الأربعاء، 4 يوليو 2018

وَهْمُ الجوهري في «يُوْجِعُني رأسي» والوهم في المعاجم كالجَرَب يُعْدِي!:


وَهْمُ الجوهري في «يُوْجِعُني رأسي» والوهم في المعاجم كالجَرَب يُعْدِي!

منع الجوهري (ت 392هـ) أنْ يقال: «يُوجِعُني رأسي» بضمّ الياء وكسر الجيم، قال في الصحاح مادة (وجع) 3/ 1295: إن قلت: «فلانٌ يَوْجَعُ رأسَه، نصبتَ الرأس، فإن جئتَ بالهاء رفعتَ، فقلتَ يَوْجَعُهُ رأسُه، وأنا أيْجَعُ رأسي ويَوْجَعُ رأسي، ولا تقل يُوجِعُني رأسي، والعامَّة تقوله».

ومُرادُهُ أنّ العرب تجعل هذا الفعل في وَجَع الرأس ثلاثيًّا مجرّدا، وهو وَجِعَ يَوْجَع، وذكر فيه قبل هذا النص لغات في الثلاثي، ولم أذكرها هنا؛ لأن الذي يعنيني هو منعه المزيد بالهمزة من هذا الفعل وَجِع، وهو: أَوْجَعَه، فلا يقال عنده: أَوْجَعَه رأسُه يُوْجِعُه، -بضم الياء وكسر الجيم- وإنما يقال: وَجِعَهُ رأسُهُ يَوْجَعُهُ. فإن قيل: لعلّ مُراده بالمنع: يُوْجَعُ -بضم الياء وفتح الجيم- قلتُ: هذا غير واردٍ، لأمور:

أوّلها: أنه حين ذكر اللغات المسموعة الثابتة عنده في الفعل (وجع) ذكر ما ورد فيه من لغات، وهي: وَجِعَ، ومضارعه: يَوْجَع ويَيْجَع وياجَع ويِيجَع، ولم يذكر الرباعي (أوجعه) في أوجاع أعضاء الجسد. ويؤيّد هذا أن مصادره لم تذكر هذا الرباعي في أعضاء الجسد، وأن ثمة مصادر قريبة من زمانه لم تورده في ألم الأعضاء، ومنها الأفعال لابن القطاع، ولذا استدركه السرقطي كما سيأتي في نصّه لاحقًا.

وثانيها: أنه لو أراد (يُوْجَع) –بضم الياء وفتح الجيم- لنصّ عليه؛ لأنه تركيب صرفي فاسد، على صورة المبني للمجهول (يُوْجَع) وهذا التركيب لا تأتي معه ياء المتكلم، فالعرب لا تقول: (يُوْقَفُني) و(يُخْرَجُني) و(يُكْرَمُني) والعامة في زمان الجوهري قريبو عهد بعصر الفصاحة، فلا يقع منهم مثل هذا التحربف الصرفي الشنيع، ولو أراد ذلك لنص عليه، لغرابته وشناعته، ولنصّ عليه الصغاني حينما قيّده بقوله: ((بضم الياء)) ولو كانت الجيم مفتوحة لنصّ عليها لغرابتها، وكذلك الفيروزي اكتفى بالنص على ضم الياء، وسكت عن الجيم، لأنهم يتكلمون عن الرباعي، وحركة الجيم معلومة، وهي الكسر، فيكفي أن ينصوا على ضم الياء، على منهجهم إذ لا يفصّلون في الواضحات، ويكفي في البنية أن يشار إلى حركة الياء، فيعلم الباقي.

