الأحد، 29 مايو 2016

"الجيم" لأبي عمرو الشيباني:

 "الجيم" لأبي عمرو الشيباني
1
بسم الله الرحمن الرحيم
         الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه نجوم الدين.
       أما بعد.. فهذا حديث حثيث عن كتاب "الجيم" لأبي عمرو الشيباني، وهو أحد أئمة العربية الكبار، الذي خدموا هذا اللسان العربي المبين، فجزاه الله عنا خير الجزاء.
      والله أسأل القبول، وأن ينفع بهذا المزبور إخواني، وصلى الله وسلم على خير الناس محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

[البدء]:
       لا نعرف لهذا المعجم حتى الآن من المخطوطات إلا نسخة واحدة عليها قد حُقِّق الكتاب، وهي نسخة دير الأسكوريال، وفي النسخة عبارات تفيد بأنها قوبلت على نسختين خطيتين صرح باسمي كاتبيها: وهما: نسخة أبي سعيد السكري (ت275هـ) ونسخة أبي موسى سليمان بن محمد الحامض الكوفي (ت305هـ)،   وتفيد هذه العبارات أيضا بأن نسخة السكري منقولة من نسخة المؤلف، أبي عمرو الشيباني.
       وقد جاء في صفحة العنوان ما يفيد بأنها قد دخلت "مصر" في حوزة العالم اللغوي ابن هشام النحوي (ت761هـ) المشهور، صاحب القطر والشذور. ثم رحلت هذه النسخة إلى "قابون" بدمشق، وامتلكها عالم حنفي يدعى "علي بن محمد القابوني الحنفي" إلى أن استقرت في آخر رحلتها بالأندلس في مكتبة الأسكوريال. وهذه النسخة لم يصرح فيها باسم ناسخها، وقد رجح المحقق إبراهيم الأبياري رحمه الله أن هذه الكتابات التي على صفحة العنوان ترجع إلى القرن الرابع أو القرن الخامس.
      وقد اعتمد الناسخ في نسخه على نسخة أبي موسى الحامض، وقابلها على نسخة السكري، وأكمل السقط الوارد في نسخة السكري من نسخة أبي موسى الحامض، فتمت له النسخة وصحَّتْ، ولكن الناسخ شك في بعض الزيادات التي لم يجدها في نسخة أبي موسى الحامض، والتي قد تفردت بها نسخة أبي سعيد السكري.

[التعريف بصاحب الأصل الأول: نسخة أبي سعيد السُّكَّري (ت275هـ)]:
      وهو الحسن بن الحسين بن عبد الله، أبو سعيد السكري النحوي، المقرئ، البصري، الناقد، الأديب، راوية البصريين، مكثر، سمع يحيى بن معين، وأبا حاتم السجستاني، والرياشي، وغيرهم، وكان ثقة دينا، صادقا، يقرئ القرآن. روى أشعار الفحول الكبار، وله كتاب الوحوش، والنبات. روايته في الذُّرَى. (و212هـ).
ينظر: الأعلام للزركلي (2/188).

[التعريف بصاحب الأصل الثاني: نسخة أبي موسى الحامض (ت305)]:
      هو سليمان بن محمد بن أحمد، أبو موسى الحامض: نحوي، من العلماء باللغة والشعر، من أهل بغداد. من تلاميذ ثعلب. كان ضيق الصدر سيّئ الخلق، فلقب بالحامض. من تصانيفه (خلق الإنسان) و (السبق والنضال) و (النبات) و (الوحوش) و (غريب الحديث) . و (ما يذكر ويؤنث من الإنسان واللباس).
ينظر: الأعلام للزركلي (3/132).

[مفردات المعجم]:
     معجم "الجيم": يعد معجما في غرائب المفردات، وفيه تفردات كثيرة قد أُخذت عن أبي عمرو الشيباني، وتناقلتها المعاجم بعده، والشيباني إسحاق بن مِرَار، حجة، ثقة، شيخ الإمام أحمد بن حنبل، جمع أشعار العرب، فكان كلما جمع شعر قبيلة خرج بها على الناس، فرحمة ربي عليه!، وقد أهمل التعريف بمعجم "الجيم" الدكتور حسين نصار، في كتابه "المعجم العربي"، وقد أفرد له بحثا مستقلا تحدث فيه عنه، وكتاب الجيم طبع سنة م1974. واكتشفه قبل ذلك المستشرق كرنكو، وهو كتاب حري بالدراسة والتتبع والتحقيق.

لمَ سمَّى أبو عمرو كتابه بـ"الجيم" ؟
     لا نعلم على وجه اليقين لم سمَّى أبو عمرو الشيباني معجمه بالجيم، وأغلب الظن أنه اقتفى في ذلك أثر الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه "العين". ولم تأت في النسخة الخطية مقدمة يعرف منها أسباب ذلك، وقد قيل: لأنه بدأه بحرف الجيم، والنسخة التي بين أيدينا تبدأ بحرف الهمزة، وقد مات من يعلم ذلك دون أن يخبر بها الناس، وهما الشيخان اللغويان ابن القطاع والقفطي، والأمر يحتاج إلى دراسة، ولعل الله يخرج لنا نُسخًا أخرى من الكتاب تحل لنا مثل هذه الإشكالات!

[وقفة مع المحققين]:
    لم يلتزم محقق الجزء الأول من كتاب الجيم "إبراهيم الإبياري" بأصل النسخة الخطية التي أمامه بل خالفها في مرات كثيرة، ولم يكتف بهذا، بل زاد في النص زيادات ظن أن السياق يقتضيها دون بياض في النص أو طمس، مع سرعة تخطئة الناسخ، لا مسوغ لها، بل أحيانا يخطئ الناسخ في أشياء ويصوب قراءة أخرى، فلما تعود إلى النسخة الخطية تجد الناسخ قد كتبها كما صوبه، وما خطأه فيه غير موجود أمامك.  
ينظر على سبيل المثال: كلمة [قال ابن مقبل] قال في الحاشية في النسخة: [قال أبي مقبل] ص  (1/72)، فلما عدت إلى النسخة التي عليها قد حقق الكتاب وجدت قراءة النسخة: [قال ابن مقبل] كما أثبت.
 ينظر: الجيم. مخطوط، الأسكوريال، ورقة [7/ب].

[دلالات الرموز التي اتخذها ناسخ معجم الجيم في الهامش]:
[ص]: الأصل.
[س]: نسخة السكري.
[ض] نسخة أبي موسى الحامض.
[س] حفظي: إشارة من الناسخ إلى مخالفةِ السكريِّ روايةَ أبي عمرو الشيباني، فهذه من قول السكري وجدها الناسخ في نسخته فالمعنى عند السكري: هذه رواية أبي عمرو التي وجدتها في نسخته التي بخط يده، وهي تخالف محفوظي لها، ثم يذكر الناسخ في الهامش محفوظ السكري.

[خط النسخة]:
قال المحقق (إبراهيم الأبياري) عن النسخة: وهي ليست جيدة الخط. اهـ. ص (316).
قلت: وهذا منه غريب، فخط النسخة من أجود الخطوط، وهو خطٌّ يستطيع القارئ المتخصص قراءته بعد معرفة منهج الناسخ في شكل الحروف وضبطها.

[ما كتبه الناسخ على صفحة عنوان النسخة الخطية من كتاب الجيم، وهو نفيس]:
قال المحقق: [اقتفيتُ] ولعل الصواب: [قابلتُ].
وقال المحقق: [سقط عليه من ورقة فنقلته] والصواب: [سقط عليه من <ورقة ووجه> ورقةٌ فنقلته].
قال المحقق: [صححته (ض)] وفي النسخة: [ضاد]. وهذا هين.
ينظر: (1/51).

