الخميس، 28 أبريل 2016

أسطورة حروف الزيادة العشرة المجموعة في قولهم: سألتمونيها:


أسطورة حروف الزيادة العشرة المجموعة في قولهم: سألتمونيها

أولا: حروف الزيادة الصرفية وهي ثمانية وليست عشرة:
      قدّم البصريون خدمة جليلة لعلوم العربية، فقد ووضعوا أسس العلم للعربية نحوها وصرفها، وأنهجوا القياس، فترسّخ مذهبهم وانتصر على غيره، وتعلمت الأجيال اللغوية منذ القرن الرابع الهجري أن قول البصريين قول لا يردّ، وأنّه يعلو ولا يُعلَى عليه، فأضرّ هذا الاعتقاد بالعلم، فهو مذهب مؤثر وراسخ في ثقافة الأجيال، يندر أن نرى من يتمرّد عليه وينتقده، وقد فعلها بعض نحاة العصور الوسطى، وأبرز ما يطالعنا في هذا كلمة مشهورة لأبي حيان الأندلسي (ت 745هـ)  صدح بها في البحر المحيط معبّرا عن تحرره وتحرر لغويي زمانه من جبروت المذاهب النحوية وبخاصة المهب البصري، وفيها يقول: ((ولسنا متعبّدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون)).

      ومن مذهب البصريين أن حروف الزيادة عشرة يجمعها قولهم (سألتمونيها) أو (هويت السمان) أو (أمان وتسهيل) وأنه لا يكون حرفٌ زائدٌ في الكلمة من غير هذه العشرة، حتى اصبحت مقولتهم هذا من المسلمات عند أكثر الصرفيين في كل العصور، وقد رأيناهم يسخرون من بعض الكوفيين حين يقولون بزيادة حرف ليس من هذه العشرة، والكوفيون يتوسعون في حروف الزيادة ويطلقون القول فيها بغير قيد، ولا يفرقون بين زيادة صرفية وغيرها.
والذي يظهر لي في حروف الزيادة يختلف عن رأي البصريين و عن رأي الكوفيين، فأرى أنه يجب أن نفرق في البدء بين حروف الزيادة الصرفية المطردة وحروف الزيادة اللغوية الأحفورية غير المطردة، وأرى أن الزيادة نوعان:
1-      زيادة صرفية قياسية، وحروفها ثمانية (أ ت س م ن و ا ي) باستبعاد اللام والهاء من حروفهم العشرة؛ لأسباب سأذكرها لاحقا، وقد جمعها بعض الفضلاء حين طرحت الفكرة في حسابي في تويتر بقوله: (أمستويان) واقترح بعضهم: (أيتناسون) أو (أنستُ يوما) وغير هذا.
2-     زيادة لغوية سماعية معجمية أحفورية، وحروفها حروف الهجاء جميعا.
ومعرفة هذا النوع الثاني من حروف الزيادة وتقنينه يخدم البحث المعجمي، ويفتح آفاقاً واسعة للدلالة، ويعين على تتبع تطور الجذور والكشف عن علاقاتها بعضها ببعض، كما سيأتي في المقال الثاني.
ولستُ مقلداً لأحدٍ فيما ذهبت إليه في هذا التقسيم، إنما هو ثمرة دراسة وتأمّل للتصريف العربي ومعجمات اللغة كانت بدايتها في رسالتي للدكتوراه (تداخل الأصول اللغوية وأثره في بناء المعجم العربي) التي نوقشت عام 1414هـ 
فالحروف الثمانية زوائد (صرفية مطردة قياسية) وباقي الحروف زوائد لغوية جذرية موغلة في القدم غير مطردة في الاستعمال اللغوي، وهذا النوع الثاني نراه كثيراً عند ابن فارس في المقاييس.

وعلّةُ استثنائي اللامَ والهاءَ من حروف الزيادة الصرفية أنهما لم تُزادا في موضع تصريفيّ مطرد كاطراد الحروف الثمانية "أمستويان" وأمثلة البصريين فيهما محل نظر ونقد، فاللام - باعتراف الصرفيين القدامى- لا تطَّرد زيادتُها في موضع تصريفي، ومثلوا  لزيادتها بـ ((ذلك وتلك وهنالك وأولئك)) وهذه أمثلة مرفوضة؛ لأنها ليست زوائد تصريفية، بل وقعت في المبنيّات، فلا يعتدّ بها، ومثلوا بزيادة اللام في نحو زيدل وعبدل والعَثْوَل.. وهذه لا تختلف عن زيادة الراء في سِبَطر ودِمَثر، غهي زوائد لغوية كما سيأتي.

أما  الهاءُ  فتزاد في فعل الأمر نحو فِهْ وارمِهْ، وفي الوقف على ما الاستفهاميّة، إن جُرّتْ بحرفٍ؛ نحو  لِمَهْ، وفي النُّدْبَةِ والاستغَاثَةِ عند الوقف؛ نحو وا زيداه.. وهي زوائد غير صرفية. ولذا نُقل عن المبرد أنه كان يخرجها من حروف الزيادة، وهو على حق، لكنه تراجع فأعادها لحروف الزيادة في المقتضب (المقتضب 1/56) تقليدا لأصحابه.
وللكلام صلة تأتي في المقال القادم، إن شاء الله.

عبدالرزاق الصاعدي
نشر في جريدة المدينة- ملحق الرسالة.
23‏/11‏/2012م

ثانيا: حروف الزيادة اللغوية الأحفورية:
        ذكرت في المقالة السابقة أنني أخالف البصريين والكوفيين في حروف الزيادة، وأني أُقَسّم الزوائد قسمين، كما يلي:
1-      زيادة صرفية قياسية، وحروفها ثمانية يجمعها قولك: (أمستويان) وليست عشرة، فقد استبعدت اللام والهاء؛ لأسباب ذكرتها في المقالة السابقة.
2-     زيادة لغوية سماعية معجمية أحفورية، وحروفها الحروف جميعًا. ولهذا النوع أهمية بالغة في الدراسات المعجمية الدلالية.
        والهاء لا تزاد في موضع تصريفي مطّرد، كاطّراد الحروف الثمانية المجموعة في قولك: «أمستويان» وكذلك اللام، وأمثلة البصريين فيهما محل نظر ونقد عريض، ولن تضارّ العربيةُ في شيء حين نستبعد حرفي اللام والهاء من حروف الزيادة التصريفية، ونجعلهما من الزوائد اللغوية الأحفورية كالراء والباء وباقي الحروف.
ولو أخذ القدماء بهذا التقسيم في حروف الزيادة والقول بالزيادة اللغوية لكل الحروف خلاف الزيادة الصرفية لم سخر البصريون من مخالفيهم الكوفيين سخرية لاذعة، ولا رووا أقوالهم على سبيل التندر، وكان أبو علي الفارسي شديد السخرية بالفراء، ومثله تلميذه ابن جني الذي سخر من ثعلب، لأنه عد الباء من حروف الزيادة، قال ابن جني في سر الصناعة: ومن طريف ما يحكى من أمر الباء أن أحمد بن يحيى قال في قول العجاج:
يَمُــدُّ زَأرًا وهَدِيـرًا زَغْـدَبًا
إن الباء فيه زائدة، وذلك أنه لما رآهم يقولون هدير زغد وزغدب، أعتقد زيادة الباء في زغدب، وهذا تعجرف منه، وسوء اعتقاد ويلزم من هذا أن تكون الراء في سبطر، ودمثر زائدة لقولهم سبط ودمث، وسبيل ما كانت هذه حاله ألّا يحفل به، ولا يُتشاغل بإفساده(الخصائص) .
        وقال في المبهج في كلامه على اسم بغثر بن لقيط الأسدي: ((كأنه من الأبغث، وهو من خشاش الطير وضعافها، ولست أقول عن الراء زائدة، كما قال أحمد بن يحيى إن الباء الباء من زَغْدَب زائدة لأنه أخذه من الزَّغْد، وهو الهدير يُقطّعه البعير في حلقه، هذا ما لا أستجيزه، وأعوذ بالله من أمثاله)).

         فما الذي يمنع من أن تكون الباء من حروف الزيادة اللغوية؟ وكذلك الراء؟ وما الفرق بينهما وبين اللام والهاء؟ فالأمثلة اللغوية متقاربة، ولا اعتداد بهاء السكت أو لام ذلك وتالك، لما قدمت في المقالة السابقة، وزيادة الباء في زغدب والراء في سبطر زيادة لغوية أحفورية قديمة، وليست زيادة صرفية مطردة.
      وقد كان كراع النمل يعد الغين، والقاف، والحاء، والفاء، والرَّاء، والزَّاي، والطَّاء، والدّال، والجيم، من حروف الزيادة، وعقد لها بابًا سمّاه: (باب الزَّوائد من غير العشرة).