وثالثها: أنّ قوله هنا يناسب أسلوبه في التنبيه على غير المسموع، فلو تأملنا ما يرد عنه في قوله ((ولا تقل)) سنجده يأتي بهذا في مواضع منعِ غيرِ المسموع، وبعضه مما تتكلم به العامّة وله وجه في التصريف، كقوله: (صدق) 4/ 1506: ((ولا تقل يَتَصَدّق، والعامّة تقوله)) ومثله (أهل) 4/ 1629: ((فلان أهل لكذا، ولا تقل: مستأهل، والعامة تقوله)) فهذا وأمثاله هو مما يصحح في الصناعة الصرفية ولكنه يمنعه لأنه غير مسموع، ومما يشبه مسألتنا منعه الرباعي المزيد بالهمزة، كقوله في مادة رعب 1/ 136: ((الرُّعْبُ: الخوف، تقول منه: رَعَبْتُهُ فهو مرعوب، إذا أفزعتَه؛ ولا تقل: أرْعَبْتُهُ)).

ورابعها: أن مطبوعات الصحاح والنسخ الخطية التي أطّلعت عليها، مضبوطة ضبط قلم بكسر الجيم، على ظاهر النص، وكذلك في العباب النسخة التركية، وهي التي بين يدي، وكذلك مضبوط في مطبوعات تهذيب الصحاح ومختار الصحاح واللسان والتاج.  


نعم، فهل أصاب الجوهري في تلحينه: أَوْجَعَهُ رأسُهُ يُوْجِعُه؟ وهل وافقه من جاء بعدَه أو خالفه؟ هذا ما أردت الإجابة عنه وتحقيقه في هذه الورقة الوجيزة. فأقول: إنّ الرجوع إلى المعاجم التي جاءت بعد الجوهري ونقلت عنه يُبين عن موافقتهم إياه في حكمه، أو على الأقل السكوت عن الردّ عليه، فهذا الصاغاني (ت 650هـ) وهو من كِبار المعجميين ومن محققيهم ينقل في العباب كلام الجوهري، وينصّ على موضع اللحن ويقيّد زيادة في الإيضاح، قال: «... ولا تقل يُوجِعُني رأسي، بضمّ الياء، والعامَّة تقوله» فعبارة: «بضمّ الياء» زيادة من عنده.

وارتضى الزنجاني (ت 656هـ) في تهذيب الصحاح (رجع) 2/ 513 هذا الحكم وأعاد نقله والنص على تلحينه وعامّيته، ومثله أبو بكر الرازي (ت بعد 666 هـ) في مختار الصحاح (وجع) 305.

وأما الفيروزي (ت 817هـ) فمن عادته في القاموس الاعتماد على الصغاني، فالتقط زيادته في العباب، حين قال: «بضمّ الياء» وجعلها: «وضَمُّ الياءِ لَحْنٌ»؛ قال: «ويَوْجَعُ رأسَه، بِنَصْبِ الرأسِ، ويَوْجَعُه رأسُه، كيَمْنَعُ، فيهما، وأنا أَيْجَعُ رأسي ويَوْجَعُني رأسي، وضَمُّ الياءِ لَحْنٌ» مع أنه قال بعد سطرين من هذا الحكم الصريح: «وأَوْجَعَه: آلمه» ولم ينتبه، ربما لأن هذه النص من المحكم لابن سيده، فكان كالتي نقضت غزلها، فمضارع أوجعه يُوجِعُه، ووجع الرأس أَلَمٌ، وقال قبل سطرين من هذا: إن يُوجِعُهُ لحن، فإن قال قائل إن اللحن في وجع الرأس خاصة، قلت إن الرأس كسائر الأطراف في الوجع، وسيرد مزيد إيضاح ونصوص وشواهد في هذا، وظننتُ أنَ الشارحَ الزَّبيديَّ (ت 1205هـ) لن يمرّر له هذا، ولكنه اكتفى هنا بالقصّ واللزق، من المعاجم قبله، وقال: «ويَوْجَعُنِي رَأْسِي، ولا تَقُلْ يُوجِعُنِي، فإنَّ ضَمّ الياءِ لَحْنٌ وهِيَ لُغَةٌ العامَّةِ» ويبدو أنّ  شيخه ابنَ الطيب الفاسي الشرقي (1172هـ) كان مثله في ذلك، ولو قال شيئا لنقله عنه كعادته.

