الجمعة، 29 نوفمبر 2013

من ذكرياتي في جامعة المؤسس (3)

من ذكرياتي في جامعة المؤسس (3)
عبدالرزاق بن فراج الصاعدي*
أواصل حديث الذكريات عن بعض أساتذتي في قسم اللغة العربية في تلك المدة الذهبية (1404- 1408هـ ) وسأذكر بعضا من زملائي الذين عاصرتهم، في تفاريق، حسب ما تجود به الذاكرة الكليلة.
1- قلت في المقالة الأولى في الدكتور عبدالله الغذامي ما عرفته عنه أيام الدراسة، ولم أبالغ في مدحه علمياً، وهو ليس بحاجة إلى شهادتي فيه، فعلمه الشاهد، وهو من الأعلام الكبار في تاريخنا الثقافي المعاصر، ولكنها ذكرياتي وانطباعاتي، لا تنفعه ولا تضرّه، فمما أذكره أنني قرأتُ له محاولةً شعرية قديمة نُشرت في مصدر نسيته الآن، لا أدري أكتابٌ هو أم مجلة أم جريدة؟ لكن علق في ذهني من قصيدته قوله: (والحُبُّ جرادة!!) فلم أستوعب التشبيه المعجِز!! فكنّا ذات يوم من عام 1407هـ نسير بجواره أنا وبعض زملائي خارجين من المبنى القديم للقسم متجهين شرقا إلى مبنى كلية الآداب الجديد، وكنت أَهُمُّ بسؤاله: كيف يكون الحُبّ جرادةً يا دكتور؟ وكان بجواري بخيت سعد وقد أطلعته على ما أضمرته من سؤال، فنصحني ألا أسأله، فلما رآني أُهمهم بالسؤال ضغط على يدي، أي: لا تسألْ! فتردّدت، ثم امتنعت عن السؤال.. وليتني سألته! فإنّ أستاذنا لطيفٌ جدا (كان) مع طلابه، وخاصة من يتوسّم فيهم شيئا ما، أو يأمّل أن يكونوا على منهجه ومن أتباعه، ولكن صورته الجميلة تغيرت كثيراً في عيون بعض طلابه بعد تخرّجهم، فرأيناه يقصي من يخالفه أو يُبيّن بعض أخطائه في بعض مسائل العلم ، فيلجأ إلى التجاهل والإقصاء والتنكّر، ليس عن ضعفٍ علميّ، فهو جبلٌ في الأدب والنقد، فما حاجته إلى التجاهل والإقصاء والتعالي ما لم تكن نرجسية تتضخُم مع تقدم العمر لتصبح منهجا مع الخصوم والطلاب الذين لم يسيروا في الجوقة القديمة أو الجديدة؟!
 وباختصار فإنّ أستاذنا الفريد يريد أتباعاً ومريدين ورواة لعلمه وشُرّاحا لنظرياته التي تخلّى هو عن نصفها، بعد رحلته من البنيوية إلى التشريحية عبر (الخطيئة والتكفير) في صومعة الحداثة التي خرج منها بعد نضالِ عقدين انتهى بكتاب ينعِي فيه الحداثة السعودية، فأضاع أوقاته وأوقات طلابه في البحث عن الصُّوتيم والفُونيم وتشريح النص والسميولوجية والأبستموليجية وموت المؤلف، فماتت الحداثة وتحوّل هو إلى النقد الثقافي وثقافة الوهم وثقافة الصورة ونقد الفضائيات.