        ونحا ابنُ فارسٍ منحى كُراعٍ في المقاييس، وخطا خطوة لغوية عظيمة، لم يلتفت اللغويون لها للأسف، بسبب تأصل الفكر البصري الجامد في عقول الأجيال، وقد سبق لي أن حللت الزوائد في معجم المقاييس في كتابي (تداخل الأصول اللغوية) فوجدت فيه 249 كلمة رباعية أو خماسية؛ ممَّا جعله مزيدًا بحرفٍ أو حرفين من غير حروف الزِّيادة العشرة. فقال بزيادة الرَّاء في 35 كلمةً، ويليها العين في 20 كلمة، فالباءُ في 19 كلمة، فالدَّالُ في 11 كلمة، فالفاءُ في 6 كلماتٍ، فالحاءُ في 5 كلماتٍ. وبالجملة فإن ابن فارس يرى أنَّ حروف المعجم جميعها قابلة لأن تكون زائدةً؛ باستثناء ثلاثة منها؛ وهي: الثاء، والصاد، والظاء؛ اللائي لم يردن في معجمه زوائد؛ ولعله لا يمتنع عنده زيادتهن أيضاً.

       وأرى أن الذي أضر بفكرة الكوفيين في الزوائد هو أنهم لم يفرقوا بين زيادة تصريفية، وزيادة لغوية جذرية قديمة فخلطوا النوعينوهذا النوع الثاني من حروف الزيادة يخدم البحث المعجمي، ويفتح آفاقًا واسعة للدلالة، ويعين على تتبع تطور الجذور والكشف عن علاقاتها.

عبدالرزاق الصاعدي
نشر في جريدة المدينة ملحق الرسالة

الجمعة 30 /11 /2012م

الأربعاء، 27 أبريل 2016

هل قالت العرب: مَقْيُول ومَزْيُور؟:

هل قالت العرب: مَقْيُول ومَزْيُور؟

       قال سيبويه 3/ 348، 349: "بعض العرب يخرجه (أي باب مفعول من الأجوف)على الأصل فيقول: مخيُوط ومبيُوعٌ، فشبهوها بصَيودٍ وغَيورٍ..".
ثم قال: "ولا نعلمهم أتموا في الواوات، لأن الواوات أثقل عليهن من الياءات، ومنها يقرون إلى الياء؛ فكرهوا اجتماعهما مع الضمة"

       قلت: يريد أنهم لا يقولون: مقوول ومزوور حين يقولون: مبيوع ومخيوط، وسمعنا في جزيرة العرب مَن يتمسّك بالتصحيح، فيقلب الواو ياء ويقول: مقيول ومزيور. وهذا لم يذكره سيبويه لأنه لم يبلغه، وهو في لهجات بدوية في بيئاتٍ متفرّقة من أرض المنبع، وأحسب أنه قديم قِدمَ مبيوع ومخيوط.


     وتأمل كيف عالجت لهجاتنا مشكلة اجتماع واوين وضمة  بقلب الواو الأولى (التي هي عين الكلمة) ياءً، وحافظوا على واو مفعول، وفي هذا تأييد خفي لرأي الأخفش في المحذوف من مبيع ومقول. فهل يمكن القول إن مبيوعًا ومزيورًا من الفوائت الظنية في لهجاتنا؟ لا أدري، لكن يلاحظ أن الشرطين الثاني والثالث من شروط الفوائت الظنية متحققان، أما الأول ففيه ما فيه وإن كان  لا يعدم تأويلا لمتأوّل. 

عبدالرزاق الصاعدي
20/ 7/ 1437هـ

الثلاثاء، 26 أبريل 2016

مسألة: دعونا نرتقِ/ دعونا نرتقي:

مسألة: دعونا نرتقِ/ دعونا نرتقي
بين الجزم والرفع

قلت في تغريدة ما نصّه: ((أتمنى في حواراتنا اللغوية أن نحترم كل الاتجاهات والآراء مهما اختلفنا معها، فليس لأحد أن يدعي صحة الرأي في كل ما يذهب إليه.. دعونا نرتقي)) فخاض بعض الفضلاء في إعراب (دعونا نرتقي) واختلطت الآراء وتباينت، فمنهم من أوجب الجزم: (دعونا نرتقِ) على معنى الجزاء، ومنهم من أوجب الرفع، ومنهم من أجاز الوجهين. وتدخل بعضهم مبديا وجهة نظره مستعينا باللسانيات الحديثة ولكنه لم يزد المسألة إلا غموضا واضطرابا، فليس للسانيات أن تكون ندّا للنحو العربي في فهم دقائق الإعراب ولطائف كلام العرب وأساليبها الفصحى، فللنحو ميدانه وللسانيات ميدانها، ومن يقحم الشيء في غير ميدانه لا يخرج بطائل.

ومبتدأ البحث سؤالُ شيخ النحاة سيبويه، وهو من أوائل من عرض لهذه المسألة، فأجاز فيها الوجهين، بناء على سماع من العرب الموثوق بعربيتهم، وذكر علة كل وجه، قال سيبويه: (الكتاب 3/ 98): ((وسمعنا عربياً موثوقاً بعربيته يقول: لا تذهبْ به تُغلَبُ عليه؛ فهذا كقوله: لا تَدْنُ من الأسدِ يأكلُك. وتقول: ذرْهُ يَقُلْ ذاك، وذرْهُ يقُولُ ذاك، فالرفع من وجهين: فأحدهما الابتداء، والآخر على قولك: ذره قائلاً ذاك؛ فتجعل يقول في موضع قائل.

فمَثَلُ الجزم قوله عز وجل: (ذَرْهُم يأكلوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهُم الأمل) ومَثَل الرفع قوله تعالى جدٌّه: (ذَرْهُم في خَوْضِهم يلعَبُون).

وتقول: ائتني تمشي؛ أي: ائتني ماشياً، وإن شاء جزمه على أنه إن أتاه مَشَى فيما يستقبل فيما يستقبل. وإن شاء رفعه على الابتداء)).

وهذا صريح الدلالة من سيبويه بجواز الوجهين في أصل المسألة، وترك الاختيار للمتكلم، إن أراد الجزاء جزم وإن أراد معنى الحال أو الابتداء رفع، ووقوعهما في كتاب الله وكلام العرب مؤذّن بذلك.

ثم يمضي سيبويه في تقليب المسألة ويورد مزيدًا من الشواهد مع توجيهها، فيقول: ((وقال عز وجل: (فاضْرِبْ لهم طَريقا في البَحْرِ يَبَسًا لا تَخافُ دَرَكًا ولا تَخْشَى) فالرفع على وجهين: على الابتداء، وعلى قوله: اضربه غير خائفٍ ولا خاشٍ.
وتقول: قُمْ يدعوك؛ لأنك لم ترد أن تجعلَ دعاءً بعد قيامه، ويكون القيام سبباً له، ولكنَّك أردت: قُمْ إنه يدعوك. وإن أردت ذلك المعنى جزمت.
وأما قول الأخطل:
كُرُّوا إلى حَرَّتَيكم تعمرونهما     كما تَكُـرُّ إلى أوطـانِها البَقَرُ
فعلى قوله: كرُّوا عامرين. وإن شئت رفعتَ على الابتداء.

وتقول: مُرْهُ يحفِرْها، وقُلْ له يَقُلْ ذاك. وقال الَّله عز وجل: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا ممَّا رزقناهم). ولو قلت مُرْهُ يحفِرُها على الابتداء كان جيَّداً)) (سيبويه 3/ 98، 99).

وثم نعرّج على شيخ الكوفيين الفراء في (معاني القرآن 1/ 158- 161) فنجد عنده فِقها بالمسألة وتفصيلا جميلا يستحقّ النظر والتأمل، وخلاصة رأيه أنه يفرّق بين الأمر والنهي، ويفصّل في حالات التركيب والفِعلَين والفاعلين، ومن أبرز ما عرض له:

1-  أنه يرى أن الجزم على الجزاء يكثر في الأمر، ويكثر الرفع في النهي، ومن النوع الأول أن يكون بعد معرفته فعلٌ لها فيجوز فيه الرفع والجزم مثل قوله: (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) وقوله: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا) وهذا مثل قولنا: دعونا نرتقِ، فهو نهي وبعد معرفته فعل لها، أي للمعرفة، وهي الضمير في دعونا. ويقول الفراء: ولو كان رفعا لكان صوابا كما قال تبارك وتعالى: (ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) ولم يقل: يلعبوا. ووجه الرفع عند الفرّاء أن تجعل (يَلْعَبُونَ) فِي موضع نصب على الحال كأنّك قلت في الكلام: ذرهم لاعبين. وكذلك دعهم وخلّهم واتركهم. وكل فعل صلح أن يقع على اسم معرفة وعلى فعله ففيه هذان الوجهان، والجزم فِيه وجه الكلام لأن الشرط يحسن فِيه، ولأن الأمر فِيهِ سهل، ألا ترى أنك تقول: قل له فليقُمْ معك؟

فإن كان الفعل الثاني مما يحسن فيه امتحان الأمر واختباره ففيه الوجهان بمذهب كالواحد، وفي إحدى القراءتين: (ذَرْهُمْ يأكلون ويتمتّعون ويلهيهم الأَمَلُ).