[تعليقات النسخة]:
هذه بعض التعليقات التي كتبها الناسخ في هامش النسخة:
قال الناسخ في هامش الورقة رقم (33): « هذا آخر ما وجد من حرف الجيم بخط السكري، وذكر في آخر الجيم، أنه قد بقي منه، ولم يوجد ».
 وقال في الهامش المقابل للتعليق: « قابلت بهذا الجزء (ما فيه) نسخة أبي موسى الحامض، وكانت أصله بخطه وصح، والحمد لله.
وفي الوجه المقابل بياض وفيه: [... من الأصل، ومن خط أبي عمرو].
وفي هامش ورقة [34/أ]: ... هذا الحرف بخط الحامض. وهو صحيح.
وتحته: [كذا في نسخة أخرى].
ويرمز الناسخ لنسخة أبي موسى الحامض بـ[ض] فجاء في [34/ب]: ... في نسخة [ض].
ويرمز لنسخة السكري بـ[س] وجاء في ورقة [51/ب]: [س]. ثم ذكر الفرق.
 ويقول في [58/أ]: كذا بخط [س]... كذا في الأصل.
كذا بخط [س] وكذا في نسخة أخرى.
 ويقول في [38/أ]: كذا في النسختين.
وجاء في ورقة [51/ب]: [نسخة أبي عمرو بخطه].
وجاء في ورقة [66/ب]: هذا آخر ما وجدته في أصل أبي عمرو بخطه.
وفي هامش الورقة: [بلغت المعارضة على الأصل بخط السكري، والحمد لله].
وقال تحتها: [قابلت بهذا الجزء ثانية كتابا بخط أبي موسى الحامض، وصححه عليهم].
وفي [74/أ]: كذا في نسختين.
وفي ورقة [76/أ]: آخر ما وجد من الخاء بخط السكري، وذكر أنه آخر ما وجده <بخط أبي عمرو> من الخاء.
وجاء في هامش [81/أ]: باب آخر الدال الأولى من نسخة أبي عمرو، وأول الدال الثانية من أصل أبي عمرو، وهذه حكاية السكري. اهـ.
وقال تحتها: لم يكن هذا الباب الثاني من الدال عند الحامض.
وقال في [89/ب]: [س] من نسخة أبي عمرو. اهـ وهو يعني بها أن هذا ما وجده السكري في نسخة أبي عمرو الشيباني.
وقال في الهامش نفسه: [قال السكري: هذا آخر ما وجدت في أصل أبي عمرو من حروف الدال، وهي النسخة الباقية].
وفي ورقة [92/أ]: [س] هذا آخر ما وجدت من باب الذال في نسخة أبي عمرو، قابلت بهذا الجزء كتابا بخط أبي موسى الحامض، وصح، والحمد لله].
وقال في الهامش المقابل: [عورض به أصل السكري بخطه، وصح عليه إلا ما كانت عليه علامة "ثاني كذلك". وجدته بخط].
وفي هامش ورقة [103/ب]: [س] هذا آخر ما وجدتُ من كتاب الراء في نسخة أبي عمرو، وبخطه عند "ابن بسطام"... ثم قال الناسخ: لم أجد في نسخة الحامض: [هذا الباب الثاني من الراء].
وفي هامش ورقة [108/أ]: [س] كان في كتاب أبي عمرو كتاب ولا أعرفه.
وفي ورقة [115/ب]: هذا آخر ما وجدتُ في أصل أبي عمرو من باب الراء.
ثم قال الناسخ تحتها: [قابلتُ بهذا الجزء ثانية كتابا بخط أبي موسى الحامض، وصححته عليه، والحمد لله كثيرا].
وقال في الهامش: [من خط السكري: قوبل به الأصل المنقول من أصل أبي عمرو وصح إلا ما أعلمت عليه، والحمد لله].
وفي هامش ورقة [117/أ]: [من خط السكري]، [س] من نسخة أبي عمرو، [قابلت به خط الحامض].
[بياض ص كذا].
وفي هامش ورقة [120/أ]: [س] آخر باب الزاء، من نسخة أبي عمرو بخطه، باب الزاء، من أصل أبي عمرو.
وفي الهامش المقابل: [لم أجد هذا الباب الثاني، هي الزاء في خط الحامض].
وقال في ورقة [126/ب]: [س] هذا آخر ما في أصل كتاب أبي عمرو من حرف الزاء. ثم كتب في الهامش المقابل: [قابلت به خط الحامض].
وكتب في هامش ورقة [135/أ]: [س] آخر باب السين من نسخة أبي عمرو بخطه.
وكتب في ورقة [143/ب]: آخر باب الشين من نسخة السكري بخطه المنقول من خط أبي عمرو الشيباني، والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله وسلم]. وكتب في الهامش: [قوبل به الأصل المنقول منه بخط السكري، وصح إلا ما أعلمه عليه والحمد لله] ثم كتب تحتها: [قابلت بهذا الجزء كتابا بخط الحامض وصححته على ما وجدته فيه، والحمد لله كثيرا].
وفي ورقة [175/أ]: قال [س]. لم تكن هذه الزيادة عند الحامض.
وفي ورقة [202/أ]: قابلت بحرف الغين وحده من هذا الجزء خطَ الحامض؛ لأن الزيادة في حرف العلل لم تكن عند الحامض. وصح.
وكتب الناسخ في هامش ورقة [203/أ] في باب الفاء: قال أبو سعيد (يعني السكري): سقطت الورقة الأولى.
وكتب في آخر الباب [212/ب]: آخر الفاء من أصل أبي عمرو.
وقال في باب القاف، هامش ورقة [213/أ]: ذكر السكري أنه من نسخة أبي عمرو وكان قد بيض في أوله صفحتين، ذهبت.
وقال الناسخ في هامش [220/أ]: آخر القاف من نسخة أبي عمرو. وفي الهامش المقابل: [س] ومن أصل أبي عمرو. [لم أجد هذه الزيادة عند الحامض].
وقال الناسخ في ورقة [234/ب]: وجدتُ هذه الزيادة في كتاب الحامض في أول الفاء فكتبتُها حتى اتصلت بأول باب الفاء من نسخة السكري، وفيها حروف مكررة.
وقال في ورقة [236/أ]: وهذا أول الفاء عند السكري، وسقط عليه منها ورقتان. والوجه المقابل لها: بياض مكتوب في أوله: [قوبل به وصح إلا ما أعلمت عليه بما وجدته في الأصل فحكيته.
وفي هامش [240/ب] تعليقا على باب الكاف "من نسخة أبي عمرو الأصل": [لم تكن هذه الزيادة عند الحامض].
وفي ورقة [258/ب]: [قوبل به الأصل المنقول منه، وصح إلا ما كانت عليه علامة. والحمد لله].
وكتب في الهامش المقابل: [عارضت به نسخة بخط الحامض، وصححت ما وجدت من الأصل، فأما الزيادات فلم تكن في كتاب "الحامض"].
وكتب في هامش ورقة [262/أ]: ذهب من الأصل من هذا الموضع صفحُ ورقةٍ سليماني.
وفي هامش [265/ب]: هذا آخر باب الميم من نسخة أبي عمرو بخطه.
وكتب تحتها: [بلغ].
وفي ورقة [285/ب] علق الناسخ على [باب الياء]: قابلت الياء خط الحامض من الياء. وصح.
وقال في خاتمة الكتاب:
تمت الياء وتم الكتاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خيرته من خلقه محمد النبي صلى الله عليه وسلم.
وكتب في الهامش: وصح إلا ما وجدته في الأصل مبهما، أو خطأ، فأعلمت عليه والحمد لله وصلى الله على خيرة من خلقه محمد النبي وآله وسلم.
ثم كتب تحتها: قابلت هذا الجزء كتاب "الحامض" وصححه على ما وجدت فيه صحيحا، وأخبرت بفساد ما كان فاسدا وكذلك سائر الأجزاء التي قبله، جزءًا جزءًا. والحمد لله كثيرا كما هو أهله.
انتهى المقصود. والله الموفق، وهو المستعان.