2- ومن أساتذتنا الدكتور بكري شيخ أمين، من سوريا، وكان أستاذا أنيقا مهذبا، ذلّل لنا علوم البلاغة، وخفف من جفافها في كتب المتقدمين وأعاد عرضها بأسلوبه الخاص، فكان بارعا في تقريب علومها وتقديمها في ثوبٍ جديد أنيق، ومنه عرفنا أن البلاغة هي وضع الكلمة المناسبة في مكانها المناسب، أو مراعة مقتضى الحال مع فصاحة اللفظ، كما قال القدامى، أو ما يسميه الشيخ عبدالقاهر الجرجاني النظم، وقد أفدنا من الدكتور بكري ومن كتبه (البلاغة في ثوبها الجديد في ثلاثة أجزاء) ودرسنا عليه المستويات الثلاثة من البلاغة، وفي المستوى الأول قرّر علينا كتاب الخطيب القزويني (التلخيص في علوم البلاغة) بشرح عبدالرحمن البرقوقي، وإلى اليوم أحتفظ بنسختي وعليها تعليقاتي مع الدكتور، والحقيقة أن التلخيص لا يصلح أن يكون كتابا لمقرر البلاغة، لوجازته وجفافه.. وفي المستويين الثاني والثالث رأى أستاذنا أن كتابه (البلاغة في ثوبها الجديد) في جزءيه الثاني والثالث هو المرجع للمقررين مع مصادر قديمة عند الحاجة، وكان أحدهما عن البيان والآخر عن البديع، وكنا نرجع بين الحين والحين إلى المفتاح للسكاكي وكتب عبدالعزيز عتيق وبدوي طبانة.. ومن أبرز كتب الدكتور بكري بعد البلاغة في ثوبها الجديد كتابه (الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية) الذي أخرجه عام 1492هـ / 1972م.
والدكتور بكري بطبعه يميل إلى الرزانة والهدوء ويبادل طلابه الاحترام المطلق، وقد سعدت برؤيته قبل سنة حين استضافته الجامعة الإسلامية في المؤتمر الدولي الأول للغة العربية ومواكبة العصر، وكان له ورقة بحث بعنوان (اللغة العربية بين الواقع والمرتجى).
3- وكانت دفعتنا في تلك الحقبة الذهبية مميزة جدا، وقد تفرّقت بزملائي السبل بعد تخرجهم، شرقوا وغربوا، وحققوا نجاحات تثلج الصدر، ومناصب علمية وإدارية جيدة، وكتبوا أبحاثا ونشروا كتباً، وشاركوا في حراكنا الثقافي والأدبي والأكاديمي، وسأذكر بعضهم هنا، من الذاكرة، وأرجو أن يعذرني من نسيت أن أذكره، وهم:
الدكتور عبدالرحمن بن عيسى الحازمي، والدكتور أحمد سعيد قشاش، والناقد حسين بافقيه، والدكتور محمد هادي مباركي، والدكتور ناجي بن محمدو حين عبدالجليل، والدكتور حمدان الزهراني، والدكتور عبدالعزيز عاشور العبيدان، والدكتور نصّار بن محمد حميد الدين، والإعلامي عبده قزّان (عبدالعزيز قزّان) والإعلامي جبريل أبو ديّة، والدكتور عائض بن سعيد القرني، والدكتور عبدالهادي حتاتة الغامدي، ، والدكتور حمدان الزهراني، والدكتور عامر الثبيتي، والدكتور مطيع الله السلمي، والدكتور محمد شتيوي الحبيشي، والدكتور يحيى الحكمي، والشاعر مسفر الغامدي، وبخيت سعد الصاعدي، وعبدالله حارق، والمعلق الرياضي الأنيق كمال السوادي، ومحمد الدخيل، وزايد هندي الزهراني، وحسين الأسمري، وعطية الزهراني، وعبدالمحسن الدوسري، وعبدالعزيز قدسي، وعبدالله آل سلطان، وحميد أحمد عبدالله، وكنز الدولة، وراشد الحسيني.. وغيرهم كثر.
