبيرة وأحيائها الحديثة، وكذلك الثنائية إذا قيست بالتوسع اللغوي المهول الذي طرأ على العربية في عصورها الجاهلية الأولى التي لا نكاد نعرف عنها شيئا؟! ومن المؤكد أنها تمتد في الماضي آلاف السنين، وربما مئات الألوف كما يقول أحد الباحثين [في التطور اللغوي 86] قبل الساميين والحاميين والآريين، وأن اللغة العربية التي بلغت ذروتها في الإحكام الصرفي والنحوي عند نزول القرآن مرّت بمراحل حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.

ومع أن نشوء النظرية الثنائية تزامن مع ظهور نظرية الاصطفاء والتطور الأحيائي الداروينية إلا أنها من المنظور اللغوي العلمي المتجرد ليست معتقدا ولا ميتافيزيقا ولا خيالا أو بهرجة أو تكلّفا كما قد يرى بعضهم بل هي واقع لغوي ملموس تراه ماثلا في المعجم وتؤيده الدلالة والتحليل اللغوي، ويمكن لها أن تفتح مغاليق في المعجم العربي في بعض الجذور، وربما تعين من يريد أن يواصل البحث في نظرية ابن فارس في الثلاثيات والرباعيات المتطورة من جذور أصغر. وقد أفادتني الثنائية كثيرا في ضوابط الفوائت الظنية، وبمساعدتها رجّحت القول بالفائت الظنّي في عدد من الألفاظ [انظر: فوائت المعاجم].

وهنا يرد سؤال في غاية الأهمية، وهو: كيف نوفّق بين الثنائيين ومعارضيهم أو كيف نوفق بين الثنائية والتصريف؟ لقد واجهت الثنائية نقدًا لاذعًا مشوبًا بالسخرية من عدد من الباحثين اللغويين التقليديين أو المحافظين، لما يعدّونه من الثغرات في بنيان هذه النظرية، وأبرزها ثغرتان كبيرتان:

الأولى: أن التصريف يهدم هذه النظرية؛ لأنه لا يعدّها شيئا ولا يتعامل مع اللفظ الثنائي إلا بعد نقله إلى الثلاثي بالتضعيف، وأن ما وجد من ألفاظ ثنائية في ظاهرها مثل يَدٍ ودَمٍ ما هي إلا ثلاثيات حذف منها حرف لكثرة الاستعمال، ويستدلون بالتصريف عند التثنية والجمع والتصغير إذ يرجع الحرف المحذوف إلى موضعه، وربما اغتر بهذا بعض الباحثين المعاصرين، وهو أرنست لينان إذ قال: ((اللغة العربية ظهرت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا شيخوخة)). وقوله مردود بما سبق.

والثغرة الثانية قصور النظرية وتعذر تطبيقها على أكثر الثلاثيات، فلا يمكن أن تقول: إن عرف من عر، وأن دخل من دخ وأن جلس من جل، فالنظرية مبنية على ألفاظ انتقائية قليلة أراد أصحابها أن يعمموا نتيجتها، وحاولوا إقناع الناس بها! وساعد المنكرين الرافضين غلوُّ بعض الثنائيين في شأنها ومنهم الأب مرمرجي الدومنكي حتى ليكاد يلزمنا القول بالثنائية إلزاما، فالرباعيات عنده ليست مجردة كما يقول الصرفيون بل هي ثلاثيات مزيدة، والثلاثيات المجردة من مثال وأجوف وناقص ومهموز ومضاعف ومكرره «هي بأجمعها قابلةُ الردِّ إلى الرّسّ الثنائي، فيجدر من ثم طرحها من مجموع الأصول الثلاثية. فيبقى السالم وحده، وهو كذلك هيّن رُدّ أغلبيته إلى الثنائي... أما البقية الباقية البائن تعذر ردها من الثلاثي إلى الثنائي فذلك يمكن عزوه إلى ضياع الرساس الثنائية» [معجميات عربية سامية 80] فالثلاثي وما فوقه توسّعات اشتقاقية للرس الثنائي، وعنه صدر جميع التوسّعات والاشتقاقات [ينظر: هل العربية منطقية 145، ومعجميات عربية سامية 79، وأصول اللغة العربية بين الثنائية والثلاثية 31].

وهذا الغلو في الثنائية الذي نراه عند الدومنكي مردودٌ عليه وغير مقبول، وما يزعمه لا يُسلّم به، فالثلاثيات التي يصعب ردها إلى الأصل الثنائي أو يتعذر  هي أكثر بكثير مما نجد فيه بقايا للثنائية، بل إن ما يمكن رده إلى الثنائية لا يتجاوز في تقديري 10% ولعلّه أقل، وكيف يفوت الدومنكي وهو الباحث اللغوي الحصيف أن اللغة بعد استقرارها على التصريف الثلاثي لا بد لها أن تمضي في نموها وتوسّعها بالوضع والاشتقاق بأنواعه في مرحلة النضج تلك التى ترجع إلى آلاف السنين واضعة الرِّسّ الثنائي وراء ظهرها؟!

وأقول في الختام: إن الثنائية مرحلة قديمة جدا، تجاوزتها اللغة في نموها الأبدي وسيرها نحو النضج والكمال، ولم يبق من تلك المرحلة إلا الأطلال والبقايا المتناثرة في المعاجم، لا يراها إلا الباحثون المعنيّون بالتأصيل والتفكيك الجذري أو الجذوري، ولكنّ إنكارها يُعدّ خطأ لغويًّا في حق لغتنا، كما أنه يحرم اللغويين من إشارات معجمية هادية كالمنارات في الطرق في غاية الأهمية.

فواصل:
- الثنائيات جذور هرمة متآكلة في لغتنا، وهي تخفي طفولة العربية.
- الثلاثيات قنبلة العربية ومنجمها الأكبر، وطاقتها المتجددة.
- حين فشلت الجذور الخماسية أنهت العربية مغامرتها في رحلة التطور، وعدّتِ الخماسيات غلطة.!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالرزاق الصاعدي - المدينة المنورة.       

نشر هذا المقال في أربعة مقالات في جريدة الجزيرة بعنوان: (هل كان للغة العرب طفولة ومراهقة؟) بتاريخ:
 28/ 5/ 2016م 
 5/ 6/ 2016م 
 11/ 6/ 2016م 

 18/ 6/ 2016م