[كتاب الجيم والقرَّاء]:
     قارئ كتاب الجيم قارئ متخصص، وأريد أن أنهي الكلام عن هذا الكتاب، فأقول: لابد لك في مطالعتك الكتابَ المطبوع من الرجوع إلى النسخة الخطية الوحيدة حتى الآن للكتاب، وهي نسخة نفيسة مقابلة على نسختين: نسخة أبي السكري وهي منقولة من نسخة المؤلف، ونسخة أبي موسى الحامض، وقد أثبت لك ناسخها في الهامش القراءات المختلفة للنص، وسوف يتبين لك في قراءتك أشياء قد تخالف فيها المحققين، وقد نظرت في عمل المحققين الثلاثة فوجدت محقق الجزء الثالث "عبد الكريم العزباوي" الوحيد الذي لم يضف أي إضافات في النص من كيسه أو زيادات يقتضيها السياق، أو زيادات من المعاجم مضافة في النص، كما فعل محقق الجزء الأول والثاني، فما أضافه المحققان المذكوران ينبغي لقارئ الكتاب المتخصص التوجس من مثل هذه الإضافات حتى يتبين له صحتها، ويصح لك أن تخالف مُضيفها إما بالتوقف في القراءة وإما برفضها، أو قبولها مع الدليل على ذلك والتعليل له.
     والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه/ يوسف السِّنَّاري
مصر         

الجمعة، 27 مايو 2016

قراءة في رحاب آية:

قراءة في رحاب آية

      "ومن شر النفاثات في العقد". أليست عقدة النكاح عقدة من العقد التي ورد ذكرها في القرءان.؟ أليس النفث في عقدة النكاح هو التفريق بين المرء وزوجه بحل تلك العقدة.؟ أليست عقود المعاملات وعقود الأيمان عهود ومواثيق عقدها أصحابها على أنفسهم بالكتابة وباللسان.؟ كما في سورة المائدة ويكون النفث فيها إبطالها والرجوع عنها والنكوث فيها.؟ أليست النميمة باللسان تفعل فعل السحر بل أشد.؟ والنمام والقتات لا يدخلان الجنة ومن نم شرا كمن نفث سما.؟ واستعمل القرءان العقدة في عقدة اللسان كما في قوله تعالى :"واحلل عقدة من لساني" كما استعملها في عقدة النكاح وهو مما يعقد باللسان. وغالب استعمال القرءان لجذر مادة ع ق د فيما يكون باللسان: أوفوا بالعقود،عقدت أيمانكم، وعقدتم الأيمان، وعقدة النكاح، وعقدة من لساني. ولم يستعمل القرءان مرة أيا من جذر مادة ( ع ق د ) فيما تكون فيه الإشارة إلى عقدة الخيط والحبل والشعر ونحو ذلك مما يستخدم في السحر. والعقد هي الروابط المحكمة والأواصر المتينة والعرى المستمسكة. والنفث في العقد على سبيل الإضرار وإلحاق الأذى بتلك العقد بتقطيع الأواصر وكسر الروابط وحل الوثاق عن العرى المستمسكة. وتحمل الاستعاذة من شر النفاثات في العقد على طلب السلامة لهذه العقد وإبقائها في حالة محكمة متصلة مستمسكة واتقاءا لقطعها وانفكاكها. ويقع الضرر على هذه العقد على إثر النفث فيها بطريقين: طريق السحر وهو أخفها وأكلفها وأعزها، وطريق النميمة وهو أشدها وأخطرها وأيسرها. لم يقع التصريح في الاستعاذة من شر السحر على نحو الحسد، فلم يقل ومن شر ساحر اذا سحر كما قال ومن شر حاسد إذا حسد. ولم يأت بالفعل نفث من اسم الفاعل النافثات أو من صيغة المبالغة النفاثات على غرار حسد من حاسد ، ولم يقل ومن شر النفاثات إذا نفثن أو نفثت في العقد. وكما لم يأتت بالفعل نفث ، لم يعلق حدوث الفعل بإذا الدالة على الشرطية والظرفية والاستقبال كما فعل مع غاسق إذا وقب ، وحاسد إذا حسد على ما في ذلك من عدم ترقب حدوث الفعل ووقوعه من فاعله من غير استدعاء له. ووقوع النفث في العقد من غير استدعاء له أو تعليق حدوثه بشرط ما على ما في النفث من الكثرة والسهولة واليسر وغزارة وتتابع الدفق ليدل على تكراره. والعدول عن استعمال إذا عقدن إلى استعمال في الدالة على الظرفية "في العقد" ليفيد التغلغل والتمكن والنفاذية وتحقق حصول الضرر. والنفث فيه معنى البث بجامع التفشي والانتشار بينهما بملحظ من الخفة والسرعة. وفي الحديث أَنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : إِنّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِى " أَي أَوْحَى وأَلْقَى كذا في النهاية . وفي المصباح : نَفَثَه من فَمِه نَفْثاً من باب ضَرَب: رَمَى به . وفي الأَساس: النَّفْث: الرَّمْىُ. وفي المثل : "لا بُدّ للمَصْدُورِ أَنْ يَنْفِثَ ". وفي حديث المُغيرَة : " مِئْنَاثٌ كأَنّهَا نُفَاثٌ " أَي تَنْفُثُ البَنَاتِ نَفْثاً قال ابنُ الأَثير : قال الخَطّابِيّ : لا أَعْلَمُ النُّفَاثَ في شَيْءٍ غير النَّفْثِ قال : ولا موضِعَ لَهَا ها هنا قال ابنُ الأَثير : يحتمل أَن يكونَ شَبَّهَ كَثرةَ مَجيئِها بالبَناتِ بكثرةِ النَّفْثِ وتَواتُرِه وسُرْعَتِه . وكذا في اللسان المصدر : تاج العروس. العقد : جمع عقدة بمعنى المعقودة والمنعقدة. قال في تاج العروس : والذي صَرَّحَ به أَئِمَّةُ الاشتِقَاقِ : أَنَّ أَصلَ العَقْدِ نَقِيض الحَلِّ. ا.ه. العقد : بملحظ من التشابك والالتفاف والتجعيد والتراص والتداخل كما في عنقود العنب وخرزات العقد. دلالة العقد على الربط والتشبيك كما هو عقدة النكاح رباط بين الزوجين، والعقود ربط بين المتعاقدين وعقد اليمين ربطها بالقسم والكفارة وعقدة اللسان ربط الكلام باللسان فلا يبين. وتأسيسا على ما سبق ذكره: الاستعاذة من شر النفاثات في العقد، استعاذة من شر النميمة، أشد آفات اللسان فتكا بالروابط المنعقدة والمعقودة على ما في معنى النفث من الوحي والالهام والالقاء مما يرشح لخطر الكلمة التي تخرج من اللسان فلا تعود إليه أبدا بحال من الأحوال وبثها بسرعة البرق بما يضر بتلك العقد القائمة بالفعل بما يهدد سلامتها ومتانتها ويؤذن بحل وثاقها وكسرها روابطها. وهي قراءة أخرى يقبلها السياق ولا يردها على قاعدة تعدد المعنى بتعدد الحمل، وذلك سمة النص القرءاني، وواحدة من أخص أوجه إعجازه وبيانه. والله أعلم. 