2- وأما في النهي فالأرجح الرَّفع، يقول الفراء: ((والعرب لا تجازي بالنهي كما تجازي بالأمر. وذلك أن النهي يأتي بالجحد، ولم تجاز العرب بشيء من الجحود. وإنما يجيبونه بالفاء. وألحقوا النهي إذا كان بلا، بليس وما وأخواتهن من الجحود. فإذا رَأَيْت نهيا بعد اسمه فعل فارفع ذلك الفعل. فتقول: لا تدعنه يضربه، ولا تتركه يضربك. جعلوه رفعا إذ لم يكن آخره يشاكل أوله إذ كان أوله جحد وليس فِي أخره جحد. فلو قلت: لا تدعه لا يؤذك جاز الجزم والرفع إذ كان أوله كآخره كما تقول في الأمر: دعه ينام، ودعه ينم إذ كان لا جحد فيهما، فإذا أمرت ثُمَّ جعلت فى الفعل (لا) رفعت لاختلافهما، أيضا، فقلت: ايتنا لا نسيء إليك كقول اللَّه تبارك وتعالى: (وأْمُرْ أَهْلَكَ بالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) لما كان أول الكلام أمرا وآخره نهيا فيه (لا) فاختلفا، جعلت (لا) على معنى ليس فرفعت))(معاني القرآن 1/ 160،161).

3- وإذا اتفق فاعل فعل الأمر  وفاعل فعل الجزاء جزمت وإذا اختلفا رفعت،  ومن الاتفاق قوله عزّ وجل: (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فقوله: (نقاتلْ) مجزومة لا يجوز رفعها. فإن قرئت بالياء (يقاتل) جاز رفعها وجزمها. فأما الجزم فعلى المجازاة بالأمر، وأما الرفع فأن تجعل (يقاتل) صلة للملك كأنك قلت: ابعث لنا الَّذِي يقاتل.

4-- فإذا رَأَيْت بعد الأمر اسما نكرة بعده فعل يرجع بذكره أو يصلح في ذلك الفعل إضمار الاسم، جاز فيه الرفع والجزم، تقول في الكلام: علمني علما أنتفع به، كأنك قلت: علمني الَّذِي أنتفع به، وإن جزمت (أنتفع) على أن تجعلها شرطا للأمر وكأنك لم تذكر العلم جاز ذلك.

5-- فإن ألقيت «به» لم يكن إلا جزما لأن الضمير لا يجوز فى (أنتفع) ألا ترى أنك لا تقول: علمني علما أنتفعه. فإن قلت: فهلا رفعت وأنت تريد إضمار (به) ؟ قلت: لا يجوز إضمار حرفين، فلذلك لم يجز فى قوله (نقاتل) إلا الجزم.

6-- ومنه ما يكون الجزم فِيهِ أحسن وذلك بأن يكون الفعل الَّذِي قد يجزم ويرفع فِي آية، والاسم الَّذِي يكون الفعل صلة له فِي الآية التي قبله، فيحسن الجزم لانقطاع الاسم من صلته من ذلك: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي) جزمه يحيى ابن وثاب والاعمش- ورفعه حمزة «يَرِثُنِي» لهذه العلة، وبعض القراء رفعه أيضا- لمّا كانت (وليا) رأس آية انقطع منها قوله (يرثنى) ، فحسن الجزم. ومن ذلك قوله: (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ) على الجزم. ولو كانت رفعا على صلة الحاشرين قلت: يأتوك.

7--  فإذا كان الاسم الَّذِي بعده فعل معرفة يرجع بذكره، مما جاز فِي نكرته وجهان جزمت فقلت: ابعث إلى أخاك يصب خيرا، لم يكن إلا جزما لأن الأخ معرفة والمعرفة لا توصل. ومنه قوله: (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) الهاء معرفة و «غَداً» معرفة فليس فِيهِ إلا الجزم، ومثل قوله: (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ) جزم لا غير.

ويحاول نحاة العصور الوسطى تهذيب المسألة وتقريبها، نرى ذلك عند غير واحد منهم، وأكتفي بما عند ابن يعيش في شرح المفصل ونقف معه هو يجمل المسألة بقوله: إنك إن أردت جزاء الشرط جزمت، وإن لم تقصده رفعت، والرفع على أحد ثلاثة أوجه: إمّا على الصفة إن كان قبله ما يصح وصفه به؛ وإمّا على الحال إن كان قبله معرفة؛ وإمّا على القطع والاستئناف.

ومثالُ الأوّل قولك: أعْطِني درهمّا أُنْفِقه، إذا لم تقصد الجزاء، رفعت على الصفة، ومنه قوله تعالى: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي)، فقُرىء بالجزم والرفع، فالجزمُ على الجواب، والرفغ على الصفة، أي: هب لي من لدنك وليا وارثًا، ومثله قوله تعالى: (رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) بالرفع والجزم.
ومثال الثاني: خَلِّ زيدًا يمزَحُ؛ أي: مازحًا, لأنه لا يصلح أن يكون وصفًا لما قبله لكونه معرفة، والفعلُ نكرة، ومثله قوله تعالى: (ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) فهو حالٌ من المفعول في ذرهم ولا يكون حالاً من المضمر في خوضهم لأنه مضاف، والحالُ لا يكون من المضاف إليه.

والثالث: أن يكون مقطوعًا عما قبله مستأنفًا، كقولك: لا تذهب به تُغلبُ عليه. وذلك أن الجزم ها هنا على الجواب لا يصح لفساد المعنى، إذ يصير التقدير: إن لا تذهب به تُغلَب عليه، فيصير عدمُ الذهاب به سببَ الغَلَب عليه، وليس المعني عليه، فكان مستأنفًا، كأنك أخبرت أنه ممن يُغْلَب عليه على كل حال. وكذلك قُمْ يَدعُوك، أي: إنه يدعوك، فأمرتَه بالقيام، وأخبرته أنه يدعوه ألبتة، ولم ترد الجواب على أنه إن قام دعاه.

            وبالقياس على ما سبق جاء قولنا: (دعونا نرتقِ) و(دعونا نرتقي) فإن ما قبل الفعل معرفة، وهو أمر لا نفي، فيجوز فيه الجزم على الجزاء والمعنى دعونا من هذا السلوك بمعنى اتركوه فإن تركتموه نرتقِ، فالارتقاء مشروط بالترك، وعلى رأي الفراء يكون الجزم هو الأرجح؛ لأنّ ((كل فعل صلح أن يقع على اسم معرفة وعلى فعله ففيه هذان الوجهان، والجزم فيه وجه الكلام لأن الشرط يحسن فيه، ولأنّ الأمر فيه سهل، ألا ترى أنك تقول: قل له فليقمْ معك)) وتقديره في مثالنا: دعونا من هذا السلوك فلنرتقِ. وأما الرفع فعلى الاستئناف على تقدير فإننا نرتقي أو على الحال على تقدير دعونا مرتقين.


أ. د. عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة
19/ 7/ 1437هـ

الخميس، 14 أبريل 2016

هل الحرف المشدد حرفان أو حرف واحد أطيل زمنه؟:

هل الحرف المشدد حرفان أم حرف واحد أطيل زمنه؟

     ثَمَّةَ خلاف بين اللُّغويِّين المتأخِّرين في أصل المشدَّدِ نحو (( عَدَّ)) و(( صَدَّ )) أثلاثيٌّ هو أم ثُنائيٌّ ؟فقد ذهب فريق إلى أنَّه ثنائيٌّ لا زيادة فيه، وأنَّ الحرف المشدَّد حرفٌ واحدٌ. أمَّا الفريق الآخر فيوافق القدامى في أنَّ ذلك ثلاثيٌّ، وأنَّ الحرف المشدَّد حرفان؛ أوَّلهما ساكن، وثانيهما متحرِّكٌ.
    ويحتجُّ الفريق الأوَّل بالنَّظرة الوصفيَّة الصَّوتيَّة للأصوات المتحرِّكة والصَّوامت الَّتي تؤكِّد -بزعمهم- أنَّ المشدَّد حرفٌ واحدٌ طويلٌ يساوي زمنه زمن صوتين .
    ومن هنا كان يقول (( ماريوباي )) : إنَّ (( اصطلاح : السَّاكن المضعَّفِ (double consonant) هو اصطلاحٌ مُضَلَّلٌ حقًّا [!] لأنَّه قد استعير من طريقة الكتابة؛ ففي النُّطق يُمَدُّ الصُّوت السَّاكن بتطويل مُدَّة النُّطق به؛ إذا كان هذا المدُّ ممكناً. ويكون هذا ممكناً إذا لم يكن الصُّوت السَّاكن انفجاريًّا.
وبما أنَّ الانفجاريَّ لا يمكن مدُّه عند نُقْطَةِ مخرجه، فإنَّ ما يسمَّى تطويلاً بالنِّسبة له يكون عن طريق إطالة مُدَّةِ قفل الطَّريق أمام الصَّوت قبل تفجيره )).
     ومن ثَمَّ قال (( فندريس )) : (( من الخطأ أن يقال بأنَّه يوجد ساكنان في: أَتَّ (atta) وساكنٌ واحدٌ في: أَتَ (ata) فالعناصر المحصورة بين الحركتين في كلتا المجموعتين واحدة، عنصر انحباسيٌّ يتبعه عنصر انفجاريٌّ، ولكن بينما نجد العنصر الانحباسيَّ في: أتَ (ata) يتبع العنصر الإنفجاريَّ مباشرةً، نجده في (atta) ينفصل عنه بإمساكٍ يطيل مدى الإغلاق )).
ومن هنا رأى (( رِينَان ))  أيضاً- أنَّ المضعَّف ثنائيٌّ، ولا يعدُّ ثلاثيًّا إلاَّ لاعتباراتٍ صرفيَّةٍ.
ووافقهم الدُّكتور سلمان العانيُّ في تعريف التَّضعيف بأنَّه (( إطالة الأصوات المتمادَّة، وقَفْلٌ أطولُ في الوقفيَّات)).
     والحروف المضعَّفة عند (( كانتينو )) (( هي الَّتي يمتدُّ النُّطق بها، فيضاهي مداها مدى حرفين بسيطين تقريباً، وتُرسم هذه الحروف عادةً في الأبجديَّة الأوروبِّيَّة بحرفين متتابعين: ب ب (bb) م م mm) ))).
وأخذ برأيهم الدُّكتور رمضان عبدالتَّوَّاب بقوله: (( إنَّ ما نعرفه باسم الحرف المشدَّد، أو الصَّوت المضعَّف ليس -في الحقيقة- صوتين من جنس واحدٍ؛ الأوَّل ساكنٌ، والثَّاني متحرِّكٌ؛ كما يقول نحاة العربيَّة؛ وإنَّما هو في الواقع صوتٌ واحدٌ طويلٌ؛ يساوي زمنه زمن صوتين اثنين )).
    وهذا الَّذي قالوه لم يكن خافياً على القدامى؛ فقد كان ابن جِنِّي يرى أنَّ (( الحرف لمَّا كان مُدْغَماً خَفِيَ؛ فنبا اللِّسان عنه وعن الآخر بعده نبوةً واحدةً؛ فجريا لذلك مجرى الحرف الواحد )).
    ورُويَ عن الزَّمخشريِّ وغيره  نحوه.
   وعلى الرّغم من ذلك فإنَّ القدامى كانوا يفرِّقون بين وصف الظَّاهرة الصَّوتيَّة وحقيقة الأصول؛ فلم يؤثر عنهم أنَّهم يعُدُّون المضعَّف أصلاً وحداً؛ وليس في وضعهم الثُّلاَثِيَّ المضعَّفَ في باب الثُّنائيِّ في معاجم التَّقليبات دليلٌ؛ كما سبق به البيان، بل كانوا ينصُّون على أنَّ المضعَّف حرفان. ومن أقدم من نبَّه على ذلك الخليل في قوله: (( اعلم أنَّ الرَّاء في اقْشَعَرَّ واسْبَكَرَّ هما راءان أُدغمتْ واحدةٌ في الأخرى، والتَّشديد علامة الإدغام )).
     ونحو ذلك ما قاله ابنُ يعيش وابنُ الحاجبِ.
    ولعلَّ وراء عَدِّ بعض المتأخِّرين المضَعَّفَ حرفاً واحداً مذهَبَهم في الثُّنائيّة، ومحاولةَ الانتصارِ له؛ لأنَّ الثُّلاثيَّ المضعّف نحو (( صَدَّ )) هو الأصل الثَّنائيُّ عند كثير من الثُّنائيِّين، ولابُدَّ أن يكون كذلك، لأنَّ الثُّلاثيَّ -عندهم- ليس أصلاً.
     ومهما يكن من أمرٍ، فإنَّ مذهبهم في عدَّ المشدَّدِ حرفاً واحداً؛ أطيلَ صوته، فيه نظرٌ؛ فالإدغام أن يؤتى بحرفين ساكنٍ فمتحرِّكٍ فيتَّصلان من غير أن يُفَكَّ بينهما، إلاَّ إذا أريد ذلك بالوقوف وقفةً لطيفةً على السَّاكن، ثمَّ الاستئناف بالمتحرِّك.
    ويظهر ذلك في الموازنة بين كلمتين متشابهتين في الفاء والعين، ومختلفتين في اللاَّم؛ وإحداهما مضَعَّفةٌ؛ نحو (( عَدْلٍ )) و (( عَدٍّ )) فإنَّكَ إذا تأمَّلتَ ذلك، ونطقتَ الكلمتين، ووقفتَ وقفةً لطيفةً على السَّاكن فيهما - لن تجد فرقاً بينهما في عدد الحروف والحركات والسَّكنات؛ فالأولى ثلاثيَّةٌ، وكذلك الثَّانية؛ وهي (عَدْ-دٌ) وأصلها (( عَدَدٌ )) وكذلك (( شَرْقٌ )) و(( شَرٌّ )) و (( بَرْقٌ )) و (( بَرٌّ )) و (( سِلْمٌ )) و (( سِلٌّ )) ونحو ذلك.
    والفرق بينهما أنَّ اللِّسان انتقل من مخرج الدَّال إلى مخرج اللاَّم في الكلمة الأولى، ولم ينتقل من مخرج الدَّال السَّاكنة في الكلمة الثَّانية؛ لأنَّ ما بعدها دالٌ فبقي في مخرجه.
     وقد سُكِّنَ الحرفُ الأوَّلُ وأدغمَ فيما بعده طلباً للخفَّةِ؛ فالأصل ((عَدَدٌ )) و (( شَرَرٌ )).
    ولعلَّ الإدغام مرحلة متأخِّرة في الاستعمال اللُّغويِّ؛ فيكون الأصل عدم الإدغام؛ أي: بنطق السَّاكن بوقفةٍ يسيرة دون إدغامًٍ في المتحرِّك، فلمَّا ثقل ذلك -لاحتياجه لشيء من الأناة- أُدْغِمَ طلباً للخفَّةِ.
ويمكن أن يستدلَّ بورود كلمة لم يقع فيها الإدغام؛ وهي (( رِيْيَا )) بمعنى المنظرِ الحسنِ، وأصلها (( رِئْيَا))  فلعلَّ ذلك من بقايا الأصل القديم في عدم الإدغام.
    ومذهب القدامى في المضعَّف قويٌّ. ومن اليسير أن يستدلَّ على قوَّته ورجحانه بجملةٍ من الأدلّة؛ وهي تُضْعِفُ -في المقابل- مذهب هؤلاء المتأخِّرين.
    وأحدُ تلك الأدلّة: جواز تضعيف الحرف الأوسط الصَّحيح قياساً من الفعل الثُّلاثيِّ؛ فيقال في (( كَسَرَ )) و (( قَتَلَ )) و (( خَرَمَ )) : (( كَسَّرَ )) و((قَتَّلَ )) و (( خَرَّمَ )). ويقال -أيضاً- في نحو (( عَدَّ )) و (( شَدَّ )) و (( مَدَّ )) : (( عَدَّدَ )) و((شَدَّدَ )) و (( مَدَّدَ )) فهو كالثُّلاثيِّ الصّحيح.
    فماذا يقولون في ذلك؟ هل يقولون: إنَّ الحرفَ الواحدَ المشدَّدَ؛ أطيلَ صوته وزمنه حتَّى غدا يماثل ثلاثة أحرفٍ، ثمَّ فُصِلَ ثُلُثُهُ، وهو الحرف الأخير؟ أو يقولون: إنَّ نصف الحرف المشدَّد في نحو (( عَدَّ )) هو الَّذي أطيل بالتَّشديد؛ فانفصل نصفه الثَّاني المتحرِّك؟ أو يقولون: إنَّ الدَّال الطَّويلةَ (المشدَّدَةَ) في (( عَدَّ )) بقيت على حالها؛ فاجتُلِبَتِ الدَّالُ الأخيرةُ اجتلاباً؟ أو يقولون: إنَّ (( عَدَّ )) فعلٌ و (( عَدَّدَ )) فعلٌ آخر مستقلٌّ بنفسه؛ ولا صلة بينهما؟ فيلزم -حينئذٍ- انتفاءُ العلاقة بين (( كَسَرَ )) و (( كَسَّرَ )) ونحوهما، وكُلُّ ذلك بعيدٌ.
    وثانيها هو: إدغام تاء الافتعال في فاء الكلمة؛ كقولهم (( اذَّكَرَ )) و((اطَّلَبَ )) و (( اصَّبَرَ )) ونحو ذلك؛ فيلزمهم أن يقولوا: إنَّ الذَّالَ والطَّاءَ والصَّادَ المضعَّفات كلٌّ منها حرف واحد، ولا يجوز ذلك؛ لأنَّ أصل ((اذَّكَرَ )) و (( اطَّلَبَ )) و (( اصَّبَرَ )) : (( اذْتَكَرَ )) و (( اطْتَلَبَ )) و (( اصْتَبَرَ )) قبل إبدال تاء الافتعال. ومثله: (( مُتَّقِدٌ )) و (( مُتَّعِدٌ )) وأصلهما (( مُوتَقِدٌ )) و (( مُوتَعِدٌ )).
    ويَلحقُ بذلك نحو (( عُدُّ )) فيلزمهم أن يقولوا: إنَّ الدَّال حرف واحد؛ أطيل صوته، وأنَّى يكون ذلك؛ لأنَّ الدَّال الثَّانية هي الفاعل؛ ألا ترى أنَّها مبدلة من التَّاء وأنَّ أصلها (( عُدْتُ؟ ))
ومثلها (( خَبَطُّ )) وأصلها (( خَبَطْتُ )).
    وثالثها: أنَّ نظريَّة المخالفة الصَّوتيَّة ، الَّتي تبنَّاها الكثير من المتأخِّرين؛ ممَّن قالوا بأنَّ المشدَّد حرف واحد تنقض مذهبهم؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ من المخالفة الصَّوتيَّة نوعاً يقوم على فَكِّ الإدغام بالإبدال؛ مثل (( القُنْفُذِ)) أصلها -عندهم (( القُفُّذُ )).
    وهذا النَّوع من تخالف الحروف المشدَّدةِ؛ الَّذي يكون بقلب أوِّل الحرفين إلى النُّون هو الأكثر وقوعاً في العربيَّة. وقد يصير الحرف الأوَّل من المشدَّدِ راءً، أو لاماً؛ نحو كلمة (( فَرْقَعَ )) الَّتي يرى (( برجشتراسر ))   أنَّ أصلها (( فَقَّعَ )) بتشديد القاف، ويرى أنَّ أصل (( بَلْطَحَ )) : (( بَطَّحَ )) أي: ضرب بنفسه الأرض.
والمخالفة تكون بين صوتين، وتفسيرهم وُقُوعَهَا في المشدَّد على هذا النَّحو يخالف مذهبهم في أنَّ المشدَّد حرف واحد.
    ورابع الأدلَّةِ: الإدغام بين حرفين في كلمتين؛ نحو (( مَن نّامَ )) و(( مِن نّعِيم ))وكذلك الإدغام بين حرفين من كلمتين ؛ بعد قلب أحدهما؛ نحو ((مَن يَّشَاءُ )) و (( مَن رَّامَ )) و (( هَرَّ أيْتَ )) ونحو ذلك من الإدغام المذكور عند القُرَّاء.
   وقريب من ذلك إدغام لام التَّعريف في ثلاثة عشر حرفاً؛ وهو ما يعرف بـ (( لام التَّعريف الشَّمسيَّة )) نحو (( الدَّلْوِ )) و (( الشَّرْقِ )) و((الصَّبْرِ)).
    وقد قلبت اللاَّم فيهنَّ من جنس ما بعدها، ثمَّ أدغمت فيه لسكونها.
    ولا أحدَ -خلا هؤلاء- يقول: إنَّ المُدْغَمَين حرفٌ واحدٌ.
   وآخر الأدلَّة من العروض، ودلالته قويَّةٌ؛ لأنّه مبنيٌّ على أساسٍ صوتيٍّ لا وظيفيٍّ - كما يقولون- وذاك الأساس هو: المتحرِّك والسَّاكن؛ فقد أجمع العَرُوضيُّون -منذ زمن الخليل إلى زمننا هذا- على أنَّ الحرف المشدَّدَ حرفان؛ أوَّلهما ساكن.
    قال الأخفش: (( فأمَّا الثَّقيل فحرفان في اللَّفظ؛ الأوَّل منهما ساكن، والثَّاني متحرِّكٌ؛ وهو في الكتاب حرف واحدٌ؛ نحو راء شَرٍّ )).
    وبمثل ذلك قال الجوهري، و ابن القطَّاع.
   وبه استدلَّ عَلَمُ الدِّين السَّخاوي على أنَّ المدغم حرفان بقوله: ((والدَّليل على ما قلته من كون الأوَّل ساكناً أنَّ كلَّ حرفٍ مشدَّدٍ في تقطيع العروض حرفان، الأوَّل ساكنٌ؛ تقول:
بِسِقْطِلْ لِوَىَ بَيْنَدَ دَخُوْلِ فَحَوْمَلِ
    فإن قلتَ: فلِمَ أسكنوا الأوَّل: قلتُ: لو لم يُسكنوه لفصلت الحركة بينهما؛ فلم تحصل الدَّفعة الواحدة )).
وبالجملة فإنَّ مذهب القدامى في المشدَّدِ هو الصَّحيح، وعليه المعوَّل في الأصول وتداخلها. وأنَّ ما ذهب إليه بعض المتأخِّرين في المشدَّدِ اجتهاد لم يحالفه التَّوفيق.
   
