الخميس، 30 أكتوبر 2014

النخاشيش من الفوائت الظنية:

النَّخاشِيشُ من الفوائت الظنية

    النَّخَاشِيشُ هي الغضاريف التي تكون داخل الأنف للإنسان أو الدابة، واحدها نخشوش، ويتكرر ذكرها في الولائم وهي تؤكل مع أكل لحم الرأس. وقد خلت منها المعاجم العربية القديمة، ولها ذكر واسع في لهجاتتا وبعض المراجع اللغوية الحديثة.
     ولعل أقدم نص ورت فيه هذه الكلمة هو ألف ليلة وليلة، وفيها: ((أخبرني عن هذا الخاتم من أين وصل إليك? قال: رأيته في نخشوش هذه السمكة))(1) أي خيشومها.
    وروى ذلك المستشرق دوزي في تكملة المعاجم العربية، قال:((نخشوش: نخشوش والجمع نخاشيش: أجزاء رأس السمكة التي تتنفس منها (بوشر، ألف ليلة 4: 489).
نُخشوش: منخر (ألف ليلة 3: 278)، فطلع دخان البنج ودخل في نخاشيشهم فرقدوا جميعهم. برسل 9: 50))(2)
   وذكرها العبودي في كلمات قضت، قال: ((النخاشيش: الغضاريف التي في داخل الأنف، واحدها: نخشوش. وكانت مذكورة تتكرر في الولائم وفي أيام الأضاحي عادة، ذلك لكونها تؤكل مع أكل لحم رأس الذبيحة.
وطالما سمعتهم يقولون: أكلنا نخاشيش الرأس يريدون ذلك. وكانوا يكسرون رأس البعير للوصول إلى ما بداخل نخاشيشه من غضاريف لينه أو من لحم صغير يؤكل))(3)
    وقال عبدالرحمن السويداء: ((النخوش الخيشوم ويجمع النخشوش على نخاشيش، ونخشش الرجل أخرج صوته من أنفه، أي: من خياشيمه، والنخششة إخراج الصوت من الأنف))(4)

    وحين نعرض الكلمة على معايير  الفوائت الظنية نجدها متحققة فيها، وهذا تفصيلها:

1-       أول المعايير الثلاثة المعيار اللفظي وهو متحقق، فالنخاشيش على وزن فعاليل ومفردها نخشوش فعلول، مثل: بهاليل وواحدها بهلول، وهو وزن قياسي لكل ما رابعه مد، ومنه القناديد والشماليل، ومن الباب: النخاريب.
     وإذا تأملنا اشتقاق النخاشيش نجد أنها ليست بعيدة عما جاء في جذر نخش في معاجمنا القديمة ولهجاتنا، فهي إما من:
أ‌-    أصل معنى مادة (نخش) وهو الهزال كما قال ابن فارس(5) تعني أصلا واحدا وهو الهزل، فكأنّ الغضاريف لخلوها من اللحم مهزولة (منخوشة) فليس فيها قوة العظم وليس عليها من اللحم شيء.
ب‌-  أو من النخش، ومنه نخش الحب من الكيس بعد ثقبه وإدخال عود ينخش به الحب، ومنه النخيشة دويبّة صغيرة تأكل الحب المخزون(6). ومنه في لهجاتنا نخش منخره، أي: أدخل إصبعه في أنفه. وكثيراً ما كانوا يقولون في الصغر للأطفال: لا تنخش أنفك، وهذا اشتقاق قريب.. فالنخاشيش ما ينخش في دهاليس الأنف.
ت‌-   وربما كانت من الصوت، ففي لهجاتنا: نخش الرجل أخرج صوته من أنفه، والنخشة إخراج الصوت من الأنف(7) وفي اليمن يقولون: فلان أنخش، أذا كان يتحدث وكأنه مقفلا أنفه.

2-       وثانيها المعيار الدلالي وهو متحقق أيضا، فهذه الكلمة مطابقة للبيئة العربية القديمة في زمن الفصاحة، فهي مما يتصل بحياتهم أشد الاتصال لأنها شيءٌ من خلق الإنسان وصفاته.

