الأربعاء، 17 أغسطس 2016

الفرق بين التقويم والتقييم: تصويب ورأي خاص:

الفرق بين التقويم والتقييم: تصويب ورأي

قَوَّمَ الشيءَ وقيَّمَه

       جاء في العربية الفصحى قولهم: قوّمَ الشيءَ المعوَجّ تقويمًا؛ أي: عَدَل ميلَه، ومن مجازه: قوَّمَ لسانَه، وجاء في العربية المعاصرة وجاء في كتابات كثير أهل العلم والأدب قولهم: قيَّمَ السلعة؛ أي: قدّرَ قيمتها بثمن معلوم، وقيّمتُ البحثَ تقييمًا، إذا قدّرت قيمته العلمية، ورأيتُ بعض من علماء العربية يخطّئون هذا، ويرون أنّ صواب الفعل هنا: قَوَّمْتُ بالواو؛ لأنّه واويٌّ، ولم يرد في العربية التي يحتجّ بها: قَيَّمَ من القيمة، وإنّما قَوَّمَ؛ وأصل القِيمة: القِوْمة، على وزن فِعْلة، فقلبت الواو ياء للكسرة قبلها، وفعلها القياسي: قَوَّمَ لا قَيَّمَ كما قد يُتوهّم، ولم يصل إلينا شيء عن العرب في عصور الفصاحة فيه تفريق بين قَوَّمَ ميلَ الشيءِ المعوجِّ وقَوَّمَ الشيءَ ليعرف مقدار قيمته.
       وعلى الرغم من ذلك ففي التمسّك بهذا التصريف المتماثل في المعنيين - وإن كان يجري على الأصول - تعطيل لمرونة العربية وشجاعتها في باب منع اللبس أو باب التوهّم، ولذا أجاز مجمع القاهرة اشتقاق الفعل اليائي من القيمة، فيقال قيَّمَ الشيءَ تقييمًا، ثم مَعجمها في معجمه الوسيط، وهذا سائغ لكن على التوهم، ومجمع القاهرة يحمله على الاشتقاق من الاسم الجامد القِيمة، ولم يشر إلى التوهّم.

     وأنا أستحسنُ التفريق بين التقويم والتقييم، وقوّم وقيّم، لكثرة شيوع القِيمة ولمنع البس بين معنيين مختلفين، مع ذكر العلل على الوجه الآتي:
1- يقال من التقويم؛ أي: تعديل الميل وإصلاح العِوَج: قَوَّمَه تقويما، على مذهب الفصحى فيه، وجاء في القرآن: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسْاَنَ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاه أسْفَلَ سافِلِين} ومنه قول محمد بن حازم الباهلي ويروى لغيره:

فمَنْ شاءَ تَقْوِيمي فإنّي مُقوَّم     ومَنْ شاءَ تَعْوِيجي فإنّي مُعَوَّجُ

وليس في هذا أدنى خلاف.

2ويجوز أن يقال من القِيمة: قَيَّمَ الشيءَ تقييمًا، بمعنى قدَّرَ قيمته، وله وجهان في التأويل:

أحدهما: أنه مشتقّ على التوهّم؛ لأنّ ظاهر الياء في القِيمة يوهم أنها أصليّة، كما توهّموا أنّ الياء العارضة في العِيد أصلية فصغّروه على عُيَيد، وكسّروه على أعياد، واشتقوا منه فعلا يائيًّا، فقالوا: عَيَّدَ الناسُ أي؛ أي دخلوه في العيد.

والآخر: أنهم التزموا فيه الياء التماسًا للفَرْق بَيْنَهُ وبين أعواد الخَشَب، منعًا للبس. والقياس أن يقولوا في تصغير العِيد: عُوَيد، وفي جمعه: أَعْواد، وفي فعله: عَوَّدَ، بالواء في هذا كلّه، لأنّ أصل العِيد: العِوْد، كالقِيمة أصلها القِوْمة.
            