سعيد صويني
 صعيد مصر     

الأربعاء، 25 مايو 2016

موقفي من اللهجات والعامّيّات:

موقفي من اللهجات والعامّيّات



قال: لماذا تُعنى بكلام العامة وتحتفي به في مجمع اللغة الافتراضي؟

قلت: لا أحتفي بكلام العامّة، ولكنني أُفتّش في لهجات عربية لقبائل مستقرة في ديارها منذ قرون عديدة، وأُنقّب في ركامها اللغوي عن شيء أُسمّيه الفوائت الظنية.

قال: لماذا لا تشتغل بالفصحى كغيرك؟
قلت: كل أبحاثي في الفصحى، وينقصني خدمة العربية ومعجمها من خلال لهجاتها؛ لأن اللهجات منجم عظيم للألفاظ التي لم تصل إليها أيدي صناع المعاجم في العراق.

قال: لم أفهم! وضّح أكثر.

          قلت: أنا أتحدث عن شطرٍ من العربية لا يعيره الباحثون اهتمامهم، وهو الشطر الشفوي في بيئات خاصة فيجزيرة العرب، وهو جزء من العربية المنطوقة التي نسمعها من قبائل عربية لم تزل في ديارها ترث لغتها عن أجدادها، ورأيت أن أغلب المتخصصين يشتغل بالعربية المكتوبة وينشغل بها، وهي عربية ثابتة ومخدومة، فألتفتُ في جزء من نشاطي البحثي إلى العربية المتحركة الصاخبة الحيّة على ألسنة الناس بصفائها وكدرها وحلوها ومرّها، وأردت ألا أقتصر على نصوص فصيحة مكتوبة قلّبتها الأجيال ونخلتها طيلة أربعة عشر قرنًا، وهدفي الإصلاح والتهذيب واستخراج الفصيح غير الممعجم من شطرٍ حيٍّ من لغتنا منسيٍّ في جامعاتنا.

عبدالرزاق الصاعدي    

المدينة المنورة 19/ 8/ 1437م

السبت، 21 مايو 2016

"الاستحداد" بين الحُدَّة والحديدة

                                                                   بقلم:  تركي بن ماطر الغنامي
"الاستحداد" بين الحُدَّة والحديدة
(قراءة في الاشتقاق اللغوي للفظة "الاستحداد" الواردة في الحديث النبوي الشريف مع إشارة إلى أثر ذلك في الاجتهادات الفقهية)

     من نافلة القول أن نؤكد على أنه لا ينبغي التسليم المطلق فيما نحن بصدده من دراسات إلا لنصٍّ شرعي قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وما عدا ذلك فهي اجتهادات وآراء لعلماء وأئمة لا نحسبهم إلا متحرين للصواب ورضا الحق جل وعلا، وهم مع ذلك لم يدَّعوا العصمة لهذه الآراء والأقوال، فاحتمال الخطأ عليها وارد، بل إن الحكم عليها بالخطأ في بعض الأحيان متعيِّن، وقد يُتناقل الخطأ ويشيع ويطول به الزمن؛ فيكتسب بعاملي الشيوع والتقادم ما يشبه التقديس، لاسيما إذا لم يُعرف على مدى قرون من نبه عليه أو وقف منه موقف المتشكك.
      ومن المواضع – وغيرها كثير -التي توقفت معها طويلا رغم أنها طبَّقت الآفاق شيوعًا وشهرة حتى غدت في ذهني –على الأقل -من المسلمات التي يتهيب الباحث المساس بها = قضية الاستحداد الواردة في الحديث النبوي الشريف، وتفسيرها بأنها تعني إزالة شعر العانة بالحديدة، ثم ما رتب على ذلك من مزية استعمال الحديدة لإزالة شعر العانة، والحكم بأفضليتها وأنها هي السنة، ثم التفريق عند بعض الفقهاء بين المرأة والرجل في ذلك، وتصريح بعض العلماء بأن المقصود إزالة الشعر بأي طريقة كانت سواء بالحلق أو النتف أو النُّورَة أو غير ذلك.
     وأنا هنا سأشارك القارئ بعض أسباب هذا التوقف وأفكر بصوت مسموع، ولن أعدم بأمر الله من إذا رأى حسنًا أن يقول: أحسنت، أو لو قلت كذا لكان أكمل، أو آخر يقول: أخطأت وجانبك الصواب، فامْحُ ما كتبت؛ فإن الحق في غير ما تقول.
     وكلاهما عندي مشكور، ودعائي لهما متبوع غير مقطوع؛ طالما أن الغاية واحدة، والمراد هو الحق، والوسيلة إليه هي البحث المتجرد من كل حظوظ النفس والهوى.

معنى الاستحداد في الفقه الاسلامي وعند شراح الحديث النبوي:
     قال الإمام النووي: "الاستحداد: استعمال الحديدة في شعر العانة، وهو إزالته بالموسى، والمراد هنا إزالته كيف كانت"[1]، وقال أيضًا: "الاستحداد هو حلق العانة، استفعال من الحديد"[2]
    وقال ابن الأثير: "الاستحداد : حلق العانة ، وهو استفعال من الحديد"[3]، وأكد على ذلك أكثر من مرة .
     وقال ابن قدامة: "الاستحداد: حلق العانة، استفعال من الحديد"[4].
     وقال ابن دقيق العيد: "الاستحداد: استفعال من الحديد وهو إزالة شعر العانة"[5].
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الاستحداد:  فهو استعمال الحديد في إزالة شعر العانة"[6].
     فأما كون معنى الاستحداد هو حلق شعر العانة، فهذا أمر مُجْمَعٌ عليه، وأصله مأخوذ من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.[7]
    أما القول بأن الاستحداد استفعال من الحديدة، فهو موضع بحثنا هنا ولن يحول بيننا وبين بحثه تصريح أكابر الأئمة وأساطين العلم به؛ لأن رائدنا ورائدهم طلب الحق والوصول إليه، فإن وُفِّقْنَا فهذا ما أردناه، وإن قصرت أفهامنا عنه فعزاؤنا أن من اجتهد في طلب الحق فلن يعدم أحد الأجرين .

أصل القول في اشتقاق الاستحداد:
     إن أول من رأيناه قال بأن الاستحداد مأخوذ من الحديدة هو أبو عُبَيْد القاسمُ بن سلَّام[8] فقال ما نصه: "ونرى أن أصل الاستحداد والله أعلم إنما هو الاستفعال من الحديدة، يعنى الاستحلاق بها، وذلك أن القوم لم يكونوا يعرفون النُّورَة"[9] علما أنه أشار قبل ذلك إلى أن الاستحداد هو حلق العانة.
     وقد نقل هذا عنه روايةً وبنفس النص تقريبًا أبو بكر النيسابوري فقال: "حدثني عَليٌّ، عن أبي عبيد، أنه قال: فأما الاستحداد: فهو حلق العانة، ونرى والله أعلم أن أخذ الاستحداد إنما هو الاستفعال من الحديدة، يعني الاستحلاق بها، وذلك أن القوم لم يكونوا يعرفون النُّورَة"[10].
     وقد تناقل علماء اللغة وعلماء الشريعة القول بأن الاستحداد هو استفعال من الحديدة، حتى شاع واشتُهِر وبُنِي عليه أحكام واجتهادات[11] على الرغم من أن أبا عبيد -رحمه الله - لم يجزم بذلك، بل إنه ضمَّن كلامه ما يوحي بأنه إنما قال هذا اجتهادًا ونظرًا،  فهو لم يُشِرْ إلى أنه ناقلٌ عن أحد، ولم يتكئ فيما ذهب إليه على سماع عن العرب، أو على ما يصلح أن يُقاس عليه من شعر العرب أو من نثرها.
     وقبل النظر في معنى الاستحداد يحسُن بنا أن نستعرض النصوص التي وردت فيها هذه اللفظة، ثم نحاول أن نعرف معنى (الاستحداد) من خلالها مستعينين بالله، ناظرين في معاجم اللغة وما رواه العرب وتوارثوه من مأثور كلامهم الذي أخطأته عوادي الزمن فسلم لهم وبقي نقيًّا لم تصله عولمة ولم تلوثه عجمة .