3-       وكذلك المعيار الثالث (المعيار الجغرافي) فهو متحقق، لأن النخاشيش معروفة في عدد واسع من البيئات والقبائل في الحجاز ونجد وعسير وشرق الجزيرة وشمالها، وعرفت في عدد من البلدان المجاورة، وهي مترسخة في لهجتهم، يعرفها كبارهم، وإن بدأت تتلاشى من الاستعمال اليومي لدى الأجيال الأخيرة من أبنائهم.

4-       ويتحقق فيها معيار رابع من المعايير غير اللازمة وهو معيار اللهجات المهاجرة، إذ وجدناها في لهجة موريتانيا والمغرب، بمعناها نفسه، ولكنها مقلوبة فينطقونها خناشيش وواحدها خنشوش.
      وبهذا يترجح أن النخاشيش بمعنى الغضاريف في تجاويف الأنف للإنسان والدابة عربيةٌ صريحة وأنها من الفوائت الظنية، التي تستحق أن تستدرك على المعاجم بوصفها فائتا ظنيا صحيحا في اللغة. والله أعلم.


[1] ألف ليلة وليلة (الليلة 935)
[2] تكملة المعاجم العربية لدوزي 10/ 185.
[3] كلمات قضت 2/ 1303.
[4] فصيح العامي في شمال نجد 3/ 1510.
[5] المقاييس نخش
[6] كلمات قضت 2/ 1303.
[7] كلمات قضت 2/ 1303,

الأحد، 26 أكتوبر 2014

الفرق بين فوائت اللغة وفوائت المعاجم:

الفرق بين فوائت اللغة وفوائت المعاجم

    إن التقسيمَ اللغويَّ الجامع الأمثل لما خلتْ منه المعاجم هو كما يأتي: 

 ما خلتْ منه المعاجمُ نوعان:
1-       نوعٌ مهمل لم تتكلمْ به العرب.
2-       نوعٌ تكلمت به العرب، وخلت منه المعاجم، وهو نوعان:
     1 -2- نوعٌ مندثر، وهو ما أُميتَ وتُرك.
     2 -2- ونوعٌ مستعمل، وهو نوعان:
     1- 2-2- نوعٌ دُوّنَ في مصادرَ قديمةٍ غير المعاجم، وأسميه: الفوائت القطعية
     2-2-2 ونوعٌ لم يُدوّن في مصادرَ قديمة، وأسميه الفوائت الظنية. ومن أهمِّ مصادره لهجاتُنا المعاصرة.. ومن هذا النوع شيءٌ مما عدّه المعجميون مهملاً أو مماتاً أو متروكاً.

   وهذا التقسيم لم يذكر من قبل فيما أعلم، فأرجو أن يكون جامعا مانعا لما خلت منه المعاجم العربية، وأن يكون فيه التفريق بين فوائت اللغة وفوائت المعاجم، ففائت اللغة هو ما قالته العرب وهجرته الألسن ولم يدون، وفائت المعجم هو ما قالته العرب وبقي في أشعارها أو ألسنتها ولم تدونه المعاجم. 

عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة
نشرت في صحيفة المدينة 2012م

الاثنين، 20 أكتوبر 2014

غاش الماء بمعنى غلى وفار:

فوائت ظنّيّة: 
غاشَ الماءُ بمعنى غَلَى وفارَ

     يقولون: غاش الماءُ في الإناء يَغُوشُ غوشاً بمعنى غَلَى يغلِي وفار من شدة الحرارة، وهذا الفعل بمعناه منتشر كثيرا في لهجات قبائل الحجاز بين الحرمين، كالأشراف والسادة وبطون حرب وجهينة وسليم ومطير الحجازية وعتيبة الحجازية وهذيل، ومنتشر في نجد ومسموع في رجال الحجر بعسير وفي شمال الجزيرة وشرقها.