عبدالرزاق الصاعدي
من كتابي تداخل الأصول اللغوية

الجمعة، 8 أبريل 2016

القرار الثاني والعشرون: قبول مصطلح الرَّكْمجة:

القرار الثاني والعشرون
الرَّكْمَجَة كلمة منحوتة من ركوب الأمواج صحيحة التركيب والاستعمال

نص الورقة المقدمة للمجمع للنظر والدراسة:
      ((ظهر في زماننا مصطلح حديث يسمّى: (الرَّكْمَجة) وهو بمعنى رياضة ركوب الأمواج المتكسّره على الشاطئ بالألواح، نحتوه من (ركوب الأمواج) وورد ذكره في بعض المراجع وكلام بعض الرياضيين ومترجمي الأفلام وبعض القنوات الفضائية، ولعل من أقدم المعاجم الحديثة التي ذكرته معجم المورد لمنير بعلبكي، في طبعة له قبل ثلاثين سنة، ترجمة للمصطلح الإنجليزي:  surf-ridingونص الترجمة: الرَّكْمَجة: رياضة ركوب متن الأمواج المتكسّرة على الشاطئ. (انظر: معجم المورد ص 832 طبعة سنة 1986م، لمنير بعلبكي).

      وانقسمت أراء الناس في أمر هذا المصطلح، فمنهم من لم يُجزْه لثقل الكاف والجيم في كلمة واحدة مما يجعلها ثقيلة على اللسان والأذن، ولذا قلّ وقوع هذين الحرفين في كلمات عربية، وإن جاء منه: كثج والكَلَج والكُجّة والكِياج والكُنافِج. ومنهم من أجازه لأمرين: الأول: أن المراد الحكم على مصطلح حيّ جرى على ألسنة بعض الناس وبعض وسائل الإعلام ورصدته بعض المعاجم الحديثة كما تقدم، وليس المراد استحداثه، وثمة فرق بين الاستحداث والحكم على لفظ مستعمل. والآخر: أنه جارٍ على قواعد النحت في عصور الفصاحة، فهم قد يعمدون إلى كلمتين أو ثلاث أو جملة؛ فينزعون من مجموع حروفها كلمة واحدة؛ على وزن (فَعْلَل أو الفَعْلَلَة) لتدلّ على ما كانت تدلّ عليه الكلمتان أو الجملة، على سبيل الاختصار؛ وهو عند أهل الاختصاص لونٌ من ألوان التركيب في العربية، يختزل الكلمتين أو الجملة في بناء رباعيّ أو ملحق به؛ بخلاف التركيب الإضافي الذي يُبقي على بنيتي الكلمتين. ومن أمثلة النحت القديمة: البَسْمَلة والحَمْدَلة والحَوْقَلة والدَّمْعَزة والطَّلْبَقة والجَعْفَدة وتَعَبْشَمَ الرَّجلُ، وتَعَبْقَسَ، ورجلٌ عبْشَمِيٌّ أو عَبْقسيّ، إذا كان من عبدِ شمسٍ، أو من عبد قيس.

      وقد جاء نحت (الرَّكْمَجة) من قولهم ركوب الأمواج، بأخذ الراء والكاف من ركوب والميم والجيم من الأمواج أو الموج، على هذه الصورة: [ركـ]ـوب الأ[مـ]ـوا[ج] = رَكْمَجة؛ على وزن فَعْلَلة، كأخواتها في النحت الرباعي.