الاستحداد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم:
الحديث الأول :
  حديث أبي هريرة المتفق عليه: " الفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ: الخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ "[12]
 الحديث الثاني :
     حديث جابر بن عبدالله المتفق عليه : «إِذَا دَخَلْتَ لَيْلًا، فَلاَ تَدْخُلْ عَلَى أَهْلِكَ، حَتَّى تَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ، وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ» ولفظ مسلم «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا - أَيْ عِشَاءً - كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ»[13]
 الحديث الثالث :
     حديث أَبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري قال : «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةً» ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِيُّ، فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ، أَنَّ ابْنَةَ الحَارِثِ، أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا ... الحديث»[14]

ما ورد عن التابعين:
    الخبر الموقوف على سعيد بن المسيب الذي رواه البيهقي في الشُّعَب قال سعيد : "فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ مَنِ اخْتَتَنَ، وَأَوَّلَ مَنْ رَأَى الشَّيْبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: " وَقَارًا يَا إِبْرَاهِيمُ "، قَالَ: رَبِّ، زِدْنِي وَقَارًا، وَأَوَّلَ مَنْ أَضَافَ الضَّيْفَ، وَأَوَّلَ مَنْ جَزَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ مَنْ قَصَّ أَظَافِرَهُ، وَأَوَّلَ مَنِ اسْتَحَدَّ "[15]
     ومن ذلك ما جاء من كلام نافع حكايةً عن فعل ابن عمر رضي الله عنهما : " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُقَلِّمُ أَظَافِيرَهُ فِي كُلِّ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَيَسْتَحِدُّ فِي كُلِّ شَهْرٍ"[16]

ما ورد عن أهل عصر الاحتجاج ممن هم بعد التابعين:
 نقل الأزهري قول الإمام الشافعي : "ويجبر امرأته الذِّمِّيَّة على التنظيف والاستحداد"[17]
ويمكن من خلال هذه النصوص أن نلحظ التالي :
أولا:  نص حديث خصال الفطرة المتفق عليه: " الفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ: الخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ " وفي لفظ لمسلم "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الاخْتِتَانُ وَالاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ وَنَتْفُ الإِبْطِ"[18].
 وبالنظر للحديث نجد أن كل خصلة من هذه الخصال مرتبطةٌ بموضع محددٍ من الجسد يشير إليها لفظ الحديث صراحة -أو هكذا فهم الناس -، فذكر الإبط والفعل المرتبط به وهو النتف، والأظفار والفعل المرتبط بها وهو التقليم، والشارب والفعل المرتبط به وهو القص، وفي هذه الثلاث يذكر الفعل والموضع في كلمتين وبلفظ صريح.
     أما الختان أو الاختتان فليست إلاَّ كلمة واحدة، ومع ذلك فهي متضمنة للفعل وموضعه أيضًا، فهي مأخوذة من كلمة ( الختان ) التي تعني موضع القطع من الذكر، وكذلك موضع الخفض من نواة الأنثى، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها في المسند: "إذا التقى الختانان وجب الغسل "[19] وفي لفظ صححه الترمذي وحكم الألباني بصحته لغيره: "إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل "[20] .
إذن فالختان موضع في الجسد، والقطع عمل يقع عليه، فيسمى ختانًا أو اختتانًا، نسبةً إلى هذا الموضع[21].
     أما لفظة الاستحداد -باعتبارها استفعالًا من الحديدة - فهي لا تشير إلى المراد فعله بهذه الحديدة، ولا الموضع الذي يراد لهذه الحديدة أن تعمل فيه، وهي بهذا مختلفة عن باقي الخصال في هذا الحديث.
 ولسائلٍ أن يسأل: من أين فهم الفاهمون إذن أن المقصود بها هو حلق شعر ذاك الموضع بعينه ؟ هذا إذا سلمنا أن الاستفعال من الحديدة يعني الحلق، على الرغم من أنه قد يعني غير الحلق أيضًا، فربما يقول قائل: لماذا لا يكون حكًّا أو طَعْنًا أو لَمْسًا أو غير ذلك.
ثانيًا:  لقد تنبه بعض العلماء – فيما يبدو - لهذا الاعتراض، فأراد ابن أبي نصر الأزدي أن يخرج  بشيء يقنع العقول، فحاول أن يجعل من لوازم لفظة الاستحداد تضمُّنَها لمعنى حلق العانة، فقال: "الاستحداد: استعمال الحديد في الحلق به، ثم استُعمل في حلق العانة"[22] وقال بمثله ابن الجوزي وكأنه ناقل عنه: "الاستحداد : استعمال الحديد في الحلق، ثم استُعمل في حلق العانة"[23].
     والسؤال هنا:
 متى كان معنى الاستحداد استعمالَ الحديد في الحَلْق ؟ هل كان في الجاهلية مثلاً  ثم استقر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على حلق العانة ؟
أم كان استقراره على حلق العانة في الجاهلية والاستعمال الأول سابقٌ لذلك ؟ أم أنه كان في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم يعني استعمال الحديدةِ في الحَلْقِ، ثم استقر على حلق العانة في زمن التأليف؟
     وكأن بعض العلماء تنبه إلى أن قول ابن أبي نصر وابن الجوزي لو كان يتكئ على حقيقة تاريخية تعضدها شواهد اللغة لكان قولا فصلاً وحجةً لا تنقض، ولأنه لم يكن كذلك فقد  شخص عنه نظره طماحًا إلى غيره وطمعًا في خير منه، فوجدنا أبا السعادات ابن الأثير يقول:  "تَسْتَحدُّ: الاستحداد : حلق العانة ، وهو استفعال من الحديد ، كأنه استعمل الحديد على طريق الكناية والتورية"[24].
     وهذا القول من ابن الأثير جاء في معرض كلامه عن حديث " تستحد المغيبة "[25] وقد يُقبل أن يكون الرسول قال ذلك توريةً وكنايةً لو لم يَرِد هذا اللفظ إلاَّ في هذه الحادثة بعينها، أما وقد قالها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر كان يتكلم فيه على وجه التعميم لا يخص به أناسًا بأعيانهم كما جاء في حديث "خمس من الفطرة" مما لا يصح أن يكون تورية أيضًا، لاسيما أنه ذكر -عليه الصلاة والسلام - الختان قبل الاستحداد، فلماذا يورِّي صلوات الله وسلامه عليه عن حلق العانة ولا يورِّي عن فرج الرجل والمرأة فيذكرهما صراحة؟
ثم إنه صلى الله عليه وسلم قد تكلم بأشياء كثيرةٍ كانت دواعي التورية فيها أكبر والكناية فيها أولى ومع ذلك لم يُوَرِّ صلى الله عليه وسلم فيها ولم يكَنِ، وذلك سيرًا منه عليه الصلاة والسلام على ما تقتضيه تكاليف التبليغ وأمانة الرسالة . 
     أما ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر في كون لفظة الاستحداد قد تكون من تصرف بعض الرواة معتمدًا في ذلك على ورود صيغة حلق العانة في بعض الروايات حيث يقول: "والاستحداد بِالحاء المهملة استفعالٌ من الحديد، والمراد به استعمال المُوسى في حلق الشَّعر من مكان مخصوص من الجسد. قيل : وفي التعبِير بهذه اللفظة مشروعية الكناية عما يستحى منه إذا حصل الإفهام بها وأغنى عن التصريح. والذي يظهر أن ذلك من تصرف الرواة، وقد وقع في رواية النسائي في حديث أبي هريرة هذا التعبير بحلق العانة، وكذا في حديث عائشة وأنس المشار إليهما من قبل عند مسلم"[26]  .
وكرر الحافظ ذلك في قوله: "قد وقع التصريح بحَلْقِ العانة في بعض طُرُق الحديث كما جاء عند مسلم، وهذا مما يدفع إلى الظن بأن التعبير بالاستحداد قد وقع من بعض الرواة"[27].
 فهذا القول من ابن حجر -رحمه الله - مرده إلى اعتبار أن الاستحداد مأخوذ من الحديد كما هو شائع بين العلماء  فظن الحافظ -رحمه الله -أن بعض الرواة اجتهادًا منه أراد الكنايةَ عن حلق العانة بذلك . 
     ويمكن أن يُعترض على كلام الحافظ بأن هذه اللفظة لم ترد بصيغة المصدر فقط، بل وردت أيضًا بصيغة الفعل كما في حديث " تستحد المغيبة"، وهو لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أنها واردة في لفظ أبي هريرة رضي الله عنه في حديث خبر مقتل خبيب الأنصاري، وهما حديثان مرويان في كثير من كتب السنة بروايات وطرق متعددة.
 وكما جاءت هذه اللفظة على لسان الرسول صلوات الله وسلامه وعلى ألسنة أهل عصره من الصحابة ومن غير الصحابة -كما يُفهم من حكاية مقتل خُبيب رضي الله عنه -جاءت كذلك على ألسنة الفصحاء من التابعين وغيرهم ابتداءً لا نقلاً، كما في الخبر عن سعيد بن المسيب، وما جاء عن نافع، وكما نُقل عن الشافعي، فاللفظة جارية على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ومشتهرة الاستعمال في عصر الفصحاء من العرب.
 ولا نُبعد إذا قلنا : لعل  عبارة "حلق العانة " -وهي التفسير الذي يفسر به العلماء معنى الاستحداد -هي الأقرب بأن تكون من كلام بعض الرواة، وإنما كان غياب المعنى الدقيق لكلمة "الاستحداد" هو سبب استجلابها[28].
     وفي رواية الطبراني لحديث خصال الفطرة ما يعضد كون "حلق العانة" من كلام بعض الرواة:
  فعن أبِي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمسٌ من الفطرة: الخِتان والاستحداد - وهو حلق العانة - ونتف الإِبط وقَصّ الشارب وتقليم الأظفار ".
 فذِكْر الاستحداد، ثم شرْحه بحلق العانة= يؤكد أن الاستحداد من لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلاَّ لماذا يذكره الراوي بقصد الكناية عن حلق العانة، ثم يشرحه في نفس السياق مُصَرِّحًا بما كنَّى عنه؟
 فلو لم تكن من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لاكتفى الراوي بأن يقول : "حلق العانة " ولم يحتج لكلمة "الاستحداد" التي سيحتاج إلى أن يفسرها بعد ذلك.
 ثم إن في هذه الرواية ما يقوي الظن بأن التباس معنى الاستحداد على البعض جعل بعض الرواة يضطر إلى تفسير معناه، أو يستعيض عن ذكره ثم شرحه بأن يعمد إلى الشرح مباشرة، فيقول: حلق العانة؛ لأن المقصود يتم بها؛ لوضوح معنى الاستحداد لديه.