    ولا وجود لهذا للفعل غاش في معاجمنا القديمة، بل إن الجذر (غ و ش) مهمل في معاجمنا القديمة، ولكنّ تحليل الفعل غاش يقودنا إلى الفعل الثلاثي المضعّف (غشّ) فهو  فيما يظهر متطور منه بفك التضعيف تطورا قديما، كتطور كثير من الثلاثيات بفك التضعيف مما تنوسي أصله واستقل بصورته المتطورة، وهو كثير مثل ضرّه وضاره، وزلّ وزال، وسلّ وسال والذمّ والذيم وملّ الشيءَ يملّه أي تركه ومال عنه بمعناه(1) وفي هذا يقول ابن جني: ((أرى في اللّغة ألفاظاً صالحة يتوالى فيها التّضعيف واعتلال الأوّل من المثلين جميعاً، وذلك كقولهم: الضِّحّ والضّيح، ونحو قولهم: انصَبّ وصابَ يَصُوبُ...))(2) وقد يكون الفك بقلب المضعّف الثاني، فيتحول الفعل إلى ناقص بدل الأجوف، مثل أملّ وأملى، وغبّ وغبا، قال الجوهري: ((وغبا، أصله: غبَّ، فأبدل من أحد حرفي التّضعيف الألف، مثل: تَقَضَّى، أصله: تَقَضَّضَ، يقول: لا آتيك ما دام الذّئب يأتي الغنم غِبّاً))(3)

      فالوجه أن يكون غاش يغوش من: غشّ يغشّ، وشقيقه في الفك غشا/غشى هكذا: (غش> غاش>غشا/غشى) فيكون الأجوف والناقص مفكوكين من المضعف. ومما يرجح أن غاش مفكوك من غشّ أن معنى التغطية مستكنّ في غشّ وغاش وغشا/غشى، والماء إذا غاش واضطرب سطحه علاه ما علاه من الزبد وغطّاه، وكذلك في معنى التغطية، تقول: غشاه الموج، أي غطاه، ومن مجازه غشاه الهم أي اعتلاه، فغاش وغشا/غشى شقيقان في الفك من غشّ.
ومما يؤكد صلة الفعل غاش بالفعل غشّ وأنه مفكوك منه أنّ هذا الأصل لم يزل مسموعا في رجال الحجر من قبائل عسير ففيهم من يقول: غَشّ الماءُ يغُشُّ بمعنى غلى وفار وعلاه الزبد وسمع صوت فورانه(4)

    وهناك احتمال آخر وهو أن يكون غاش مقلوبا من غشا، (غشو > غوش) من باب جذب وجبذ، ومعنى التغطية فيهما، وهما فرعان من غشّ بفك التضعيف.

    وأرى أن غاش الماء أو الإناء بمعنى غلى وفار من الفوائت الظنية لتحقق الشروط الثلاثة الشرط اللفظي والشرط الدلالي وشرط الأطلس الجغرافي، وكذلك يرجحه التحليل الصرفي للجذور (غشّ وغاش وغشا/غشى) وتقاربها وصلتها بفك التضعيف. 
 كتبه عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
12/ 2/ 1434هـ
المدينة المنورة 


[1] ينظر: فك التضعيف 20-23.
[2]  بقية الخاطريات 26.
[3]  الصّحاح (غبس) 3/ 955.
[4] أكد لي ذلك الدكتور ظافر العمري، في حوار لغوي معه في هذا الفعل، وهو ينتسب إلى إحدى قبائل رجال الحجر، قبلية بني عمر 

السبت، 18 أكتوبر 2014

من الفوائت القطعية: تَنابلة:

من الفوائت القطعية: تَنابلة

قال النابغة الجعدي(1):
سَبَقْتُ إلى فَرَطٍ ناهلٍ    تَنابِلةً يحفرون الرِّساسا
وقال عمرو القنا بن عَميرة العنبري من تميم أحد رؤس الخوارج وفرسانهم(2):
عادوا، فعادوا كِراما لا تنابلةً   عندَ اللِّقاءِ ولا رُعْشٌ رعاديدُ
وقال النجاشي الحارثي (قيس بن عمرو بن مالك) شاعر إسلامي(3)
سَخِينةُ حَيٌّ يَعْرِفُ الناسُ لؤمَها  قديماً ولم تُعرَفْ بمجدٍ ولا كَرَمْ
فيا ضيعةَ الدُّنيا وضيعةَ أهلِها     إذا وَلِيَ الملكَ التَّنابِلةُ القَزَمْ 
والتِّنْبَل والتِّنبال والتِّنبالة القصير الرَّذْل من الرجال، وجمعه في كتب اللغة: تنابيل(4) أما التنابلة فجمعٌ لم يرد في المعاجم، لذا قال أحمد شاكر محقق الشعر والشعراء: ((التنابلة: جمع تِنْبَل وتِنبال وتِنْبالة بكسر التاء فى الثلاثة، وهو الرجل القصير. وهذا الجمع لم يذكر فى المعاجم، والذى فى اللسان أن جمعها تنابيل))(5)

