الجمعة، 12 يوليو 2013

نفاضة الجراب 43 وقفة مع بحر المنسرح

نفاضة الجراب 43

وقفة مع بحر المنسرح
      سبق أن صنّفت بحور الشعر إلى أربعة أقسام، بحور شريفة وبحور عريقة وبحور ضعيفة وبحور خبيثة، وجعلت المنسرح من القسم الثاني ( البحور العريقة) وأنه يتعذّر عليه أن يدرك البحور الشريفة (الطويل والكامل والبسيط والوافر والخفيف) وعراقة المنسرح جاءته من قصائد جياد متفرّقة في تراثنا، نظمت عليه، كمرثية أوس بن حجر:
أيّتهَا النفسُ أجملِي جَزَعَاً * إن الذي تحذرِينَ قد وقـعَا
وفائية قيس بن الخَطيم:
ردَّ الخليطُ الجمالَ فانصرفُوا* ماذا عليـهمْ لو أنّهمْ وقفُـوا
      والمنسرح من البحور الوسطى، وهو البحر الثاني من دائرة المجتلب، ووزنه المفكوك من الدائرة: مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن مرتين ، ويزعمون أن الخليل سماه منسرحا لانسراحه وسهولته، والصحيح أنّه سمّي لانسراحه مما يقع في أمثاله سمي منسرحا كما يقول التبريزي في الكافي، أي مفارقته عما يحصل بأشكاله، فإن مستفعلن في ضربه لا تأتي تامة، بل يلزم الطي فيها، فتأتي (مستعلن) والغالب في عروضه أن تأتي مطوية مستعلن، ومن هنا انسرح عن غيره، وتكثر الزحافات في حشوه، ويقع الخبن في مفعولاتُ فتتحول إلى معولاتُ، ولذا يبدو مضطرب الوزن قريبا من النثر.
ووزن المنسرح عند حازم القرطاجني (مستفعلاتن مستفعلن فاعلن) وهذا عبث، ولولا دوائر الخليل لما انضبط علم العروض.
وثقل المنسرح وكزازته واضطرابه راجع إلى أمرين:
        الأول: تفعيلة مفعولاتُ في وسطه، ووتدها المفروق، وما يصيبها من زحافات تقربها من النثر.
       والثاني: الطي اللازم في ضربه (مستعلن) وهو أي هذا الطّيّ- غالب في عروضه. مع كثرة الزحافات، ولذا تراه مضطرب النغم.
      وقد لاحظ ذلك الاضطراب بعض العروضيين، قال جلال الحنفي: وهو في بعض صوره يبدو مشدودا إلى النثر شيئا من الشد، مما يفهم منه أنه من أسبق البحور ظهورا إلى المجالات الشعرية، وأقدمها في مضمار التطور.
     وصوّر عبدالله الطيب المنسرح بصورة الراقص المتكسّر وأنه يصلح للغناء، وأن فيه من اللين والتثنّي والتأنّث ما فيه، وأنه يصلح للنوح والردح، ويصلح للرثاء والنقائض، وما بينهما من غزل وشبيهه، ولذا وجد فيه الحجازيون بحرا يلائم مذاهبهم اللينة الغنائية في العصر الأموي، فشاع عندهم، ولكنه قل عند شعراء الفخامة أمثال كثيّر والأخطل وجرير والفرزدق والقطامي وابن الرقاع.
      ويراه إبراهيم أنيس بحرا ثقيلا يشقّ على ناظمه، قال: هذا هو البحر الثاني الذي أبى معظم شعرائنا المحدثين النظم منه أولم يستريحوا إليه، وإلى موسيقاه، ولعل الذين حاولوه منهم إنما أُعجبوا بقصائد معيّنة قالها القدماء من هذا الوزن، فنسجوا على منوالها، ولعلّهم وجدوا في النظم منه عنتا ومشقّة، ونحن حين نقرأ قصائده لا نكاد نشعر بانسجام في موسيقاه، ويخيّل إلينا أن الوزن مضطرب بعض الاضطراب، وقد هجره المحدثون وأغلب الظنّ أنه سينقرض من الشعر في مستقبل الأيام.
     ومع هذا أُعجب الدكتور عبداللطيف عبدالحليم بالمنسرح فأصدر ديوانا كاملا كلّ قصائده من المنسرح، ولعلّ ذلك كان نكاية بإبراهيم أنيس وبرأيه في المنسرح وانتصاراً لهذا البحر.. وأنا مع أنيس لا أستسيغ إيقاع هذا البحر، وأره سائرا في طريقه إلى الهجر عند المعاصرين لما فيه من التيبس والعسر والاضطراب والكآبة.

أ.د.عبدالرزاق بن فراج الصاعدي

الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة
جريدة المدينة، ملحق الرسالة: الجمعة 1434/9/4 هـ 2013/07/12 م العدد : 18342
http://www.al-madina.com/node/465622