ونقله ابن منظور (ت711هـ) في اللسان واكتفى بالنقل على منهجه، وسكت عنه الصفدي (ت 764 هـ) وهو المتتبّع لأوهام الجوهري في كتابه (نفوذ السهم فيما وقع فيه الجواهري من الوهم) ولم يُنبّه فيه بشيء، ويُفهم من ذلك أنه يوافقه أو ليس لديه اعتراض.  

فهؤلاء تسعة من علماء اللغة الكبار، وهم الجوهري (392هـ) والصّغاني (650هـ) والزنجاني (656هـ) وأبو بكر الرازي (666هـ) وابن منظور (711هـ) والصفدي (764هـ) والفيروزي (817هـ) وابن الطيّب الفاسي (1172هـ) والزَّبيدي (1205هـ)، يمنعون أن يقال: «يُوجِعُني رأسي» ويعدّونه من لحن العامّة! ويوافقهم من المعجميين المعاصرين أحمد رضا العاملي في معجمه (متن اللغة) قال: «ويَوْجَعنى رأسي، ولا تقل: يُوْجِعُني، فإنه لحنٌ عامّيّ» فيكون عاشرَهم.

وحين نعود إلى منبع هذا الخلل، وهو الجوهري، نجده يناقض نفسه، ويقول في مادة (قعنس) «وإن اسْتَقى بغير بَكرَةٍ ومَتَحَ أوْجَعَه ظَهْرُه، فيقال له: اقْعَنْسِسْ واجذِبِ الدَّلْوَ» والظهر كالرأس في هذا، ومضارع أوْجَعَهُ: يُوْجِعه، وهو ما منعه بعينه في مادة (وجع) ونقل هذا أيضا- الصغاني بنصه، ويلزمه التناقض مثلهما، أعني الجوهري والفيروزي.

يُوْجِعُني رأسي مسموعة ومرويّة قبلهم:

رأينا أنّ عشرةً من المعجميين يمنعون أنْ يقال: «يُوْجِعُني رأسي» بضمّ الياء، ويعدّونه من لحن العامّة، ومن لازمِهِ منعُ ماضيه: «أَوْجَعَه رأسُه» فهل أصابوا في حكمهم؟ أو وهموا؟ وعند الرجوع إلى المصادر الأقدم سينكشف لنا وهمُ المانعين، فهذا الفعل عربي مسموع في زمن الفصاحة، ومنقول في معاجم بعضها أقدم من الجوهري وبعضها بعده، وهو مسموع في وجع الرأس ووجع الأعضاء في جسد الإنسان،  قال الخليل في العين 2/ 186: «ويُوجِعُني رأسي»، هكذا ضبطه محققوه، فإن قيل: لعلّهم وهموا في ضبطه فأقول: قال أبو بكر الزُّبيدي في مختصر العين  (وجع) 1/ 195: «وأَوْجَعَه رأسُهُ يُوجِعُه، وأوْجَعْتُهُ ضربًا» وهذا صريح، لا حاجة له بضبط.

وروى أبو عمرو الشيباني في الجيم 3/ 296 عن الأعرابي السّعدي، قال: «وقال: وَجِعْتُ كذا وكذا ما كان، وأَوْجعنِى كذا وكذا، وأَوْجَعَ فُلانًا رأْسُه وظَهْرُه وما كان» وهذا صريح.

وقال ابن فارس: «وأنا أَوْجَعُ رَأسِي، ويُوجِعُنِي رَأْسِي» وهكذا ضبطه عبدالسلام هارون.

وقال أبو عثمان السرقسطي في كتاب الأفعال 4/ 225: «يقال: أَوْجَعَ رأسَه يُوْجِعُه، وأَوْجَعَهُ رأسُه، أو بطنه» وهذا نص صريح.
وقال نشوان الحميري في شمس العلوم «أوْجَعَهُ فوَجِعَ، وأوْجَعَه رأسُه.»