    والعجيب أن شاهد النابغة (تَنابِلةً يحفرون الرِّساسا) يتردد في المعاجم في مادة (رسس)(6) شاهدا لكلمة (الرِّساس) ولم يذكروا ما فيه من شاهد آخر، وهو كلمة التنابلة، فأغفلوه تماما في (تنبل) وذكروا أن جمعها: تنابيل(7).
   
     وما أحرى هذا الشاهد أن يكون في تنبل وتضاف (التَّنابلة) إلى تلك الجموع التي ذكروها فيه، وهذا من أطرف الفوائت، وهو أن يكون اللفظ في المعاجم واردا عرضا غير مقصود في مادة أخرى، فلا يستفاد منه؛ لأن الباحث يرجع للجذر ما يريد من الكلمات، فيفوته ما يرلاد في غير مكانه عرضا، وهذه واحدة من عيوب معاجمنا.
    ولم يزل هذا اللفظ أو الجمع (التنابلة) مسموعًا في لهجاتنا في بلاد المنبع بمعناها القديم إلى اليوم، وهو مسموع أيضا في بعض البلاد العربية واللهجات المهاجرة في ليبيا.

كتبه/ عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
السبت 24/ 12/ 1435هـ
الموافق 18/ 10/ 2014م
المدينة المنورة



[1] ديوانه (شعر النابغة الجعدي) 82.
[2] الحماسة 2/ 338، ومعجم الشعرء 58، والحماسة البصرية 2/ 470، شعر الخوارج 103.
[3] ينظر: الشعر والشعراء 1/ 333.
[4] النهاية في غريب الحديث (تنبل) 1/ 198، واللسان (تنبل) 11/ 80، التاج (تنبل) 28/ 145.
[5] الشعر والشعراء 1/ 333 ح1.
[6] ينظر: المحكم (رسس) 8/ 410، واللسان (رسس) 6/ 98، والتاج (رسس) 16/ 121.
[7] ينظراللسان (تنبل) 11/ 80، التاج (تنبل) 28/ 145.

الأربعاء، 15 أكتوبر 2014

توصيات ندوة الشهر (ذو الحجة):

توصيات ندوة الشهر (ذو الحجة)
ضعف مستوى الطلاب في اللغة العربية: الأسباب والحلول
20 /12/ 1435هـ