4- وأذكر أننا كنا في رحلة علمية إلى كلية علوم البحار على ضفاف شرم أبحر، بتاريخ 12/ 1/ 1406هـ نضمها القسم وكان معنا الدكتور حسين الذواد رئيس القسم، والدكتور عبدالمحسن القحطاني والدكتور محمد يعقوب تركستاني والدكتور عبدالله المعطاني والدكتور بكري شيخ أمين، والدكتور فوزي عيسى، وعدد من زملائي، كان منهم عبدالرحمن عيسى الحازمي وحمدان الزهراني وحسين بافقيه وعبده قزان وعائض بن سعيد القرني وجبريل أبو ديّة، وراشد الحسيني، عماني، وكنز الدولة من السودان، وطالب من كوريا الجنوبية نسيت اسمه.
وأقيمت في أثناء الرحلة بعض المسابقات الثقافية الخفيفة، وأذكر أننا بعد رجوعنا من رحلة بحرية بمعية الدكتور بكري شيخ أمين ومجموعة من الطلاب نظم لنا المسؤول عن النشاط الثقافي بالقسم الدكتور عبدالله المعطاني مساجلة شعرية بحضور أساتذتنا، وطُلِبَ من الدكتور عبدالمحسن القحطاني أن يفتتح المساجلة مع أحد الطلاب وهو عبدالمحسن الدوسري فقال الدكتور القحطاني للطالب: إن غلبتك قالوا أستاذ تغلّب على طالب واستقوى عليه، وإن غلبتني قالوا كبيرة! طالب يغلب أستاذه!! فأنا الخسران في الحالتين، فساجله الدكتور وكانت مساجلة جميلة وممتعة، وكأنهما اتفقا ألا غالب ولا مغلوب..
وأذكر أن الدكتور عبدالله المعطاني سأل سؤالا بعد المساجلة وكان معه مجموعة من الكتب جوائز، وكان من الأسئلة التي علقت في ذاكرتي، سؤاله عن بيت المعرّي:
فمدّتْ إلى مثلِ السَّماءِ رقابَها * وعَبَّتْ قليلاً بينَ نِسْرٍ وفَرْقَدِ
ما معناه؟ وكيف تمدُّ الإبلُ رقابَها إلى مثل السماء وتشرب بين كوكب النسر والفرقد؟ ومن قائل البيت؟ فأجبتُه؛ لأنّ الدكتور نسي أنه حدثنا عن هذا البيت في محاضرته أول الأسبوع فكان جوابي مما أخذناه عنه، وكانت هذه الإجابة مباركة، إذ جلبت لي جائزة ثمينة، كتابين نفيسين، هما المفضّليات والأصمعيات، بتحقيق العَلمين أحمد شاكر وعبدالسلام هارون، ولم أكن أعرف الكتابين، واليومَ هما من أعز مقتنيات مكتبتي، وعليهما تاريخ تلك الرحلة، وتعليق وجيز، وربما كانت من ثمرات قراءتي فيهما أن أحببت الشعر العربي الأصيل، وتعلّقت بالتراث ومصادره، ومن قصائد المفضليات التي كنت أطيل النظر فيها دالية الأسود بن يعفر النهشلي، ومطلعها:
نامَ الخَلِيُّ وما أُحِسُّ رُقادي * والهمُّ مُحتضِرٌ لَدَيَّ وِسادِي
وعينيّة سويد بن أبي كاهل، ومطلعها:
بَسَطَتْ رابعةُ الحبلَ لنا * فوصلنا الحبلَ منها ما اتسعْ
وقد أطال الوقوف عندها الدكتور الغذّامي في مقرر النصوص الأدبية، وحلّلها تحليلا بديعاً كعادته في تحليل النصوص.
ومن قصائد الأصمعيات فائيّة قَيس بن الخَطيم، ومطلعها:
رَدَّ الخليطُ الجِمَالَ فانصرفُوا * ماذا عليهم لو أنّهُمْ وقفُوا؟
(للحديث صلة.. وسأتحدث في المقالة القادمة عن بقية أساتذتي وبعض المواقف)


* الجامعة الإسلامية.  تويتر / مجمع اللغة الافتراضي @almajma3
جريدة المدينة، ملحق الأربعاء 06/11/2013
 http://www.al-madina.com/node/489208