الجمعة، 29 يونيو 2018

العربية لغةٌ الشعر.. أهي لغة مقدّسة؟:


العربية لغةٌ الشعر.. أهي لغة مقدّسة؟

في عصر المعلقات حين كان الزمان على أعتاب البعثة المحمدية وحين كان العصرُ الجاهلي على وشك الانطواء ليبدأ عصرٌ جديد مختلف بَلَغتِ العربيةُ مرحلة نضجها وكمالها النحوي والصرفي، وحسنها الأدبي والبلاغي، وكانت متهيّئة لأمرٍ خطير، أراده الخالق عز وجل، فحين انتقل العرب من الجاهلية إلى نور الإسلام انتقلت هي من لغة أرضية إلى لغة سماوية خالدة، لغة لآخر كتاب مقدّس، لقد نزل بها القرآن الكريم (بلسان عربي مبين) فتحولت منذ ذلك الوقت من لغة للمعلقات إلى لغة مقدسة موعودة بالحفظ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وهي لغة موعودة بأن تكون لسان أهل الجنة، فتحولت إلى لغة ذات قداسة، بحق، يثاب متعلمها حين ينويها لدينه وعبادته، وجاء في بعض الأحاديث الضعيفة: أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة في الجنة عربي، وفي رواية: وكلام أهل الجنة عربي (أخرجه الحاكم، والهيثمي في مجمع الزوائد)
وكان عمرُ بن الخطاب - رضيَ اللهُ عنه - يحُثُّ على تعلّمِها ويقول: ((تعلّمُوا العربيةَ، لأنّها تَزيدُ في العقلِ والمروءة)) وكانَ يأمرُ بروايةِ الشعر العربي، ويقولُ : ((إنّه  يدلُّ على مكارمِ الأخلاق)).

إنَّ العربية هي إحدى مفاخر هذه الأمة، لأنَّها لغةُ القرآن، وهي سرٌّ  من أسرار انتشارِ الإسلامِ في ربوعِ المعمورة، وهي ـ أيضا ـ سرُّ بقائِنا ورقِيِّنا كأمّةٍ متميزةٍ لها ثقافتُها وحضورُها، فاللغةُ العربيةُ باعثةُ الحضارةِ الإنسانية، وجامعةُ الشعوبِ الإسلامية، وهي للمسلمين رابطةٌ قويةٌ... وتعلمُها فرضٌ واجب ، لأنّها من الدين، وما لا يتمُّ الواجبُ إلاّ به فهو واجبٌ كما يقولُ شيخُ الإسلامِ في اقتضاءِ الصراطِ المستقيم.

لقد عَرَفَ عظمةَ العربية مَنْ اطّلعَ عليها وتعلَّمها وغاصَ في أسرارِها من العربِ في القديمِ والحديث، ولا عجبَ في أنْ يشهدوا بعظمتِها لأنَّهم أهلُ اللغة، لكنَّ الملفتَ أنْ تأتيَ شهاداتُ التقدير لهذه اللغةِ من غيرِالعرب، أن تأتيَ من عددٍ من المستشرقين،  والاطلاعُ على شهاداتِهم وهم من غيرِ أهلِها له طَعْمٌ آخر، لأنّهم عرفُوا قيمةَ لغتِنا وهم ليسوا منّا.
ومن أجمل ما قيل في هذا الشأن كلمةٌ للمستشرقة الألمانية زغريد هونكه قالت فيها: ((كيف يستطيعُ الإنسانُ أن يُقاومَ جمالَ هذه اللغة ومنطقَها السليم وسحرَها الفريد؟ فجيرانُ العرب أنفسُهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى لسحر تلك اللغة ، فلقد اندفعَ الناسُ الذين بقوا على دينِهم في هذا التيار يتكلمون اللغةَ العربيةَ بشغفٍ، حتى إنَّ اللغةَ القبطيةَ مثلاً ماتتْ تماماً، بل إنَّ اللغةَ الآراميةَ لغةَ المسيحِ قد تخلّتْ إلى الأبد عن مركزها لتحْتلَّ العربيةُ مكانَها)).

فمن واجبنا أن نعلي شأنها في نفوسنا وفي نفوس أبنائنا، وأن نجعل تعلّمها وإتقانها قربى إلى الله عز وجل، وأن نخلص النية حين نخدمها، وأن ننظر إلى المتخصصين فيها نظرة احترام وتقدير وإجلال، فقد كان التحدث بها في يوم ما في أسبانيا (الأندلس) علامة على غزارة الثقافة وسعة الأفق، ومن غير اللائق بأهل لغة (مقدسة) ثرية وعريقة بتاريخها أن ينبهروا باللغات الأجنبية ويتنافسوا في تعلمها على حساب لغتهم وثقافتهم.. والله المستعان.

ما فعله سيبويه في كتابه لم يكن عملًا بشريًّا محضًا!! ثمّة إلهامٌ سماويٌّ كان يحوطه وعناية ربّانية ترعاه.. كان طفرة عظيمة في تاريخ العربية. ومن يقرأ لسيبويه بعمق ويقف على إحاطة كتابه وغوصه على أدقّ الدقائق في العربية نحوًا وتصريفًا يدرك معنى الهبة الإلهية، وبعض العلوم أو المعارف هِبات وإلهام. ولو كانت علوم العربية القديمة هشّة ضعيفة لما صمدت 14 قرنا.. ولعل النحو لا يخلو من إلهام لاتصاله بالقرآن، وفي كتاب سيبويه ما تحار فيه العقول.

 نشر لأول مرة في جريدة المدينة ، ملحق الرسالة الجمعة 1434/6/2 هـ 2013/04/12 م العدد : 18251