ملخص الندوة
بسم الله الرحمن الرحيم
      الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده
    أما بعد؛ فإن المتأمل في وضع أبنائنا وبعدِهم عن لغتهم العربية ليرى العجب العجاب، فأكثرهم بعيدون كل البعد عن أبجديات العربية، قراءةً وكتابة وتحدّثا، ومما يندى له الجبين أن بعضهم وصل المرحلة الجامعيّة، بل تجاوزها، وهو لم يحسن القراءة والكتابة. ومما يزيد الأمرَ خطورة أن معظمهم ليس لديه الرغبة الحقيقية في تعلم اللغة الفصحى، ويرى أن في ذلك مضيعةً للوقت، فهناك لغات –في نظره- أولى بالتعلّم من العربية، بحجّة التمدّن والتحضّر ومواكبة التكنولوجيا، وتطورات العصر، ونسي هؤلاء  ألّا سبيل إلى تعلم وفهم كتاب الله العزيز إلا بتعلّم العربية.
 وقد رُوي عن الثعالبي قوله: "من أحبّ الله أحبّ رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أحبّ النبي العربي أحبّ العرب، ومن أحبّ العرب أحبّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم و العرب ".
من أجل ذلك قام المجمع –مشكوراً- بعقد ندوة، بعنوان :
ضعف مستوى الطلاب في اللغة العربية: الأسباب والحلول.
وشارك فيها أعضاء المجمع –مشكورين- وأبدوا مرئيّاتهم حول هذه القضيّة، ومن خلال أطروحاتهم تبيّن أن ضعف مستوى الطلاب في اللغة العربية يمكن إرجاعه إلى سببين رئيسين:
السبب الأول:  أسباب عامة:
     هناك أسباب عامة أدت إلى ضعف مستوى الطلاب لغويّا، من أهمهما:
1)    طغيان العامية، واستبدالها بالفصحى، على الصعيدين: الإعلامي والتعليمي.
2)    التقليل من شأن اللغة العربية، والتحدّث باللغة (البيضاء) حتى أصبح هذا سمة غالبة على الإعلام، ووسائل الاتصال الحديثة.
3)    الازدواجية اللغوية، فالطالب يتعلّم قواعد وأساسيات اللغة في المدرسة، ولكنه لا يمارسها خارج أسوارها.
4)    عدم الاعتزاز باللغة العربية، والنظر لها نظرةً دونيّة، مقارنة بغيرها من اللغات.
5)    عدم استشعار قدسيّة اللغة العربية، فهي لغة القرآن الكريم، وفي الأثر: أن أهل الجنة يتكلمون العربية.
6)    الاعتماد في البيوت على الخادمة أو السائق لتعليم الطفل، مما يجعل الطفل ينشأ على لغة ركيكة مكسّرة، بعيدة عن العربيّة.
السبب الثاني: أسباب خاصة، وتنقسم ثلاثة  أقسام:
الأول: ما يتعلّق بالمعلّم:
    يعدّ المعلم هو الركيزة الأساسيّة في نقل المعرفة للطالب، ولذا يجب أن يكون مؤهلا تأهيلا تربويّاً سليماً، يُسهم في إثراء الطلاب لغويّا ومعرفيّا، بالإضافة إلى ما يجب أن يتحلّى به من الصفات الحميدة، لأن الطالب –لا سيّما في المرحلة الابتدائية- يحاكي المعلّم في كل كبيرة وصغيرة، حتى في طريقة كلامه، ومشيتِه، ولهذا فإن أيّ تقصير من المعلم تجاه الطلاب ينعكس سلباً عليهم، في جميع الاتجاهات، وليس لغويّا فحسب. ولذا ينبغي عليه أن يستشعر عظم المسؤوليّة الملقاة على عاتقه تجاه هذا الجيل، وما ينتظره مجتمعه منه.
ومن أهم الأسباب الخاصة التي أدّت إلى ضعف مستوى الطلاب في اللغة العربية ما يلي:
1)     عدم التزام بعض مدرسي اللغة العربية أثناء حديثهم وخطاباتهم باللغة الفصحى، والتعبير عنها بأسلوب صحيح.
2)    الضعف العام لمستوى بعض معلمي اللغة العربية، فربما أقبلَ بعضهم على هذا التخصص لأنه لم يُقبل في سواه.
3)    عدم اهتمام البعض بحصص اللغة العربية، فلا يُدخل المعلم على درسه النشاطَ والحيوية التي يستحقها.
4)    إسناد تدريس المواد العربية لغير المتخصّص، ولا تسألْ عن النتائج عندئذٍ!
5)    عدم التكامل في تدريس موادّ اللغة العربية، واعتبار فروع اللغة العربية كأنها مواد منفصلة.
6)    عدم تصحيح بعض المعلمين الأخطاءَ التي قد يقع فيها الطلاب. وتنبيههم على ذلك.