ومثل الرأس في الوجع الظهر والبطن وسائر الأعضاء في الجسد، قال أبو زيد الأنصارِيّ في (نوادره): «يُقَال: قامَ بي ظَهرِي، أَي: أوجَعَني؛ وقامَت بي عَينايَ؛ وكلُّ ما أوجَعَكَ من جَسَدك فقد قامَ بك» (النص في التهذيب والتكملة للصغاني مادة (قوم) ولم أقف عليه في النوادر).

وقال أبو بكر الأنباري في شرح المفضليات 869 «والعَرَب تقول: لأُوْجِعَنَّ قُرْبَيك؛ أي: خاصِرَتَيك إلى الإبطِ منك» هكذا ضبطه المحقق المستشرق كارل لايل، وضبطه محقق (الدلائل في غريب الحديث) بفتح الألف والجيم، ولا شاهد فيه حينئذ.

وقال أبو عليّ القالي في البارع (قوم) 515: «يُقال: قام بي ظَهري؛ أي: أَوْجَعَني، وقامت بي عيناي ويداي؛ أي: أَوْجَعَتْكَ عيناك، وكل ما أَوْجَعَك من جسدك فقد قام بك»

وقال الفارابي في ديوان الأدب 3/ 160: «وأَمَضَّني الجُرْحُ، أي: أَوْجَعَني»، و«آلمَهُ، أي: أوْجَعَه».

وقال ابن سيده في المحكم (وجع) 2/ 205: «وَجِعَ وَجَعًا فهو وَجِعٌ، من قوم وَجْعَى ووَجاعَى ووِجاعٍ وأوْجاعٍ، وأوْجَعْتُه أنا، ووَجِعَ عضوَهُ: ألِمَه، وأوْجَعَه هُوَ». والرأس من الأعضاء.

تلك نصوص صريحة في مصادر عالية، وهي وحدها كافية وافية،  فإن أردنا طلب الشواهد فإننا نجد طائفة لا بأس بها، منها قول أبي حيّة النميري (البيت في شعره 140 عن الحيوان، وانظر: إيضاح شواهد الإيضاح 1/ 79، والمصباح لابن يسعون 1/ 170):
وقد جعلتُ إذا ما قُمْتُ يُوْجِعُني       ظهري فقمتُ قيامَ الشّاربِ السَّكِرِ

وقول الأخطل:
يعوذونَ بالسلطانِ مِنّا وكُلُّهُمْ       كذي الغارِبِ المنكوبِ أوْجَعَهُ الوَقْرُ

وقوله أيضا:
دامي الخياشيمِ قد أوْجعْنَ حاجبَهُ        فهوَ يعاقبُ  أحيـــاناً  فينتصرُ

وقول ذي الرمّة:
إِذَا أَوْجَعَتْهُنَّ الْبُرَى أَوْ تَنَاوَلَتْ       قوى الضَّفرِ عنْ أعطافهنَّ الولائدُ

وقول الشمّاخ بن ضرار، وهو من المجاز:

إذا أنبضَ الرّامون عنها تَرَنَّمَتْ        تَرُنَّمَ ثكلى أَوْجَعتْها الجنائزُ

ومما يؤنس به إضافة إلى ما تقدم من نصوص العلماء والشواهد تثبت صحّة هذا الفعل المزيد «أوجعه رأسه يُوجِعه» بضم الياء في المضارع = أنه هو اللغة الغالبة في لهجاتنا في الجزيرة العربية اليوم، نقوله وسمعناه عن آبائنا وأجدادنا البدو الذين ورثوه عن آبائهم وأجدادهم.

نعم، فيتضح بعد هذا العرض بطلان حكم الجوهري في «يُوجِعُني رأسي» ويظهر خطؤه في عزوه إلى العامَّة، فكيف وافقه تسعة من المعجميين مع وجود نصوص صريحة لعلماء ثقات وشواهد تنقض زعمهم؟

عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة
 20 شوال 1439ـ الموافق 4 يوليو2018م