وقفات للتأمل والنظر:
     دأب المحققون من الفقهاء وشراح الحديث عند ذكر أصل الاستحداد أن يشيروا إلى أنه مأخوذ من الحديد، ثم يذهبون بعد ذلك إلى تفسير الحديد المقصود ثم إيضاح الفعل المراد؛ لأن الحديد يشمل أدوات كثيرة جدًّا، مع ما هنالك من استعمالات متعددة لهذه الأدوات، فنجد الحافظ بن حجر يقول: "والاستحداد بِالحاء المهملة استفعالٌ من الحديد والمراد به استعمال المُوسى في حلق الشَّعر من مكان مخصوص من الجسد"[29]، ومثله قول الإمام النووي: "الاستحداد إزالة شعر العانة وهو الذي حول الفرج، سواء إزالته بنتف أو نُورَة، أو حلْق، مأخوذ من الحديدة وهي الموسى التي يحلق بها"[30]
         ونلحظ هنا أن لفظة الاستحداد المأخوذة من الحديد تحتاج إلى مراحل من التفسيرات حتى يُوصَل بها إلى معنى حلق العانة، فهي مأخوذة من الحديد، ثم المسنون منه خاصة، ثم يخصص منه ما يمكن أن يزال به الشعر، ليشار بعد ذلك إلى الموسى عَيْنًا، ثم يَعقُب ذلك تحديد العمل الذي سيستعمل هذا الموسى فيه، فقد يكون قطعًا أو فعلا آخر، ثم إذا تبيَّن أن المقصد إزالة الشعر فلابد أن يَعقُب هذا تحديد المكان الذي سيزال منه الشعر وهو موضع العانة، وهذا يجعل الاستحداد كلمة لا تعبر عن المراد بها إلا بتمحل! فكل هذه الشروح لا يمكن أن تخطر على بال أحد بشكل مباشر، ولن يُتوصل إلى هذا المعنى الذي اختارته الشروح إلا بكُلفة ومشقة كبيرة، وهذا ما جعل هذه اللفظة حاضرة لا تغيب عن كتب غريب اللغة والحديث.
     إن الذي يعود إلى لغة العرب يبادره سؤال مهم: لماذا يستعمل العرب الاستحداد المأخوذ من الحديد للتعبير عن الحلق بالموسى، وهم يستعملون في ذات الوقت الْمَوْس بمعنى الحلق؟! فالعرب كما تصرح معاجم اللغة[31] تسمي استعمال الموسى للحلق مَوسًا.
     وإذا علمنا أن السيف حديدة، وسنان الرمح حديدة، والموسى حديدة، ومع ذلك لم نجد العرب سمت الضرب بالسيف استحدادًا، ولا الطعن بالرمح استحدادًا، مع أن القول المشهور في أصل الاستحداد ( استفعال من الحديد ) ينطبق عليهما كما ينطبق على الموسى والحلق بها! 
وفي المقابل فإن العرب قد اشتقت من جذور هذه الأسماء أفعالا، فالعرب تقول ساف يسيف بمعنى ضرب بالسيف، وتقول: رمحه يرمحه: أي طعنه بالرمح، وتقول: ماس الشعرَ أي أزاله بالموسى، فلماذا تذهب العرب إلى الحلق بالموسى لتجعل الاستحداد حِكْرًا عليه دون غيره مع أن هذه الأدوات كلها من الحديد؟
   وإذا قال قائل إنما القصد الحلق بالحديدة –مع أنه لا وجه للتخصيص –قلنا: لماذا لا يسمى حلق الرأس بالموسى استحدادًا إذن؟
سيقول: إنما قصد به حلق العانة خاصة –ولا وجه للتخصيص كذلك – قلنا: ولماذا عُبِّر  بالاستحداد عن هذا الحلق؟
فسيقول: هو من باب الكناية لخصوصية هذا الموضع.
 قلنا: لماذا لم يُسَمَّ الختان استحدادًا؟ مع أن المستعمل فيه الموسى كذلك؟ وداعي التورية فيه أظهر لأنه اسم للفرج ؟
ثم إذا كان القصد التورية كما ذهب إلى ذلك أكابر من العلماء، فلماذا لم يستعمل الْمَوْس -المشتق اشتقاقًا مباشرًا من الموسى -الذي يؤدي غرض التورية ويعبر عن المراد بوضوح؟
     ومن الغرائب أن الاستحداد الذي لا يستعمل تعبيرًا عن حلق شعر الرأس – مثلا –مع أن الرأس  لم تجر العادة في إزالة شعره بغير الحديدة = يُجعَل خاصًّا بالتعبير عن إزالة شعر العانة الذي جرت العادة أن يزال بالنتف والتَنَوُّر وغير ذلك كما يزال بالموسى، بل يصرح أئمة كبار أن الاستحداد -المأخوذ من الحديدة - يعني أيضًا النتفَ باليد والاطِّلاء بالنُّورَة بل وإزالة شعر العانة بأي شكل!
      وممن صرح بهذا الإمام النووي، فهو يقول: "الاستحداد إزالة شعر العانة، وهو الذي حول الفرج، سواء إزالته بنتف أو نُورَة أو حلق"[32] .
وكذلك قال الحافظ ابن حجر: "وعَبَّر بِالاستحداد؛ لأنه الغالب استعماله في إزالة الشَّعر وليس في ذلك منع إزالته بغير الموسى والله أعلم"[33].
بل ربما أُخرج معنى استعمال الحديدة عند بعض العلماء من الاستحداد وخاصة في إزالة المرأة لذلك الشعر، فنجد الملا قاري يقول: "وتستحد المغيبة بضم الميم وكسر الغين وهي التي غاب زوجها أي: تستعمل الحديدة أي الموسى لحلق العانة، وقيل: هو كناية عن معالجتهن بالنتف واستعمال النُّورَة؛ لأنهن لا تستعملن الحديدة"[34].
     وتطبيقات العلماء جملةً تتجاوز معنى استعمال الحديدة في إزالة شعر العانة، فتجعل المراد هو الإزالة فقط.
     ومما تقدم نرى أن القول بأن الاستحداد استفعال من الحديد ليس إلا اجتهادًا من بعض العلماء لم يَرِد تفسيره على لسانِ فصيح يُحتج بلغته، وهو مع ذلك قول مضطرب يرد عليه اعتراضات كثيرة.
    
