الأحد، 1 مايو 2016

وزن ثَنْدُوة وأوهام جهابذة التصريف:


وزن ثَنْدُوة وأوهام جهابذة التصريف

         تقول العرب: الثَّنْدُوة والثُّنْدُوة والثُّنْدُؤة والثُّنْدُوءة؛ أربع لغات، وهي لَحْمُ الثَّدْيِ أو أصل الثّدي، وقيل: الثندوة للرجل، والثدي للمرأة، وجمعها ثُنْدُوات وثنادٍ، واختلفوا في وزنها لاختلافهم في نونها، وجمهور البصريين والكوفيين على أن نونها أصلية، وجذرها (ثند) ووزنها: فَعْلُوة، كعَرْقُوَةٍ وقَرْنُوَةٍ، وإن همزت ضممت الثاء فهي فُعْلُلة وقال بعضهم: فُعْلؤة، بأصالة الهمزة أو زيادتها؛ وإن خففت فهي فُعْلُوة، والتفريق بين مهموزها ومخففها في الوزن شنيع، وأشنع منه التفريق بين فتح الثاء وضمها، كما سيأتي.

       قال ابن السكيت في إصلاح المنطق: يقال: هي الثَّنْدوة، بالفتح وترك الهمز، والثُّنْدُوْءة بالضم والهمز، فإذا همزت فهي فُعْلُلة، وإذا فتحت فهي فَعْلُلة أو فَعْلُوَة, قال أبو عبيدة: كان رُؤْبَةُ يهمز الثُّنْدُؤَة والسِّئَة سِيَة القَوْس، والعَرَب لا تهمز واحداً منهما. وقال ابن درستويه في تصحيح الفصيح: فأما الثَّنْدُوة بالفتح فمثل: القَرْنُوة، يريد أنها مثلها في الوزن وأن  نونها أصلية. وقال الجوهري في الصحاح (ثدا): قال ثعلب: الثَّنْدُوة بفتح أولها غير مهموز، مثال التَّرْقُوة والعَرْقُوة، على فَعْلُوة، وهى مَغْرِز الثَّدْي.

      وروى ابن سيده عن أبي إسحاق الزّجّاج أنه قال: ثُنْدُؤة فُعْلُلة وثَنْدُوَة فَعْلُوة ولا تكون فَعْلُلَة؛ لأنَه ليس في الكلام مثلُ فَعْلُل فأما ثَنْدُوَة فمن باب إنْقَحْل وهي فَعْلُوة وهي قليلة.  وروى عن الفارسي: ثُنْدُؤَة بالضَّمِّ والهمز فُعْلُلة رُبَاعِيَّة ولا تكون فُنْعلة لأنّ النُّون لا تُزاد ثانية إلا بثَبَت، ولا تكون فُعْلُؤَة لعَدَم هذا البناء وأما ثَنْدُوة بالفتح وترك الهمز ففَعْلُوَة كتَرْقُوة وذلك لكثرة هذا البناء وأن النون لا تُزاد ثانية إلا بثَبَت ولا يجوز هَمزُها مع الفَتْح لأنّها تكونُ حينئذٍ فَعْلُلَة أَو فَعْلُؤة وكلاهما بناءٌ عَدَم. ولا تكون ثَنْدُوَة فَعْلُلة لذلك أيضا وأن الواو لا تكونُ أصلا في الأربعة.

        فوزنها وجذرها عندهم يتغير بتغير لغاتها، كما يظهر في رأي الزجاج المشار إليه في كلام ابن سيده، وهو قوله: فمن قال: ثُنْدُؤة فهي فُعْلُلة ومن قال ثَنْدُوَة فهي فَعْلُوة: فَنْعُلة. وهذا من أوهام الصناعة ومضايق القياس، واللغة ليست عقلًا وقياسًا جامدًا.

       والحقيقة أنهم أخطأوا خطئين عجيبين: الأول: أنهم تجاهلوا الاشتقاق من أجل قاعدتهم الواهية: النون الثانية لا تكون زائدة إلا بثبت!! والثاني: تفريقهم في وزنها وجذرها وواوها بين لغتين من لغاتها ثُنْدُوة وثَنْدُوة.

       والصحيح أن النون في ثَنْدُوة ولغاتِها زائدة، فالثَّنْدُوة: فَنْعُلة، والثُّنْدُوة: فُنْعُلة، والثُّنْدُؤَة: فُنْعُلة لا فُعْلُؤة ولا فُعْلُلة، والثُّنْدُوءة: فُنْعُولة؛ لأنّ اشتقاقهن من الثَّدْي، ولا يُقدم على الاشتقاق حين يكون ظاهرا جليا شيء من الأقيسة الصرفية، ويؤيد هذا قولهم في تصغيرها: ثُدَيّة، بحذف الزائد، وهو النون، ولو كانت أصلية لقالوا: ثُنيدة، وأما قولهم في جمعها ثنادٍ فهو مما جاء على باب شبه مفاعل، ووزنه الصرفي: فناعل، كجنادب وخنافس. ومكان (الثَّنْدَوة) ولغاتِها في المعاجم هو الجذر (ثدي) لا (ثند) خلافا لأكثرهم، ووضعها بعضهم في (ثدأ). ووضعها ابن فارس في المقاييس في (ثدي) وهو الصحيح، ووضعها ابن منظور في الأصلين: (ثند) و(ثدي)، ولم أجد في هذه المسألة أحسن من قول الزمخشري في الفائق: ((الثُّدية: تصغير الثَّنْدُوة بتقدير حذف الزَّائد الذي هو النُّون لأنّها من تركيب الثدي وانقلاب الياء فيها واواً لضمّة ما قبلها، ووزنها فَنْعُلة، ولم يضرّ لظُهُور الاشتقاق ارتكابُ الوزن الشّاذّ كما لم يضرّ في إنقحل)).

      وما إصرارهم على أصالة النون مع ظهور الاشتقاق إلا لتسلم لهم قاعدتهم في النون الثانية، وهو يكرنا بإصرارهم على أن اليَسْتَعُور فَعْلَلُول وإصرار بعضهم كأبي علي الفارسي على أن اليَنْجَلب فَعْلَلِل كالجحمرش، ولعمري أي دليل أقوى من الاشتقاق عند ظهوره؟ أليست الثَّنْدُوة من الثدي؟

     وما تفريقهم بين لغتي: ثُنْدُوة وثَنْدُوة في الوزن وجعلهم الأولى فُعْلُلة والثانية فَعْلُوة إلا لتسلم لهم قاعدة النظير، وهذا  غاية في الضعف والبعد عن روح اللغة وطبيعتها الاشتقاقية العفوية، فاللغة ليست قياسًا جامدًا في كل أحولها، وليست قوالب صمّاء، ولكنها اشتقاق واستعمال يجري كالنهر على هواه، فيجب أن يكون التصريف مرنا مرونة اللغة. والطريف أن رغبتهم في المحافظة على قاعدة النظير أوقعتهم في كسر قاعدة أقوى منها، وهي أن حرف العلة لا يكون أصلا إن كان مصحوبا بثلاثة أصول مقطوع بأصالتها، أو لا يكون أصلا في الرباعي في غير باب وسوس، فهربوا بذلك من عدم النظير إلى عدم النظير!!

عبدالرزاق الصاعدي

المدينة المنورة
21/ 7/ 1437هـ