7)    التزام كثير من المعلمين بطريقة تقليدية في أداء الحصة، وعدم تفعيل اﻻستراتيجيات الحديثة للتعلم .
8)    عدم إتاحة الفرصة للطالب، ليُعربَ عما في نفسه.
9)  إهمال دور مادتيْ: التعبير، والإملاء، وعدم إعطائهما حقهما، من قِبل بعض المعلمين، وزاد الطين بِلّة دمجُ الوزارة جميعَ موادّ اللغة العربية في كتاب واحد، مما يلغي دور هاتين المادتين.
الثاني: ما يتعلّق بالطالب نفسه:
    الطالب هو محور العمليّة التعليميّة، ومن أجله تُطوّر المناهجُ وتُحسّن، ليكون فرداً صالحا في خدمة دينه، ووطنه، وأمته. لذلك يجب عليه أن يكون حريصاً كل الحرص على ما ينفعه ويساعده على تطوير ذاته في شتّى المجالات، التي من أهمها زيادة حصيلته اللغويّة والمعرفيّة.
 ومن الأسباب التي أدت إلى انخفاض مستوى الطلاب في اللغة العربية ما يلي:
1)    قلّة الرغبة في تعلّم اللغة العربية، والنظر إليها وكأنها لغة صعبة الإتقان والتعلّم.
2)    عدم ممارسة اللغة العربية الفصحى في الحياة اليومية، وبشكل مستمرّ. ولا سيّما في المواضيع الكتابيّة، لأن لديه وقتا للتفكير والتنقيح.
3)    ازدراء المتحدثين بالعربية، وكأنها أصبحت لغة غريبة، وقد غاب عنهم  أن علوّ الأمم بلعوّ لغاتها.
الثالث: ما يتعلّق بالمقررات الدراسيّة:
   يشتكي البعض من مناهج اللغة العربية الحديثة، وطريقة تناولها للموضوعات، وقصورها في بعض الجوانب النفسيّة والمعرفيّة، وإن كنتُ أرى أنّ دور المعلّم والطالب أهم بكثير منها، ويجب ألّا نجعلها حجرة عثر في طريقنا، نعلّق عليها كل إخفاقاتنا، فالمعلم إذا كان مؤسّسا تأسيسا لغويّا جيّدا، يستطيع التعامل معها وإيصالها إلى الطالب بما يكفل له تأثيرها على سليقته اللغوية.
 ومن سلبياتها، ما يلي:
1)    عدم مناسبتها للظروف البيئية المختلفة، فبعضها يحتاج إلى معامل خاصة، وبعضها عُرِّب دون مراعاة الواقع.
2)    نظام التقويم المستمر ونظام الامتحانات الحالي قلل التنافس، وثبط الهمم والعزائم.
3)    غياب عنصر التشويق، كالرسوم المتحركة، والألعاب الإلكترونية، الناطقة باللغة العربية، لجذب انتباه الطلاب.
المقترحات والحلول والتوصيات:
    بما أن اللغة العربية تمثل هوية الأمة ومصدر عزتها وكرامتها، فإن على المؤسّسات التعليميّة أن تنسق بين جهودها التي تبذلها في ميدان الحفاظ على اللغة العربية وتطوير تعليمها وتعلمها، وأن تبحث في نتائج الضعف في اللغة العربية، وفي بيان مدى خطورته على مستقبل اللغة ومستقبل الأمة، ويجب عليها أن تأخذ بالتوصيات التي يطرحها المختصّون، وتنظر إليها بعين الاعتبار، ومن تلك التوصيات:
1)    تأهيل معلمي اللغة العربية وإلزامهم بالتحدث بالفصحى عند تدريسهم مقررات اللغة العربية.
2)    زيادة عدد مقررات اللغة العربية وزيادة حصصها في المراحل التعليمية.
3)    توفير معاهد تدريب تقيم دورات في المحادثة بالفصحى، فالحاجة أصبحت ماسة لذلك.
4)    تشويق الطلاب للغة الفصحى، بإقامة مسابقات ثقافية وجوائز تحفيزية لمن يتحدث بالفصحى.
5)    تشجيع الطلاب على حفظ القرآن، ولا يخفى على كل ذي لُبّ ما لحفظه من انعكاسات إيجابية على لغة الطالب. وحسب الإحصائيات فإن المتفوقين في التعليم هم من مدارس التحفيظ.
6)    الاهتمام بدور الإذاعة المدرسيّة، وإجبار الطلاب على التحدث باللغة العربية الفصحى أثناء الإذاعة.
7)    إدخال الألعاب الإلكترونية الحديثة، الناطقة بالعربية، والتي من شأنها أن تجذب الطفل وتنمّي مهاراته اللغوية.
8)    استحداث تخصص (معلم صفوف أولية) في الجامعات.
9)    خفض عدد الطلاب في فصول التعليم الأساسي.
10)           مشاركة المعلمين ذوي الخبرة في وضع المناهج الدراسية.