 الأصل الذي اُشتُقت منه لفظة " الاستحداد ":
      إذا لم تكن لفظة "الاستحداد" مأخوذةً من الحديد كما تتابع على  ذلك الكثيرون من أهل العلم، فما هو إذن الأصل الذي اشتقت منه هذه الكلمة ؟.
     من ضرورات البحث عن أصل اشتقاق هذه الكلمة الرجوع إلى معاجم اللغة واستنطاقها لعلها تفضي إلينا بما يساعدنا في الوصول إلى طِلبتنا ويرشدنا إلى مبتغانا:
 وأول مداخلنا إلى ذلك معجم مقاييس اللغة لابن فارس فنجده يقول: " (حَدَّ) الحاء والدال أصلان: الأول المنْع، والثاني طرَف الشيءِ "[35]، وتوسعت معاجم اللغة في هذه المادة لاسيما المعاجم الكبيرة، فأوردت الكثير من الألفاظ التي ضعُفَ استعمال بعضها، وانحسر فلم يعد يُستعمل إلاَّ في بعض اللهجات العامية، وبين جيل كبار السن على وجه الخصوص، أما جيل الشباب والمتعلمين فقد انعدم استعمالها بينهم بشكل كلي أو كاد، ظنًّا من بعضهم عدم فصاحتها، وجهلاً بها من البعض الآخر، ومن أمثلة ذلك كلمة "حديدي" بمعنى جاري الذي تلاصق داره داري، فقد غابت كليًّا في كلام المتعلمين وبقيَت حيةً في عاميَّة قلب الجزيرة.
     ومن الكلمات التي أشارت إليها بعض المعاجم وهي غير مستعملة اليوم كلمة "الحُدَّة" ولم نجد لها في المعاجم  شرحًا في مادة (حدد) أكثر مما قاله الفيروز آبادي: "والحُدَّةُ: الكُثْبَةُ، والصُّبَّةُ"[36] لذلك حاولنا البحث عن معناها في مادة (كثب) التي هي من معانيها فوجدنا أبا عبيد يقول في تعريفه للكثبة: "والكُثبة عندنا كل شيء مجتمع، وهو مع اجتماعه قليل من لبن كان أو طعام أو غيره. وجمع الكثبة: كُثب"[37] والكثبة تكون من التراب أيضًا كما يقول الأزهري : "الكُثبة من تراب أو غيره"[38] ويقول ابن فارس:"(كَثَبَ) الكاف والثاء والباء أصل صحيح واحد يدل على تَجمُّع وعلى قُرْب" ثم قال: "ومنه كثيب الرمل. والكاثِبُ: الجامِعُ. والكاثِبَةُ: ما ارتفع من مِنْسَجِ الفرس"[39].
     فبهذا تكون الحدة (الكثبة) هي الشيء المجتمع المرتفع عما حوله، ككثيب الرمل المرتفع عما حوله من الأرض، وكالكاثبة المرتفعة عما حولها من منسج الفرس الذي هو ما بين عُرف الفرس إلى موضع اللِّبْد[40].
     وإذا علمنا أن هناك الكثير من الكلمات الموجودة في المعاجم والتي لم تعد دارجة على ألسنة المتحدثين من المتعلمين ولا مخطوطة بأقلامهم عند الكتابة فإننا على يقين أن هناك كلمات فصيحة لم تدونها تلك المعاجم أو دونتها رسمًا ولم تدون بعض معانيه؛ا لندرة استعمالها في حواضر الإسلام آنذاك، أو ربما لعدمه، ففاتت جامعي اللغة.
 ومن هذه الكلمات كلمة "الحُدَّة"التي فات المعاجم منها المعنى الذي اشتق منه لفظ "الاستحداد" علمًا أن هذا المعنى لا يزال مستعملا في كثير من المناطق في وسط جزيرة العرب، فيطلقون "الحُدَّة"[41] ويعنون الموضع الذي ينبت فيه الشعر فوق ذكر الرجل وفوق فرج المرأة، تشبيهًا بالحُدَّة التي هي الكثبة أيضًا، فشبهت بكثيب الرمل وبكاثبة الفرس لتجمع اللحم فيها وارتفاعها القليل عن الأرفاغ  وأصول الفخذين.
     وإذا رجعنا إلى كلام ابن فارس في أن الأصل الثاني في باب الحاء والدال هو طرف الشيء، نجده ينطبق أيضًا على الحُدَّة التي هي منبت شعر العانة فهي الحد الفاصل بين جزئي الإنسان العلوي والسفلي .