      ولما كان النحت أحد عوامل نمو اللغة العربية، وأحد وسائل إثرائها؛ إذ يتحول المنحوت إلى لفظ مكثف الدلالة يختزل معنى ما نحت منه مع إمكانية أن يشتق منه مشتقات، كالفعل بأنواعه والمصدر واسم الفاعل؛ فإني أرى  أن مصطلح (الرَّكْمَجة) المنحوت من قولهم ركوب الأمواج صحيحُ البنية في اللغة، جارٍ على سنن النحت المعروفة، ويمكن الاشتقاق منه فيقال: رَكْمَجَ يُرَكْمج رَكْمَجة فهو مُركمج، وأرى أنه من غير الحكمة تخطئة كلمة منحوتة على قياس كلام العرب، مع ادعاء أن اللغة كائن حي ينمو ويواكب الحياة بوسائل النمو اللغوي المعروفة ومنها النحت، وأرى أيضا أن تكون (الركمجة) بجوار أصلها (ركوب الأمواج) لتعطي المتكلم والمترجم والشاعر والساجع فسحة في القول فيختار منهما ما يناسب المقام ويتطلّبه النصّ))

عبدالرزاق الصاعدي
1 رجب 1437هـ الموافق 8 أبريل 2016م

نتيجة التصويت على الرَّكْمَجة:
عُرضت مسوّدة القرار على لجنة علمية من أهل الاختصاص، فكانت النتيجة قبول القرار بالأغلبية، وفيما يأتي أسماؤهم وأصواتهم:
   1-  أ. إبراهيم الخزيم (مرفوض)
   2-  أ. أسامة المنصور (مقبول)
   3-  د. الجوهرة بنت عبدالعزيز المعيوف (مقبول)
   4-  أ. حمود بن عبدالرحمن العبيد (مرفوض)
   5-  أ. د. سالم بن سليمان الخمّاش (مقبول)
   6-  د. سامي الفقيه الزهراني (مرفوض)
   7-  أ. سلطان العميمي (مقبول)
   8-  د. سليمان الضحيان (مقبول)
   9- أ. عبدالرؤوف الخوفي (مقبول)
   10-  د. عبدالعزيز العُمري (مرفوض)
   11-  أ. د. عبدالله الدايل (مقبول)
   12-   د. عبدالله غليس (مقبول)
   13-   د. محمد بن راجي الصاعدي (مقبول)
   14-   د. محمد الزايدي (مقبول)
   15-   د. مكين بن حوفان القرني (مقبول)
   16-    د. ياسر مرزوق (مقبول)

نص القرار الثاني والعشرين:
((يُقِرّ مجمعُ اللغة الافتراضي صحّةَ مصطلح الرَّكْمَجة الجاري على ألسنة بعض الناس في العقود الأخيرة، منحوتًا من قولهم (ركوب الأمواج)، وذلك بأخذ الراء والكاف من (ركوب) والميم والجيم من (الأمواج)، على وزن الفَعْلَلة، ويراه المجمع جاريًا على سَنَن النحت في العربية، كالبَسْمَلة والحَمْدَلة والطَّلْبَقة والدَّمْعَزة والجَعْفَدة، مع إمكانية أن يُشتقّ منه الفعلُ: رَكْمَجَ يُرَكْمِج وما يحتاج إليه المتكلمون من مشتقات قياسية. ولهذا المصطلح الحق الكامل في الحياة، وبقاؤه مرهون بالحاجة، والاستعمال مَطيّة الانتشار.
ويرى المجمع –أيضا- أن يكون مصطلح (الركمجة) بجوار أصله المركّب الإضافي (ركوب الأمواج) ليُعطيا المتكلم والمترجم والشاعر والساجع فسحة في القول فيختار منهما ما يناسب المقام ويتطلّبه النصّ))

مجمع اللغة الافتراضي- المدينة المنورة - 9 رجب 1437هـ ، الموافق 16 أبريل 2016م


*****
التعليقات:

تعليق أ.د. سالم الخمّاش:

      بعد مراجعة القواميس الإنجليزية - العربية وجدت أن لفظ الركمجة منحوت منذ زمن بعيد وقد وجدته في طبعة للمورد صدرت قبل 30 سنة. لذا أرى أنه اصطلاح شائع ويمكن اعتماده شرط الإشارة إلى المصادر التي ذكرته.



تعليق أ. عبدالرؤوف الخوفي:
     المفاهيم الحديثة ملك للزمان والمكان الذي مُورست فيهما اللغة؛ حيث يجدر أن نفرق بين أحقيتنا اليوم في النحت من المفاهيم القديمة أو الحديثة .. أما تلك القديمة فهي مما استقر درسا وممارسة، وأما المفاهيم الحديثة فإنها غضة خاضعة لصناعة المصطلح بكافة وسائله ليس أقلها النحت أهميةً فهي مهمة مكفولة لفكر ولسان جماعة متكلمي رعيل اليوم، هم الأحق والأقدر على خلق مصطلحاتهم بأنفسهم ولجيلهم تلو جيلهم .. لننطق ابتداء من أهمية اعتبار المفاهيم الحديثة حقا لنا، ومن ثم فإن صناعة مصطلحاتها بطبيعة الحال ستكون هي الأخرى حقا لنا؛ ولأن النحت غدا سمة لغوية معاصرة تساير التسارع الضوئي للمعرفة الإنسانية؛ حيث إن الاختزال والإيجاز لم يغدُ مجرد فصاحة أو بلاغة، بل تجاوزه إلى مقاييس حتمية يتطلبها الإعلام والإعلام الجديد في مجمل صوره كانت المصطلحات المنحوتة من المفاهيم الحديثة أجدى وأيسر ممارسةً للغة من جعل الإضافة والتعابير المركبة قوامها.. لا أظن من السهولة على إنسان اليوم أن يخلق مصطلحا منحوتا من عبارة "سماع الأذان" أو "قراءة كتاب".. لكني أرى من السهولة أن ينحت عبارة "القوات المنقولة جوا" فيقول: المجوقلة، أو "ركوب الأمواج" في إشارة إلى الرياضة المشهورة فيقول: "ركمجة" أو غيرها .. ناهيك عن أن ممارسة المصطلح المنحوت نهاية الأمر في الأوساط الرياضية والإعلامية والثقافية عموما هي ما سيحدد الذائقة والحاجة ومن ثم القبول أو الرفض .. وتكمن مهمة اللغوي في إحكام معايير النحت وضبط اشتقاقاته واقتراح تساوقاته الرصفية لخلق نحت متكامل لايسمح للمتكلم به استمثال المصطلح الناشئ هزيلا لسوء فهم منه فيولد مشوها، أخيرا فإن الإثراء صفة محمودة في كل لغات الأرض، بل إنها إحدى أبرز سمات العربية .. فلا نحجر واسعا!! فإن قال أحدهم: "ركوب الأمواج" ما أنكرنا.. وإن قال آخر: "ركمجة" أو غيرها ما أنكرنا أيضا .. ولو كان من مانع يستهجن النحت لكان في ألفاظ تعبدنا الله بها أولى كالتهليل والحوقلة أ.هـ.