وأقول في الختام: إن الحاجة تبدو ماسة لوضع حدٍّ لهذا الضعف المتنامي بشكل مخيف، حتى لا تصبح اللغة العربية غريبة على أبنائها، أو أن ينحصر استخدامها في النخبويين المتخصصين، أو الأوساط الرسمية الخاصة. وإذا لم يتدارك المثقفون والتربويون هذه المشكلة، ويسعوا إلى علاجها والحد من آثارها، فإن العواقب ستكون وخيمة، فضعفُ الطلاب لغوياً يمنعهم من الانتفاع بالتراث العربي الأصيل لأمتهم، علاوة على عدم انتفاعهم بما يخدم مصالح دينهم.. والله الموفق.
أعداها
أ. محمد بن حبيب الترجمي
المدينة المنورة
20 /12 /1435هـ

الاثنين، 13 أكتوبر 2014

فوائت قطعية:

الفعل (تَبَدّى) بمعنى برز وظهر فائتٌ قطعيّ

     بمعنى برز وظهر فائتٌ قطعي، وقد جاء في بعض أشعار العرب زمن الاحتجاج، منها قول عمرو بن معدي كرب(1):
وبـدتْ لَمِيسُ كأنّها     بدرُ السّماءِ إذا تَبَدَّى
أي إذا ظهر في السماء وبرز للأعين بجلاء ووضوح. ولم أجد في معاجمنا القديمة في جذر (بدو) كلمة (تَبَدّى) بمعنى برز وظهر، ولكن فيها: تبدّى بمعنى أقام في البادية. وذكر محمد الخصر حسين في كتابه "القياس"(2) أنها ليست في المعاجم، وأنها فصيحة وشاهدها البيت السابق، وهو أول من نبّه إلى ذلك في كتابه هذا المطبوع سنة 1353هـ ، وتبعه في ذلك محمد العدناني في كتابه (معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة))(3) وتبعهما الدكتور خليل بنيان الحسون، وتوسع في ذكر شواهد لهذه الدلالة الفائتة لشعراء كثر من عصور الاحتجاج(4) .

      وعند البحث وجدت لها شواهد أُخَر، منها قول زهير بن أبي سلمى(5):

قامت تبدّى بذي ضال لتـحزُنني   ولا محالة أن يشتاق من عَشِقا
قال ثعلب في شرح الديوان: ((تبدّى ظهر، من قوله تعالى: ﴿ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات﴾ أي ظهر لهم من الرأي))(6)
ومنها ما رواه الآمدي وعزاه لبعض العرب، وهو قول الشاعر(7):

تُغْضِىِ العُيُونُ إذَا تَبَدّى هَيْبَةً    ويُنَكِّسُ النُّظُّارُ لَحْظَ النَّاظِر
وأستشهد به الواحدي في شرح شعر المتنبي، وقال:  تَبَدَّى: طلع وظهر(8).

وجاءت في شعر كُثيّر عزة، قال(9):

تَبَدَّتْ فصادتْه عشيّة بينها     وقد كُشفتْ منها لبينٍ ستورُها

وقال جميل بن معمر(10):

تَبَدّتْ كما يبدو السُّها غيرَ أنها    أنارتْ ببِيضٍ عيشُهُنّ رَغيدُ
قلت: والعجيب أن أصحاب بعض المعاجم أوردوا شواهد لمواد في جذور غير (بدو) جاءت فيها تبدّى بمعنى ظهر وبرز، ولم ينتبهوا إلى أنّ في الشاهد شاهداً آخر لكلمة أخرى، وهي تبدّى، ففي شمس العلوم في مادة (قرن)(11) ذكر نشوان الحميري شاهدا لــ (قَرْن الشمس) من شعر قيس بن الخطيم، وهو قوله(12):

تَبَدّتْ كقَرْنِ الشَّمْسِ تَحْتَ غَمامةٍ  بَدا حاجبٌ منها وضنّتْ بحاجبِ

قال ابن السكيت في شرح ديوان قيس بن الخطيم: ((أراد: أنها إنما أظهرت له بعض وجهها))(13)

    وقال ابن سيده في المحكم في مادة (جيش): وجَيْشانُ: مَوضِع معروف، وقوله - أنشده ابْن الأعرابِي:
قامتْ تَبدَّي لك في جَيْشانها
لم يفسره. وَعِنْدِي: أَنه أَرَادَ فِي جَيَشانها، أَي: قوتها وشبابها))(14) وتبدّى هنا بمعنى بدا وظهر.