بين استعان واستحد:
     تقول العرب "استعان" أي أزال شعر عانته، وهذا معروف في كلامهم وله شواهد[42]، وقد نصت عليه المعاجم صراحة فنجد الأزهري يقول: " يُقَال استحد واستعان إِذا حَلَق عانته"[43]، فالاستعانة هنا تعني إزالة شعر العانة، واشتقاقها من "العانة" كما هو ظاهر، والعانة هي الشعر النابت حول فرجي الرجل والمرأة .
     ونلحظ هنا أن الفعل استعان بمعنى حلق عانته لم يعد جاريًا على ألسنة العلماء فضلا عن غيرهم، بينما كلمة العانة تستخدم بكثرة في الإشارة إلى ذلك الشعر أو منبته، وفي المقابل نجد أن لفظة الحدة بمعنى منبت الشعر قد هُجِرت لدى العلماء منذ بداية عصر التأليف إلى اليوم وبقي الفعل "استحد" المشتق منها، إلاَّ أنه ربط بالحديدة لا بالحدة، مع أنها –أي الحدة- لا تزال مستعملة بمعناها في لهجات وسط الجزيرة.
     فإذا كان الفعل استعان مأخوذ من العانة، وهو يفيد أخذ هذا الشعر غير مشير إلى الوسيلة التي يؤخذ بها، فما الذي يجعل الفعل استحد مأخوذًا من الحديدة إذا كانت العرب -ولا تزال -تسمي هذا المكان الحدة؟!
      وأخيرًا فإن ما ذهب إليه المحققون من الفقهاء من أن الاستحداد يعني إزالة شعر العانة بأي طريقة كانت متجاوزين بذلك المعنى اللغوي المتوهم في اشتقاق الاستحداد = هو الصواب الذي يتوافق مع المعنى الصحيح لاشتقاق الاستحداد؛ لأن اشتقاقه من الحدة وهي الموضع ولا علاقة لذلك بالحديد، ومن أزاله بأي طريقة كانت فقد استحد، وما عُلِّق على ربط الاستحداد بالحديدة من اجتهادات وآراء فقهية فهي زيادة لا يُحتاج إليها. والله جل وعلا أعلم وأحكم.
                                        
                                                            



[1] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 54:10
[2] المجموع شرح المهذب 408:16
[3] جامع الأصول في أحاديث الرسول 29:5 تحقيق عبد القادر الأرناووط
[4] المغني 63:1
[5] إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام 124:1
[6] شرح عمدة الفقه (من كتاب الطهارة والحج) 238:1
[7] سنورد هذه الرواية في مكانها من هذا المبحث .
[8] جاء في كتاب العين 20:3 "والاستِحْداءُ: حَلْقُ الشيء بالحديد " فإن كان هذا تحريفًا عن الاستحداد وصح أيضًا أن هذا من كلام الخليل بن أحمد – وغالب  الكتاب لا تصح نسبته للخليل - فأبو عبيد مسبوق على أن معنى الاستحداد هو الحلق بالحديد ولكن ليس حلق الشعر فقط فضلا عن تخصيص العانة.
[9] غريب الحديث 37:2 وفي قول أبي عبيد: " أنهم لم يكونوا يعرفون النُّورَة " نظر، فقد وردت أحاديث عديدة تدل على أن النُّورَة معروفة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، مما جعل العلماء يعقدون مباحث في الموازنة بين حلق العانة والاطِّلاء بالنُّورَة، وهي معروفة كذلك في عصر التابعين، ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم (بَابُ نَهْيِ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ مُرِيدُ التَّضْحِيَةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ، أَوْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا) في رواية عن عمرو بن مسلم الليثي قال " كُنَّا فِي الْحَمَّامِ قُبَيْلَ الْأَضْحَى، فَاطَّلَى فِيهِ نَاسٌ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَمَّامِ: إِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَكْرَهُ هَذَا، أَوْ يَنْهَى عَنْهُ، فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ ... " 1566:3  وقد ذكر المحقق في معنى "اطَّلَى" أي أزالوا شعر العانة بالنُّورَة.  
[10] الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف 238:1
[11] بالرجوع إلى كتب الفقه تتضح المساحة التي أخذتها مسألة حلق العانة بالحديدة والنقاشات الفقهية التي دارت حولها وما رتب عليها من أحكام في مثل أيهما أوسع "حلق العانة" أم "الاستحداد"وأيهما أشمل لمعاني إزالة الشعر؟ ، وفي كون استعمال الحديدة أفضل لأنه السنة المصرح بها في الحديث، وفي النقاش حول استعمال المرأة للحديدة، وهل ذلك داخل في الفضل أم أن الأفضل في حقها غير ذلك، إلى غيره مما أفاض فيه الفقهاء وتباحثوه.
[12] أورده البخاري في باب قص الشارب ومسلم في باب خصال الفطرة.
[13] أورده البخاري في باب طلب الولد ومسلم في باب استحباب نكاح البكر .  
[14] باب ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله .
[15] شعب الإيمان 122:11
[16] صحيح الأدب المفرد للألباني 486
[17] الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي ص 205
[18] صحيح مسلم  322:1 وجاءت لفظة " الاختتان " أيضا عند النسائي في سننه وابن حبان في صحيحة والطبراني في المعجم الأوسط والطحاوي في شرح مشكل الآثار وغيرهم .
[19] رواه الإمام أحمد 151:43(مسند أحمد ط الرسالة) كما رواه غيره وذكر محققو المسند أنه حديث صحيح .
[20] الترمذي تحقيق أحمد محمد شاكر 182:1 وينظر تهذيب اللغة 132:7 في معنى الختان.
[21] ما قيل عن هذه الخصال الأربع ينطبق على كل خصال الفطرة الباقية التي ورد بعضها في حديث عائشة " عشر من الفطرة ..." فكل خصلة مرتبطة بموضع مصرح به في لفظ الحديث .
[22] تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم 208 .
[23] كشف المشكل من حديث الصحيحين 23:3 .
[24] جامع الأصول 29:5
[25] تجدر الإشارة إلى أن السفاريني أورد في كتابه ( غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب ) 311:1 لفظة أخرى نسبها للصحيحين وهي " تستحد المُعنِيَة" ثم جاء في شرحه لها : " وَقَوْلُهُ «الْمُعْنِيَةُ» يَعْنِي ذَاتَ الْعَانَةِ، يُقَالُ: اسْتَعَانَ الرَّجُلُ يَعْنِي إذَا حَلَقَ عَانَتَهُ " فهل تصحفت عليه لفظة "المغيبة" ؟ أم أن الصحيح ما ذكره هنا والتصحيف وقع لغيره من جماهير العلماء والمؤلفين ؟ ثم أي اللفظتين أقرب لسياق الحديث ؟
[26] فتح الباري 343:10
[27] نقلاً عن بحث " سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء" للدكتور أحمد علي طه ريان المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في العدد 45
[28] مسند الشاميين للطبراني 125:4
[29] فتح الباري 343:10
[30] تحرير ألفاظ التنبيه 253
[31] جاء في القاموس المحيط 575 "المَوْسُ: حَلْقُ الشَّعَرِ، ولُغَةٌ في المَسْيِ، أي: تَنْقِيةِ رَحِمِ الناقةِ، وتأسيسُ المُوسَى التي يُحْلَقُ بها" وهو في غيره من المعاجم كذلك.
[32] تحرير ألفاظ التنبيه للأمام النووي 353
[33] فتح الباري 123:3
[34] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 2046:5
[35] مادة حد 19:3
[36] القاموس المحيط 276
[37] غريب الحديث 320:2
[38] تهذيب اللغة 178:12
[39] معجم مقاييس اللغة 162:5
[40] تهذيب اللغة 313:10 "قَالَ أَبُو زيد: المِنْسَجُ: مَا بَين عُرف الدَّابَّة إِلَى مَوضِع اللِّبْد"
[41] تنطق لدى سكان وسط وشمال نجد بكسر الحاء كطريقتهم في مثيلاتها من الكلمات مثل: (مِدَّة، عِدَّة،وغيرها).
[42] جاء في فرحة الأديب للغندجاني ص 39 في خبر مقتل بشر بن عمرو عندما قتله سبع بن الحسحاس وقوله مخاطبًا سبع وبني أسد: "أجيروا سراويلي فإني لم أستعن".
[43] تهذيب اللغة 270:3