تعليق الدكتور عبدالعزيز العُمري:
        في مناقشة قضية النحت أمور تحريرها مطلب مهم، وهي:
 -أن أبرز مظاهر قوة اللغة العربية في الاشتقاق لا النحت، فالاشتقاق دليل احتواء.
-النحت من الظواهر التي لا يمكن إنكارها، ولا يحسن كذلك التغافل عن نسبتها القليلة أمام غيرها من الظواهر.
-قد يكون النحت في بعض صوره علامة ضعف لا علامة قوة؛ هذا الضعف في بعض صوره التي يولدها من لا يعرف ضوابط النحت المعروفة.
-ورود لفظة أو لفظتين فيهما نحت من مضاف ومضاف إليه ينبغي أن تدرس في محيطها وملابساتها ونسبتها لما لم ينحت، وألا يجعل طريقا مقيسا.
ومن الواجب تحرير ثلاثة أمور في النحت: ما الذي ينبغي نحته؟ ومن الذي يقرر ذلك؟ ومن الناحت؟هل ننحت مثلاً (ركوب الأمواج) دون غيرها ، فمثلاً (كرة القدم) أشهر، ولا ينافسها رياضة أخرى، ولم يطالب أحد بأن تنحت (كرة القدم)، فتكون مثلا (كردم) أو (كقدم).
ومثل (المنقولة جوا) هل ننحتها هي فقط؟ وماذا عن (المنقولة برا وبحرا)؟ ثم ماذا عن (الهجوم الجوي والبري والبحري) سلسلة لا تنتهي! ثم ما الإشكال في المركب الإضافي في اللغة عموما وفي الرياضات والهوايات، مثل (كرة القدم، ركوب الأمواج، سباق السيارات، تقليد الأصوات) (الرسم على الرمال...)
والسؤال بطرح آخر: هل نحن ملزمون بنحت كل لفظين ارتبطا ببعضهما؟ وهل هو في كل الجوانب الرياضية والقطاعات العسكرية والصناعية والاقتصادية ...؟ تأمل: (الرفع بالضمة) (عامل لفظي) (الجملة الاسمية) (نزع الخافض) مصطلحات نحوية، هل يحق المطالبة بنحتها؟ وهل لأحد منعها؟ الحقيقة أن اللغة لا يلزمها ذلك، وفي العطف والوصف وتعلق الجار والمجرور والتمييز غنية. (الرسم الساخر) مقبول أمام (الكاريكاتير). إذا تحديد المطلوب نحته وتحريره أمر واجب . وهل كل كلمة في اللغات الأخرى يجب أن تقابلها كلمة واحدة في العربية؟! 
الأمر الثاني: من الذي يقرر الحاجة الماسّة لذلك؟ قد يرغب بعض أصحاب الاختصاصات بنحت كل الكلمات الأجنبية ويعلله بالحاجة.
الأمر الثالث: هل يقبل من أهل اختصاص ما نحتوه ولو كان مخالفا لما عرف من الضوابط؛ كالمخالفة في قلب الكلمتين وهو غير وارد عن العرب ، وما وضع النحت مرتبا إلا ليُعرف، قال سيبويه :"...من حروف الأول والآخر ولا يخرجونه من حروفهما؛ ليُعرف".أما الضابط الأخير هو الذوق في الاختيار وهو أسهل من سابقه.وللتوضيح فما سبق عرض للمشكلة، ولا ألغي مهمة النحت في اللغة وكونه من الظواهر اللغوية التي يمكن الإفادة منه بضوابط دقيقة. والشكر للمجمع على طرحه وخوضه في هذه المسالك لتحريرها وتنقيتها من الشوائب، وكلنا نسعى لهدف واحد، وهو اعتزاز لغتنا، ونسأل الله أن يتحقق على أيدينا، وأن يرتقي وعي الأمة لتجعل القيادة اللغوية بأيدي مختصيها.بقي أمر يظهر من خلال هذه الظاهرة افتقادنا لصانع القرار اللغوي؛ لذا قد تجتهد كل جهة فيما عندها ولا تراقبها الجهة الحكومية؛ لعدم وجود ضابط لسير العملية اللغوية (يُفتي) بالصواب بعد أن مهد الطريق ووضع الأسس ورسم خارطة للمحافظة اللغوية المرنة. والله من وراء القصد. ويبقى أن مناقشة الألفاظ الرائجة عمل جليل، مطالبون به، لنتبين الأفضل؛ حتى يأتي يوم عز للغة تنطلق فيه الألفاظ والقرارات من أهلها ثم تروج. لكل ما تقدم فإن رأيي هو الرفض، حتى يتم النظر الشمولي لكل النظائر المستعملة في تلك الجهة وغيرها، ثم إصدار حكم منضبط في ضوئها. وأن نعرض البدائل (النحت، والاشتقاق، التعريب)؛ لاختيار أفضلها؛ إذ كم كنا سنحرم جرس (هاتف،جوال) لو نُحتا، وجعلا لفظا منحوتًا، وليقارنا بمنحوتهما لو كان. والله من وراء القصد.

تعليق أ. أسامة المنصور:
    النحت بابه واسع وأصله مُجْمَع عليه، والقواعد معروفة وتأصيلها موجود، وأفضل النحت ما كان يندرج على القاعدة، وما كان مستساغا، خصوصا عند أهل الاختصاص بهذه الكلمة، وما دامت هذه الكلمة لرياضة من الرياضات ومستخدمة عند أهلها بل وعند المترجمين من اللغات الأخرى مع تماشيها مع القواعد المرعية، فلا يوجد مسوّغ لردها! وأما مسألة الثقل فهو أمر نسبيّ ويختلف من لسان إلى لسان! أفلا نرى "التسهيل" في بعض الهمزات في القرآن أصعبَ بكثير من تحقيقها؟! ولا زلت أذكر في علم التجويد من يقول من القدماء عن مخرج الضاد أنه من الحافة اليسرى أيسر وأخف من اليمنى أو من الحافتين معا!!! ولا أكاد أرى من يستسيغ ذلك إلا قليلا! ولذلك ففي وجهة نظري أنها كلمة صحيحة معبّرة ومستخدمة كثيرا، وأؤيّد قبولها دون تردد. وفقكم الله.

تعليق: أ. إبراهيم الخزيم:
     الركمجة ممتنعة القبول لأمور منها: أولا: أنها ثقيلة على اللسان وأن أحرفها متنافرة. ثانيا : أن مدلولها موغل في الغموض لمن لم يسمعها من قبل، فلا سبيل للتكهن فيه . ثالثا : أن الحيعلة والبسملة ونحوهما جاءنطقها على نطق جملتها ولو تمتمت جملتها لطابقت نطق نحتها ، أي لو أبهمت حروفها ولم تفصح لوافقتمنحوتها بخلاف ركمج التي لا تستشعر منها رائحة جملتها. رابعا : أن موافقة قواعد النحت ليس شرطا في قبول المنحوت ولو كان كذلك لبشمت اللغة نحتا ومنحوتات وهو ما لم يكن ، ولأصبحت لغة المنحوتات في ألسن الناس أكثر من مفردات اللغة ، وفي هذا دليل على أن تحقق قواعد النحت ليس شرطا للقبول. خامسا : أن الكلمات المنحوتات والشائعات مشتركات في وجود لفظ الجلالة أو تكاد ولهذا جاءت اللام إن لم أكن مخطئا نحو حيعل بسمل حوقل... سادسا : أن قبول مثل هذه الركمجة يفتح بابا يجعلك مجبرا لقبول كل ما استجد من منحوت ، علما أن الناحتين هنا ليسوا حجة في نحتهم ولو وافقوا ما تقدم من منحوتات وإنما أشخاص لا شأن لهم في اللغة ولهذا جاءت ركمجة ولو كانوا أهلا للغة لما نجروها هكذا. ولكم آراؤكم أما أنا فمشمئز من سماعها فضلا عن أن أتلفظ بها أو أدرجها في مقال كما اشمأزت نفسي قبلها من قولهم قديما وحديثا الماجريات.


تعليق أ. د. عبدالله الدايل:

     أرى أن الرَّكْمَجة مقبولة، واللغة مطيّة الاستعمال، فهذه الكلمة  المنحوتة : ركمجة ستفرض نفسها إذا كثر استعمالها وستظل غريبة إذا قل استعمالها أو ندر شأنها في ذلك شأن كثير من الألفاظ .