    ونقله في مادة (جيش) ابنُ منظور(15) في والزبيدي(16ولم يتنبّه هؤلاء (ابنُ سيدة ونشوان الحميري وابن منظور والزَّبيدي) إلى أنّ في شاهدهم شاهدًّا آخر لكلمة تبدّى بمعنى برز وظهر، ففاتهما ذكره في موضعه في مادة (ب د و)

والطريف أن بعض من كتب في التصحيح اللغوي يُخطّئ مَن يستعمل "تبدّى" بمعنى: ظهر، لأنه لم يرد في المعاجم! ويقولون: إن معنى الفعل تبدّى هو: أقام بالبادية، فأنكر عليهم محمد العدناني ذلك(17).
    وأنكر بعضهم على الدكتور خليل بنيان الحسون استعمال تبدّى في بعض كتاباته، بحجة أنها لم ترد في المعاجم، قال الدكتور الحسون في هذا: ((أحيل بحث لي على عالم فاضل من علمائنا ليرى رأيه فيه، وقد كان مما أخذه عليّ استعمالي الفعل (تبدّى) بمعنى بدا، وهو يرى أن الفعل بهذا البناء لا يؤدي هذه الدلالة، وإنما يعنى الاتصاف بالبداوة والإقامة بالبادية، ولقد كان مما أثار دهشتي أنني وجدت كل المعجمات التي بين أيدينا تقف مع هذا العالم الفاضل، فهي تشير إلى أن الفعل تبدّى يعنى سكن البادية واتصف بالبداوة، ولم يثبت أي منها أن هذا البناء للفعل قد يستعمل بمعنى أصله الثلاثي، على كثرة وروده على ألسنة البغاء، وأقلام الأدباء المعروفين بسلامة اللغة واستواء الأسلوب، ممن يقتدى بأساليبهم، ويؤتمّ بما يأتون، فضلا عن وروده في شواهد شعرية معتبرة))(18)

   قلت: وكلمة (تبدّى) هذه تفيدنا في بيان ما للفوائت القطعية من أهمية، وتكشف عن بعض أثرها على التصحيح اللغوي. وقد أحسن صُنّاع المعجم الوسيط حين استدركوها على معاجمنا القديمة، وأثبتوها في جذرها (ب د و) فجاء فيه: ((تبدَّى: ظهر وأقام بالبادية))(19)
 كتبه/ عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
الاثنين 19 / 12/ 1425هـ
المدينة المنورة



[1] شعر عمرو بن معدي كرب 81.
[2] القياس 106.
[3] ص 50.
[4] ينظر: المستدرك على معجماتنا 109، 110.
[5] شرح ديوان زهير بن أبي سلمى (صنعة شرح ثعلب) 54، وفي شعر زهير بشرح الأعلم (ص 64) قامت تراءى.. ولا شاهد فيه.
[6] شرح ديوان زهير بن أبي سلمى (شرح ثعلب) 54.
[7] الموازنة ص 296.
[8] شرح ديوان المتنبي 80.
[9] ديوانه 313
[10] ديوانه 68، والحماسة البصرية 3/ 989.
[11] شمس العلوم (قرن) 8/ 5421
[12] ديوان قيس بن الخطيم 79، وروايته: تبدّت لنا كالشمس تحت غمامة...
[13] ديوان قيس بن الخطيم 59.
[14] المحكم (جيش) 7/ 498.
[15] اللسان (جيش) 6/ 278.
[16] التاج (جيش) 17/ 119.
[17]  ينظر معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة 50.
[18] المستدرك على معجماتنا 3.
[19] المعجم الوسيط (بدو) 45.