     ومن التوهّم أن عمارة بن عقيل اشتقّ من الريح: الأرياح، وقال جذبني إليها طبعي، وقياسها: الأرواح؛ لأنّ الرّيح واوية، ونظير هذا في التوهم جمعُهم المِيثاق على مَياثق، والمِيثَرَة على مياثر، والمِيسَم على مَياسم، وجاء ذلك عند بعضهم على أصله، حتى اختلط الفرع بالأصل، فخيَّرَ في بعضه الجوهري، قال: ((والميسم: المكواةُ، وأصل الياء واوٌ. فإن شئت قلت في جمعه مياسم على اللفظ، وإن شئت قلت مَواسِمُ على الأصل)). (الصحاح (وسم) 2051).

ومن أقدم ما ورد من الإشارات الصّريحة عن (التّوهّم) ما عزاه سيبويه للخليل في جمع (مُصِيَبةٍ) قال: ((فأمّا قولهم: مَصَائِب فإنّه غلط منهم، وذلك أنّهم توهّموا أنّ مُصِيبَةً فَعِيلَةٌ، وإنّما هي مُفْعِلَةٌ)) ثمّ نجد كلمة ((التّوهّم)) ترد بهذا المعنى عند بعض اللّغويّين فيما بعد؛ كالأزهري، وابن جنّي، والجوهريّ، والصّغاني. ومن ذلك كلمة ((مَسِيلٍ)) وهي اسم مكان على وزن (مَفْعِل) من: سَالَ يَسِيلُ، وأصلها (س ي ل) وقياس جمعها: مَسَايِل؛ فلمّا شاعت الكلمة توهّموا أصالة ميمها؛ فحملوها على راء (رَغِيفٍ) فقالوا في الجمع: أمْسِلَة ومُسْلاَن؛ كقولهم: أَرْغِفَةٌ ورُغْفَان. وكان الأزهريّ يحملها على التّوهّم، ويرى زيادة الميم؛ خلافا لابن جني، وتوهّموا أصالة الميم في المكان؛ فقالوا في جمعه: أمْكِنَةٌ، وأصله (مَفْعَل) من: كان.

       والخلاصة أنّ من قال: قَوَّمَ الشيء بمعنى قدّرَ قيمته فقد جاء به على الأصل، ومن قال قيَّمَه تقييمًا؛ أي: قدّر قيمته فقد جاء به على الفرع، أعني التوهّم المشار إليه، وهذا -أي التوهم- أحسن عندي من الأصل؛ لأنّ فيه تفريقًا بين معنيين مختلفين، ومنعَ لبس. والتوهّم باب يدلُّ على شجاعة العربية، ومثله باب مخالفة الأصل لمنع اللبس.
ومن منهجي في اللغة الميل إلى التيسير الذي لا يصادم معايير العربية فآخذ بالأيسر بشرطين؛ أولهما: أن يكون للأيسر وجهٌ في العربية يمكن أن يحمل عليه. وثانيهما: أن يكون جاريًا على ألسنة الناس أو الكُتّاب لحكمة ما، ولهذا أستحسن تفريق العامّة بين الذكر والأنثى في النعت من لفظ العرس، فيقولون للرجل (عريس) وللأنثى (عروس) خلافًا للمأثور عن العرب، فالعَرُوسُ عندهم: نَعْتٌ يَستوي فيه الرجلُ والمرأة.

ثم إن الذين يحتجّون بالسّماع يتمسّكون بحجة واهية؛ لأنهم لا يزعمون أنّ اللغة دوّنت كلها ووصلت إلينا كاملة فصحاها وفصيحها مما جرى على ألسنة العرب وقبائلهم المختلفة في عصور الاحتجاج، فإن زعموا كمال المروي عنهم فزعمهم منقوض عقلا ونقلا.

عبدالرزاق الصاعدي
14/ 11/ 1437هـ