تعليق الدكتور سليمان الضحيان:
     النحت أسلوب من أساليب الاختصار، وقد استعملته العرب، قال الخليل: "وقد أكثرت من الحيعلة؛ أي من قولك: حيَّ على، وهذا يشبه قولهم: تعبشمَ الرجلُ وتعبقسَ، ورجل عبشميّ: إذا كان من عبد شمس أو من عبد قيس، فأخذوا من كلمتين واشتقوا فعلاً فهذا من النحت". العين 1/60-61.
وقال سيبويه: "وأما حيَّهل التي للأمر فمن شيئين، يدلك على ذلك : حيَّ على الصلاة" الكتاب: 3/300، وقال أيضًا: "وقد يجعلون للنَّسب في الإضافة اسماً بمنزلة جعفر، ويجعلون فيه من حروف الأول والآخر، ولا يخرجونه من حروفهما ليعرف...،فمن ذلك: عبشميٌّ، وعبدريٌّ. وليس هذا بالقياس" الكتاب: 3/ 377.
من هذه النصوص الثلاثة للخليل وسيبويه نستنتج ثلاثة أمور:
الأمر الأول:  أن النحت نوعان، (النحت النَّسَبي)، و(النحت الفِعْلي)، وقد أشار إلى هذا رمضان عبد التواب، فالنحت النسبي هو: النسب إلى العلم المركب تركيبا إضافيا بالنحت من المضاف والمضاف إليه كلمة واحدة ننسب إليها، كالنسب إلى عبد شمس = عبشمي، وعبد قيس= عبقسي.
والنحت الفعلي، وهو نحت كلمة من جملة مثل: حيَّهل  من (حيَّ هلا)، وبسمل من (بسم الله).
الأمر الثاني: أن ما نحت من مضاف ومضاف إليه يجوز أن يشتق منه فعل، فعبشمي، وعبقسي، اشتق منهما فعلان فقيل: تعبشمَ الرجلُ وتعبقسَ.
الأمر الثالث: أن سيبويه يرى أن ذلك كله سماعي لا يقاس عليه.
ولم أجد أحدا من العلماء قال بأنه قياس، سوى ما نسب لابن فارس، قال عنه الخضري: "ونقل عن ابن فارس قياسيته" حاشية الخضري على ابن عقيل: 1/5.
وبالرجوع لكتب ابن فارس نجد أنه يرى أن النحت كثير جدًا في لغة العرب، فما زاد عن ثلاثة أحرف مما هو مجرد فأكثره عنده منحوت، وقد نص على ذلك في كتابه الصاحبي :1/ 209 -210، حيث قال: "باب النحت: العرب تَنْحَتُ من كلمتين كلمةً واحدة، وهو جنس من الاختصار، وذلك: رجل عَبْشَميّ، منسوب إِلَى اسمين، وأنشد الخليل:
أقول لَهَا ودمعُ العين جارٍ       ألَمْ تَحْزُنْكِ حَيْعَلةُ المنادي
مكان قوله: (حَيَّ علي)، وهذا مذهبنا فِي أنّ الأشياء الزائدة عَلَى ثلاثة أحرف، فأكثرها منحوت، مثل قول العرب للرجل الشديد (ضَبَطرٌ)، وَفِي (الصِّلِّدْم) إنه من (الصَّلد)،  و(الصَّدْم).
وَقَدْ ذكرنا ذَلِكَ بوجوهه فِي كتاب (مقاييس اللغة)".
وفي بحث قدمه سليم النعيمي لمجمع اللغة العربية  أحصى فيه  130 كلمة في معجم المقاييس، نص ابن فارس على أنها منحوتة.
وبعيدًا عن تكلف ابن فارس في محاولته تخريج الكلمات الرباعية والخماسية على أنها منحوتة من كلمتين، وأحيانا من ثلاث كلمات كما في كلمة (القَلْفَع) وهو ما يبس من الطين، يرى أنها من: (قَـفَعَ) ، و(قلع)، و(قَلَف)، بعيدا عن تكلف ابن فارس هذا، نسأل: هل ثبت أن النحت كثير عن العرب؟
الجواب: نعم، فقد نص الخضري على ذلك، قال الخضري عن النحت "وهو أن يختصر من كلمتين فأكثر كلمة واحدة، ولا يشترط فيه حفظ الكلمة الأولى بتمامها بالاستقراء خلافاً لبعضهم، ولا الأخذ من كل الكلمات، ولا موافقة الحركات، والسَّكنات...، والنحت مع كثرته عن العرب غير قياسي كما صرح به الشمني" حاشية الخضري: 1/4. فالخضري هنا ينص على كثرته، فإذا كان كثيرًا فما أدري ما المانع الذي جعل العلماء يرون أنه لا يقاس عليه؟
ومع منع العلماء القياس عليه إلا التطور الطبيعي للغة سار بمعزل عن قواعد علماء اللغة، فإنه كما كثر عن العرب، وجدناه كثر أيضًا -  بعد انقضاء عصر الاحتجاج، فمما نحت بعد عصر الاحتجاج: (سمعَلَ: السلام عليكم)،  و(دمعزَ: أدام الله عزك)، و(كبتعَ: كبت الله عدوك)، و(جعفدَ أو جعفلَ: جُعلت فداءك)، و(طلبقَ أو طبقلَ: أطال الله بقاءك).
و(دربخيّ : النسب إلى دار البطّيخ)، و( سقزنيّ: إلى سوق مازن)، و(رسعنيّ : إلى رأس العين)، و(بهشميّ : إلى بني هاشم)، و(طبرخزيّ: إلى طبرستان وخوارزم)، و(حنفلتيّ : إلى أبي حنيفة والمعتزلة)، و(شفعنتيّ : إلى الشافعي وأبي حنيفة).
فكل تلك الكلمات مولدة استعملها العلماء في كتبه، وقال الزمخشري المعتزلي يهجو أهل السنة لإثباتهم الصفات:
قد شبَّهوه بخلقِه و تخوَّفوا     شَنَعَ الورى فتَستَّروا بالبَلْكَفةْ
فنحت (البلكفة) من قولهم ( بلا كيف).
وكلما تطورت اللغة صاحبتها ظواهرها التي هي من بنية اللغة، لا تكاد تنفك عنها، ومنها (النحت)، فقد بقي في اللهجات العامية إلى اليوم، فالعامة تقول: (لِيْش)، منحوتة من : لأي شي؟، و(عَلِيش) منحوتة من : على أي شيئ، وإن كانت في الأصل جرت مجرى التخفيف لكثرة الاستعمال حسب قانون البِِلى اللفظي، لكن صورتها النهائية جاءت على صورة النحت، وما النحت إلا طلب الاختصار لكثرة الاستعمال.
وبعد هذه الفذلكة (كلمة منحوتة من قولهم إذا كان كذا فكذا) التي طالت، نخلص إلى ما يلي:
1-أن النحت كثير في لغة العرب، وقد قعَّد العلماء أنه يقاس على الكثير.
2-أنه ظل مع منع العلماء القياس عليه حاضرا في تعبيراتهم، وفي لغة العامة.
3-أن مجمعي اللغة العربية في القاهرة وبغداد أجازا النحت للحاجة بضابط أن يكون على سنن العربية.
4-أننا اليوم بأمس الحاجة لتوسيع آليات التعامل اللغوي مع منتجات الحضارة، إذا كانت هذه الآليات لها أصل في لغة العرب، فكيف إذا كانت هذه الآلية كثيرة في لغة العرب؟! فالمظنون ألا يعارض لغوي في إعمالها وقت الحاجة.
ويبقى إشكال أن (رَكْمَجة) منحوتة من (ركوب الموج)، وما جاء عن العرب أن المنحوت من المضاف والمضاف إليه إنما يكون في المنسوب مثل: عبشمي = منسوب لعبد شمس، وعبدري منسوب لعبد الدار، وعبقسي منسوب لعبد قيس، وليس منه فعل أو مصدر، إنما الفعل والمصدر مما نحت من جملة كمثل : (بسمل بسملة من بسم الله)،
والجواب عن هذا الإشكال أن الخليل نص على أن المنحوت من المضاف والمضاف إليه يشتق منه فعل، قال: "وقد أكثرت من الحيعلة؛ أي من قولك: حيَّ على، وهذا يشبه قولهم: تعبشمَ الرجلُ وتعبقسَ، ورجل عبشميّ: إذا كان من عبد شمس أو من عبد قيس، فأخذوا من كلمتين واشتقوا فعلاً فهذا من النحت". العين 1/ 60-61.

وعليه فلا أرى مانعا لغويا من نحت كلمة (رَكْمَجَة) من (ركوب الأمواج)، فالنحت كثير في لغة العرب، والقياس على الكثير نهج سار عليه كبار أئمة اللغة، وحسبك به نهجًا لا يستطيع أحد أن يجد به مغمزا.

تعليق عبدالرزاق الصاعدي:
     هذا المصطلح النحتي (الرَّكْمَجة) مستعمل منذ سنوات على ألسنة الرياضيين وبعض القنوات الفضائية، وهي كلمة دارجة مألوفة عندهم، فلعلّ الأجدى حصرُ الحديث فيها؛ فإما أن نقرها وإما أن نرفضها، أما اقتراح نحت بديل أو لفظ أخر فأراه عديم الجدوى؛ لأن الراجح أنه لن يشيع؛ لمزاحمتها أياه مستقوية بحياتها على ألسنتهم، ولا عيب فيها من جهة الصناعة، فهي جارية على سنن العرب في النحت، وليس لدينا علّة تسوغ رفضها سوى الثقل، وأمر الثقل مردود لاستعمالها في كلامها دون عائق، والاستعمال وسيلة تهذيب، وكما قالوا: ما تلوكه الألسن تألفه الآذان، وبهذا نجحت وتخطت مشكلتها (الثقل)، فعلينا أن ننظر إليها ماثلة بين أيدينا ونحكم عليها بالجواز أو البطلان.. وهذا هو الأجدى. ولنا في تاريخ لغتنا أسوة حسنة، فلغة استوعبت: الطَّلْبَقة والدَّمْعَزة والجَعْفَدة والجَعْفَلة والحَيْعَلَة والكَبْتَعة أتعجز عن استيعاب الرَّكْمَجة؟
    والنحت كالملح في الطعام.. وهو قليل عند القدماء وقليل المعاصرين أيضا، ولكنهم مارسوا حقهم في النحت على القياس المعروف ولم يجدوا بأسًا في نحت (درعميّ) من دار العلو،2 و(أنفميّ) للصوت الذي يتخذ مجراه من الأنف والفم معًا، و(لُبْأرْز) من لبنان وأرز، وهو اسم شجر من فصلية الصنوبريات، سموا جنسه باللغة العلمية Libocedrus نحتًا من Cedrus Liban ، ثم نحتوا: (الركمجة) فهل لنا أن نمنعهم من ذلك؟ أو يكفينا الحكم على ممارستهم تلك؟ أليس من التحكّم والوصاية ومخالفة روح اللغة أن نخطّئ كلمة منحوتة على قياس كلام العرب، مع ادعائنا أن اللغة كائن حي ينمو ويواكب الحياة بأدوات النمو اللغوي المعروفة ومنها النحت، وكم في لغتنا من الحوشي والغريب، بقي منه ما بقي على تعاقب الأيام وكرّ العصور، ومات ما مات، وحياته وموته متروكة لأهل اللغة في استعمالهم للغتهم والتصرف فيها حسب حاجاتهم، ولهم حرية الاختيار.


رئيس مجمع اللغة الافتراضي
عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة