الجمعة، 24 فبراير 2023

يقرأ من اليسار ! (١)

 يُقرأُ مِنَ اليَسار!  (1)

 

تتباين اللغات في طريقة القراءة ، ومنشأ البدء ،، فمنها ما يكون ابتداؤه من اليمين كلغتنا العربية، ومنه ما يكون من اليسار كالإنجليزية ،، ولأن هذه المقالة مكتوبة باللغة العربية فحتما ستكون القراءة فيها من اليمين ، كما تفعله أنت أيها القارئ.

ماذا لو واصلت مشوار القراءة معي هنا، ثم في نقطة معينة غامضة، عصيّة على الظهور عند كثيرين، اكتشفتَ لوحدك أنك ستنتقل للقراءة من اليسار، وأما غيرك فقد فاتتهم اللمحة المشعّة التي انقدحت في ذهنك فنقلتك تلقائيا إلى اليسار.

وسأسرد شيئا من الحكايا وأورد شذرات من الأفكار، وأتحدث عن بعض الشخصيات من العرب والعجم، فكُنْ على درجة بالغة من التركيز، حتى توافق تلك اللحظة المستبطنة في تضاعيف هذهالمقالة.

ولربما سألتني سؤالا مهما ،، مفادُه: هل من أهمية لكشف تلك اللحظة؟. هل من عائد مجزٍ يعود عليّ؟. لمَ تتعبني في استجماع القوى حتى أظفر بلحظتك الحالمة والتي فاتت الجاحظ وطويت عن التوحيدي المعرّي لا يدخل معنا فهو رهين محبسه- بل لم تظهر لواحد من يهود أوربا في لغتهم اليدشية أو من كان منهم عارفا بالعبرية أو السريانية، ولا في حذّاق الفرس في فارسيتهم ومن جاورهم من البشتو والأردو؟ .

وقبل أن أعطيك المجال لتتحدث - الكلام للقارئ- أود أن أعكس السؤال هل سبق أن ظهرت لجوته أو فولتير أو كافكا لحظة قرائية أشارت إليهم سريعا بالانتقال إلى اليمين ؟ أو أن هذا خاصّ بنا، واللحظة يساريةثابتة كضربة لازب.

ثم آتي أنا القارئ العربي المسكين ليفتحَ سمسمُ أبوابَ لحظته، فأتجهُ ذاتَ اليسار مع فقري وعدم يساري؟!

انتهى سؤال القارئ ، وحتما من حقّه أن أجيبه ، ولكن ربما من حقّي أيضا أن أؤخّر الإجابة ، فقبلها كلام مهم ، ومن أهميته أنه مفتاح الإجابة وركيزتها.

على أنك أيها القارئ ما شرعتَ في قراءة هذه المقالة إلا وأنت تملك بعض الثقة في كاتبها، فلِم َهذا الاهتزاز وعدم الوثوقية، حتى أحسستَ بأنك ستصرف جهدا في مقابل شيء غامض؟ .. صدقني:أنت تجعل من هذا مغامرة ممتعة ورحلة ماتعة، وسيهوّن عليك الأمر، وسيرفع معدل التفاؤل عندك، وستكون أقرب من غيرك لالتقاط رأس اللحظة وقُرونها قبل أن تقع كاملة بين يديك أو مقابل عينيك.

هيّا توكل على الله، وواصل فستقرأ بعد قليل أخبارًا مدهشة عن التوحيدي في سيرته المتقلّبة، وذكائه المبهر، وتضاربِ آراء الناس في صدقه أو كذبه وإيمانه أو .....  ، وضعت تلك النقاط لأنّ رمي الناس بالاتهامات الكبيرة ليس من جبلتي وطبيعتي ولا من ما تعلمته خلال مشوار التعلم في حياتي.

من قرأ الإمتاع والمؤانسة عرف أدبَ الرجل ومكانته في العربية، وسيرتفعُ أكثرَ في عين القارئ حين يُتبع الإمتاع بالبصائر والذخائر، وهو مشوار ليس باليسير، فعشرة من المجلدات بحاجة إلى وقت يناسبها، ولقد أحسنت المحققة وداد قاضي في تحقيق هذا الكتاب، ولربما كان أبرز عمل قدمته، وافتخرت به ومازالت _ وداد ما زالت على قيد الحياة حتى كتابة هذه الأسطر في حدود علمي _ ومن قرأ مقدمتها وعرف الجهد الذي بذلته أدرك ذلك لا محالة. ولقد أثنى أستاذها المحقق الكبير والعالم الفاضل إحسان عباس على جهدها، وكان له دور في خروج هذا العمل، فقد كان يمدّها بعدد من المخطوطات والوثائق المهمة والنادرة، حتى خرج العمل زهيا مبهجا .

عودة إلى كتب التوحيدي فليس الكتابان السابقان هما فقط ما يمكن أن يثنى بهما على التوحيدي ، أمامك كمٌّ كبير من نفائس ما كتب في تاريخ النثر الأدبي: الصداقة والصديق، وأخلاق الوزيرين ، والمقابسات، والهوامل والشوامل وغيرها كثير !

على كل حال لا أود أن أسترسل في الكلام عن التوحيدي ، ولكني سأنقل لك قطوفا من عباراته المحلّقة التي لا يكتبها أيّ أحد وستكون مرقمة كما يأتي :

1- من ابتهالاته لربه : ( اللهم إني أسألك خفايا لطفك، وفواتح توفيقك، ومألوف برّك، وعوائد إحسانك، وأسألك القناعة برزقك، والرضا بحكمك، والنزاهة عن محظورك، والورع في شبهاتك ).
2- في وصف الصوت الجميل : ( إن الصوت الجميل يسرقك من نفسك و يعيدك إليك .. يأخذك و يردك) ..
3- وفي شان الحوار والنقاش مع الأصدقاء : ( إنّ في المحادثة تلقيحًا للعقول، وترويحًا للقلب، وتسريحًا للهمّ، وتنقيحًا للأدب) ..

 

كان من إشكالات التوحيدي أنه ربما قصد شيئا فعاد بالضرر عليه و بغير ما أراد ، فحين أراد بيان تألهه ورغبته فيما عند الله في تلك الالفاظ المفعمة بالإيمان كما في ابتهالاته الكثيرة، إلا أنّ حشوه في كتبه ببعض عبارات التردد والتشكيك، جعلت كثيرين يتهمونه بالزندقة، فجمع بهذا بين الإيمان وضدّه ، ونال الثناء والقدح معا.

يذكرني هذا بكلام بورخيس عن بعض الكتب التي يريد صاحبها شيئا وتأتي بخلافه (قبل أن أكمل مقولة بورخيس ربما تساءلتَ هل مرتْ لحظة الانتقال، ففاز بها غيرك وخسرتَها ؟  اطمئن يا صديقي لم تأت بعد!)

يقول بورخيس: (هناك من الكتب التي قرأتها، كتاب النار لهنري باربيس، لقد كتب صاحبنا ، وفي نيته ذمّ الحرب، فإذا بالنتيجة تأتي تقريبا أشبه ما تكون بتمجيد الحرب! ). وأجابه على الفور صديقه ساباتو بقوله : ( لقد اقترح سارمينتو على نفسه أن يؤلف كتابا ضد التوحّش ، فانتهت به المسألة إلى تأليف كتاب متوحش!).

القارئ الكريم .. أعتذر إليك ،، فأنا مضطر للتوقف هنا ، على أن أكمل في مقالة تالية ،، وفيها سرد موجز لشيء من عظمة المتنبي وتعاظمه ، وستقف بنفسك على أن هذا الشأن وتلك الحال عند المتنبي ،، لم يسجل التاريخ في تلك الحقب مثلها بل ولا قريبا منها .. فإلى ذلك الوقت في حفظ الله ورعايته.

 

د. عبدالله الشهري  الرياض المأنوس 

             

السبت، 5 يونيو 2021

(حَيْرَما) بمعنى رُبَّما رأيٌ فيما رواه أبو عمرو الشّيبانيّ في الجيم

 

 

(حَيْرَما) بمعنى رُبَّما

رأيٌ فيما رواه أبو عمرو الشّيبانيّ في الجيم

كتبه/ عبدالرزاق الصاعدي

20/ 10/ 1442هـ 1/ 6/ 2021م


 

روى أبو عمرو الشّيبانيّ (ت 209هـ)  في الجيم،  عن بعض رواته الأعراب ولم يسمّه- لفظًا نادرًا فسّره تفسيرًا غريبًا، وهو (حَيْرَما) وزعم راويه الأعرابيّ أنّه بمعنى (رُبّما)، واستشهد له الراوي أو الشيباني ببيتٍ عزاه لأبي ثور، وهذا نصّ الجيم: «وقال: حَيْرَما؛ أي: رُبّما؛ قال أبو ثور:

تَبَدّلَ أُدْمانَ الظِّبــاءِ وحَيْرَما      

 

فأَصْبَحْتُ في أطلالها اليَوْمَ حامِسَا»(1)

ولم يرد هذا اللفظ بهذا المعنى في المعاجم المتقدّمة، وظهوره الأول في معاجم الألفاظ كان في القاموس المحيط للفيروزي (ت 817هـ)، قال: «حَيْرَما، أي: رُبَّما»(2)، ونقله ابن معصوم (ت 1119هـ) في الطراز الأوّل في مادة (ح ي ر)، والزَّبيديّ (ت 1205هـ) في التاج في مادة (ح ي ر)، وقال الكفويّ (ت 1094هـ) في الكليات: «وحَيْرَ ما أرى: بمعنى رُبّما»(3).

وسَكتَتْ عنه كتبُ النحو قاطبة، وهي من مظانّه لو صحّ، فالنحويون يذكرون رُبّ ورُبّما في أبواب الأدوات وحروف المعاني وما يجري مجراها، و(حيرما) -إن صحّت- مثل رُبّما في المعنى والتركيب، (حير) و(ما)، وللنحويين حديث عن (ما) في رُبّما أكافّة هي أم غير كافّة، وكذلك (ما) في حَيْرَما، لو وردت عن العرب.

وأما الشاهد الذي أورده أبو عمرو فلا يصحّ الاستشهاد به على معنى ربّما، فـ(حَيْرَما) هو الحَيْرَم: البقر، وهو معطوف على أُدْمان الظباء، ولما كان نكرة منصوبة قال: حَيْرَمَا، فالألف للنصب، وليست من الكلمة. ويروى في بعض المصادر:

تبَدَّلَ أُدْمًا من ظِّباءٍ وحَيْرَما

والرواية الأولى التي رواها أبو عمرو وغيره هي الأكثر في المصادر، وهي في ديوان عمرو بن معدي كرب الزبيدي(4)، وهو له في بعض المصادر(5) من قصيدة سينيه، مطلعها مع البيت بعده:

لِمَنْ طَلَلٌ بالعَمْقِ أَصْبَحَ دارِسا

 

تَبَدَّلَ آرامًا وعِينًا كَوانِسا

تبَدَّلَ أُدْمانَ الظِّبـاءِ وحَيْرَما

 

فأَصبحتُ في أَطلالها اليَوْمَ حامِسَا





فالشاهد كما ترى للحَيْرَم بمعنى البقر، ولا يستقيم شاهدًا لمعنى رُبّما. قال ابن سيده: «الحَيْرَمُ: البَقر، واحدتُها حَيْرَمة»(6).

وأمّا الأُدْمانُ فوصفٌ للظباء وغيرها، واشتقاقه من الأُدْمة، وهي لونٌ مُشْرَبٌ سَوادًا أو بَياضًا، وهي في الإِبِل البَياضُ مع سَوادِ المُقْلَتَيْن، وهي في النَّاس السُّمْرة الشَّدِيدَة، ومنه قالوا: آدَمُ وأُدْمٌ وأُدْمانٌ، قال ابن فارس: يُقَالُ: ظَبْيَةٌ أُدْمَانَةٌ وظِبَاءٌ أُدْمَانٌ(7)، وأنكر ابن سيده أُدمانة، بالتاء، قال: «الأُدْمانُ: جَمْعٌ كأَحْمَرَ وحُمَرانٌ، وأَنْتَ لا تَقُول: حُمْرانَةٌ ولا صُفْرانَةٌ. وكان أبُو عِليٍّ يقول: بُنِيَ من هذا الأصل فُعلانة كخُمْصانة»(8)، وقال: «والأُدْمُ من الظِّباءِ: ظِباءٌ بِيضٌ تَعُلُوها جُدَدٌ فيها غُبْرَةٌ... وقد قالوا في جَمْعِه: أُدْمانٌ، والأُنْثَى أَدْماءٌ، وجَمْعُها أُدْمٌ... وقولُ ذي الرُّمَّة:

والجِيدِ من أَدْمانَةٍ عَتُودُ(9)

عِيبَ عليهِ، فقيل: إنّما يُقال: هي أَدْماءٌ»(10).

هذا معنى الأُدْمان، وبه يتّضح أنّ القول بأن (حَيْرَما) بمعنى ربّما وهمٌ من الأعرابي أو أبي عمرو. ويتّضح أيضًا- أنّ مَعجمتها بهذا المعنى باطلة ولا تصحّ، وأن ما جاء في القاموس المحيط وبعض شروحه وفي الكليات الكفويّ باطل واغترار بما في الجيم أو من نقل عنه، وأنّ مَعجمته في جذر (ح ي ر) باطلة أيضًا، وموضعه (ح ر م). والله أعلم. 

 



(1) الجيم1/ 205.

(2) القاموس (ح ي ر) 1/ 488.

(3) الكليات 409.

(4) ص 125.

(5) ينظر: العباب (حدس) 81، واللسان (حدس) 6/ 47، والتاج (حدس) 15 / 528.

(6) المحكم (حرم) 3/ 248.

(7) المقاييس (برق) 1/ 227.

(8) المحكم (أدم) 10/ 98.

(9) ديوانه 1/ 359، وفيه: عنود، مكان عتود.

(10) المحكم (أدم) 10/ 98.

الأربعاء، 28 أبريل 2021

عَرّامُ بن الأَصْـبَغ السُّلميّ ابنُ الحجاز العارفُ بمواضعِهِ وسكانِهِ


عَرّامُ بن الأَصْـبَغ السُّلميّ

 ابنُ الحجاز العارفُ بمواضعِهِ وسكانِهِ


عبدالرزاق الصاعدي

26 شعبان 1442هـ


يُعدّ عَرّامٌ السُّلمي من أقدم البلدانيين الذين عرفهم تراثنا، وهو من رواة اللغة المتقدمين الأثبات، ينقل عنه اللغويون في معاجمهم كما ينقل عنه البلدانيون، وهو عمدتهم في مواضع تهمامة الوسطى والحجاز. له كتاب (أسماء جبال تهامة وسكانها وما فيها من القرى وما ينبت عليها من الأشجار وما فيها من المياه) أملاه على أبي الأشعث الكندي، وعنه نقل البلدانيون.

فمَنْ عرّامٌ هذا؟ وما موطنُهُ؟ وهل هو ثقة في المواضع وسكانها؟

هو عَرّام بن الأَصْبَغ السُّلميّ، من الأعراب الرّواة المتقدمين العارفين باللغة ومواضع تهامة والحجاز، تدلّ القرائن على أنّه ولد في القرن الثاني وعاش الشطر الأكبر من حياته في القرن الثالث، لا يُعرف تاريخ مولده ولا سنة وفاته على وجه التحقيق، ينقل عنه أبو الأشعث عبدالرحمن الكندي والسَّكُوني وأبو تراب اللغوي ولُغْدة الأصفهاني وأبو عبيد البكري ومحمد بن موسى الحازمي وياقوت الحموي وغيرهم، ووَرَد اسمُه في إشارات متفرّقة في عدد من المصادر، يصفونة فيها بـ (الأعرابي)، وبـ (البدوي) أحيانًا، ولم يفرده أحد من المتقدّمين بترجمة، سوى إشارات عابرة، منها إشارة في الفهرست، إذ ذكره النديمُ في فصحاء الأعراب الذين سَمِع منهم العلماء (الفهرست 53 تحقيق رضا تجدّد) وإشارة في إنباه الرواة للقفطي، إذ ذكره في الأعراب الرواة الذين دخلوا الحاضرة (إنباه الرواة 4/ 120، 122). ووَرَد اسمه في جملة صالحة من النقولات اللغوية في معجم العين للخليل تزيد عن خمسين نصًّا، أدخلها الليث في حشو العين فيما يظهر، ووَرَد اسمه في مرويات في التهذيب للأزهري، أخذ بعضها عن الليث، وأخذ بعضها عن أبي تراب اللغوي صاحب كتاب الاعتقاب في اللغة، أحصيتها حين كتبتُ بحثي عن أبي تراب هذا، ووَرَد اسم عرّام في روله نصوص متفرّقة في المعاجم الكبيرة، كالعباب واللسان والتاج.

قال عبدالعزيز الميمني محقّق كتاب عرّام: «وممّا لا أكاد أقضي منه العَجَب أنّ أحدًا من أصحاب التراجم لم يذكر عَرّامًا»(بحوث وتحقيقات عبدالعزيز الميمني 1/ 466) يريد: أنّ أحدًا لم يذكره بترجمة صريحة، مع أنّه عُمدةُ البلدانيين في الحجاز وتهامة، ومن رواة اللغة الثقات المتقدمين.

فأين وُلد عرّامٌ وأين نشأ؟

يرى عاتقٌ البلادي أنّ عرّامًا وُلد ونشأ في خراسان فيما يعرف اليوم بإيران، وقال في سياق نقده عرّامًا في أحد المواضع: «إنّ عرّامًا لم ير الحجاز ولا مشى فيه!»(محراث التراث 27) وقال: «إنّ عرّامًا رغم أنّه سُلمي وُلد ونشأ ببلاد ما يُعرف اليوم بإيران»(محراث التراث 14) هكذا، وهو قول مستغرب من البلادي الذي عرفناه محقّقًا ومُدقّقًا، فكيف يقول هذا دون دليل ولا سند من قول ولا علّة ولا قرينة، فإنّ كانت المصادر سكتت عن ترجمة مفصّلة لعرّام فإنّ النصوص والأوصاف الواردة فيه ناطقة بأنّه نشأ بالبادية وتمرّس باللغة وعرف بلاد قومه سُليم وأوديتها ومياهها وشجرها، ثم حين برع في حفظ اللغة وصَفَتْ سليقته وطاف ببلاد قومه وخَبَر مواضعَها وخَبَر سكّانَها خبرةَ الحاذق الفَطِن صار أهلا لأنْ يكون من الأعراب الذين ينتخبهم ابن طاهر ويستقدمهم إلى نيسابور بخراسان بعد سنة 217هـ ليكون مُربّيًا ومُعلمًا.

أمّا الوهم أو  الأوهام التي أخذها عاتق البلادي في كتاب عرّام وجعلها دليلا على رأيه الغريب فلا يخلو منها كتاب بلدان، وحتى بلدانيات البلادي نفسه لم تخل من الأوهام، مع أن أدوات البحث والاطلاع والتنقّل مواتية له أكثر من عرّام وياقوت بمراحل كثيرة، ومع نقده عرّامًا نراه يعتمد على كثير من نصوصه، في معجمه الكبير (معجم معالم الحجاز)، وينقل النصوص التي أشارت إلى سُكنى الأنصار في الديار التي ذكرها عرّام، إما نقلا مباشرًا أو بواسطة، دون أن يُنكر عليه شيئًا منها، كما سيأتي.

والقول الصحيح الذي تؤيّده الأدلّة والقرائن أنّ عرّامًا نشأ بالبادية بين ظهراني قومه قبيلة سُليم الحجازية التّهامية، كما يظهر من أقوال العلماء المحقّقين، أمثال القفطي وياقوت الحموي وعبدالعزيز الميمني وخير الدين الزركلي وعبدالسلام هارون، وتعضّده الأوصافُ التي وُصِف بها عرّامٌ، وهي أنه (أعرابي) و(بدوي) و(من الأعراب الذين دخلوا الحاضرة) ويعضّده أيضًا علمه الغزير بمواضع تهامة والحجاز، وأنه يَصدر في وصفها عن نفسه ولا ينقل عن غيره.

وإليكم أقوال العلماء التي تثبت ذلك:

1-           ذكر القفطي جماعةً من (الأعراب الذين دخلوا الحاضرة)، ومنهم عرّام السُّلمي (إنباه الرواة 4/ 120، 122)، وقوله (دخلوا الحاضرة) صريح بأنهم كانوا في ديارهم في أوّل أمرهم، ثم دخلوا الحاضرة، للاسترزاق والتكسّب بما يحفظونه من لغةٍ ومعارفَ في البلدان والأنساب. 

2-           وعرض ياقوت في رسم (ثافل) لمعنى نبات (الأَيْدَع) عند عَرّام،  وهو شجر يشبه الدُّلْب، وذكر أنّ اللغويين غير عرّامٍ مختلفون فيه، فأخذ ياقوت بقول عرّام، وقال (معجم البلدان 2/ 71): «والصواب عندنا قول عَرّام؛ لأنّه بدويّ من تلك البلاد، وهو أعرف بشجر بلاده، ونِعم الشاهدُ على قول عرّامٍ قول كثيّر حيث قال:

كأنَّ حُمُولَ القَوْمِ حِينَ تَحَمَّلُوا      صَرِيمَةُ نَخْلٍ أو صَرِيمةُ أَيْدَعِ»

وهذا صريح بأن عرّامًا عاش في الحجاز أوّل أمره قبل أن ينتقل إلى خراسان، وياقوت بلدانيّ ومؤرّخ ومحقّق، يعرف عرّامًا ويعرف الديار التي نشأ بها.

3-           وذكر ياقوت في معجم الأدباء في ترجمة أبي سعيد الضرير أنّ عبدالله بن طاهر –وكان ولّاه المأمون خراسان سنة 217 هـ- استقدم جماعة من الأعراب منهم عرّام، لتأديب أولاد القادة، قال ياقوت: «قال السّلاميّ: حدّثني أبو العبّاس محمّد بن أحمد الغضاريّ، قال حدثني عمّي محمد بن الفضل، وكان قد بلغ مائة وعشرين سنة، قال: لما قدم عبد الله بن طاهر نيسابور وأقدمَ معه جماعةً من فرسان طرسوس وملطية، وجماعةً من أدباء الأعراب، منهم عرّام وأبو العميثل وأبو العيسجور وأبو العجنّس وعوسجة وأبو العذافر وغيرهم، فتفرّس أولاد قوّاده وغيرهم بأولئك الفرسان، وتأدّبوا بأولئك الأعراب، وبهم تخرّج أبو سعيد الضرير، واسمه أحمد بن خالد، وكان وافى نيسابور مع عبد الله بن طاهر، فصار بهم إمامًا في الأدب» (معجم الأدباء 1/ 254). وهذا صريح في جلبهم من البادية لذلك الغرض الذي ذكره ياقوت، وأنّهم لم يولدوا في خراسان ولم ينشأوا بها.

4-           وقال عبدالعزيز الميمني عن كتاب عرّام وقد حقّقه: إنه «أوّل ما كتَبَهُ العربُ في البلدان، أو في جغرافيا الحجاز وتهامة، أملاه في مبتدإ القرن الثالث رجلٌ طاف بلادها وبقاعها، وخِرِّيت جاب أغوارها ونجادها، وذاق من ثمارها وشرب من عيونها وبئارها، وخالط أحياءها وقبائلها، وسلك فجاجها ورَقِيَ قواعلَها، فقتل أرضها خِبرةً وخبرا، ووصف كلَّ ما فيها كما شاء وعلى ما رأى:

إذا قال لم يترك مقالا لقائل   بمُلتَقطاتٍ لا تَرَى بينها فَضلا

كفى وشفى ما في النفوس فلم يَدَعْ    لذي إربةٍ في القول جِدًّا ولا هزلا»

        والميمني محقّق مدقّق، ولم يقل هذا القول الصّريح في موطن عرّام ومنشئه إلا عن خبرة به             وبكتابه  الذي حقّقه، وعرف ما فيه كلمة كلمة.

5-           وقال خير الدين الزِّرِكلي في الأعلام: «عرّام بن الأَصْبَغ السّلمي: ثقة في معرفة جبال تهامة وقراها وسكانها، كان أعرابيًّا من بني سليم، تنقّل في جهات تهامة، ووضع كتابًا». (الأعلام 4/ 223)

6-           وقال عنه عبدالسلام هارون في تحقيقه لكتابه: «ويبدو أنه كان أحد أعراب بني سُليم ممن كانوا يطوفون بالبلدان ويتعرّفون مسالكها، فيكتسبون بذلك خبرة صادقة». (أسماء جبال تهامة وسكانها ضمن نوادر المخطوطات 2/ 378).

تلك أقوال صريحة -كما ترى- قالها علماء عرفوا عرّاما واتصلوا بعلمه بسبب، وهي تشير إلى نشأته في ديار قومه سُليم بالحجاز وتهامة. وقد كان كتابه في المواضع والأودية والمياه والجبال والنبات وأهل الديار موضع تقدير وترحيب من علماء البلدانيات جميعهم، كلُغدة الأصفهاني وأبي عبيد البكري والحازمي وياقوت الحموي، نقلوا عنه، وهو عندهم ثقة فيما يصف، ونقل عنه اللغويون أشتاتًا متفرّقة من اللغة في معاجمهم، وهم في الجملة يثقون في البدو الفصحاء الذين يجيئون من البادية ويدخلون العراق وخراسان. ومن المؤكّد أنّ معارف عرّام البلدانية واللغوية أهّلته لأن يكون من صفوة الأعراب الذين يُستقدمون لتعليم أولاد القادة والولاة في نيسابور زمن ابن طاهر، وكانت نزعته إلى الترحال والاطلاع على المواضع وحاجته إلى الكسب سببًا من أسباب قصده العراقَ وخراسان.

فإن وَهِم عرّام في بعض المواضع من كتابه -كما يقول البلادي- فليس أوّلَ الواهمين ولا آخرَهم، وأين البلداني القديم الذي لا يهم ولا يخطئ؟ وهل سلمت كتب الهمداني ولُغدة والبكري والحازمي وياقوت من الأوهام والأخطاء في المواضع؟ ثم لعلّ بعض ما في كتاب عرام كان من أثر النساخ واضطراب النسخ، وهي كثيرة الاضطراب والتفاوت، قال الميمني: «ويظهر بعد مقابلة الروايتين أنّ نسخ الكتاب كانت مختلفة جِدَّ اختلافٍ منذ قديم، وقد أورث هذا الاختلاف المتوارَث، إلى اختلافات الورّاقين، وتصحيفات النُسّاخ الحادثة، تضاربًا في الأقوال والمذاهب فاحشًا، وتشتتًا في تسمية الأماكن والبقاع وغيرها، وضبطُها ووصفُها وتحديدُها غير هَيِّن»(بحوث وتحقيقات عبدالعزيز الميمني 1/ 468).

 وأختم ببعض ما قاله عرّام في سكان الحجاز:

1-                       قال عرام: «ومن عن يسار الطريق مقابلا قُدسًا الأسود جبل من أشمخ ما يكون، يقال له (آرة) وهو جبل أحمر تخرّ من جوانبه عيون، على كل عين قرية، فمنها قرية غنّاء كبيرة يقال لها (الفُرع) وهي لقريش والأنصار ومُزينة». (أسماء جبال تهامة وسكانها 2/ 404) وقال عاتق البلادي نقلا عن ياقوت: إنها لقريش والأنصار ومزينة (معجم معالم الحجاز 7/ 42). وياقوت ينقل عن عرّام، وعاتق لم ينكر عليهما.

2-                       وقال عرّام: «ومن عن يمين رَضْوَى لمن كان منحدرًا من المدينة إلى البحر، على ليلة من رضوى: (ينبع)، وبها منبر وهي قرية غَنّاء، سكانها الأنصار وجهينة وليث، أيضًا». (أسماء جبال تهامة وسكانها 2/ 397، 398) ونقله عنه أو عن ياقوت أو عن البكري عاتقٌ البلادي، قال: (وكان يسكنها الأنصار وجهينة وليث) (معجم معالم الحجاز 10/ 37)

3-                       وقال عرّام: «ثم خيفٌ يقال له (خيف سَلّام)، والخيف: ما كان مجنّبًا عن طريق الماء يمينًا وشمالًا مُتَّسعًا، وفيه منبر وناس كثير من خُزاعة، ومياهُها فُقُرٌ أيضًا، وباديتها قليلة، وهي جُشَم وخُزاعة وهُذيل، وسَلّام هذا رجل من أغنياء هذا البلد من الأنصار». (أسماء جبال تهامة وسكانها 2/ 414) وهذا يعني أنّ الأنصار يسكنون هذا الخيف. وأشار إلى الرجل الأنصاري الذي كان يسكن الخيف عاتقٌ البلادي (معجم معالم الحجاز 3/ 184) وهو ينقل عن عرّام أو عمن نقل عنه كياقوت والبكري.

4-                       وقال عرّام: «والصّفراء قرية كثيرة النخل والمزارع، وماؤها عيون كلّها، وهي فوق ينبُع مما يلي المدينة، وماؤها يجري إلى ينبُع، وهي لجهينة والأنصار ولبني فهر ونهد». (أسماء جبال تهامة وسكانها 4/ 398) ونقل عاتق البلادي عن ياقوت عن عرّام أنّ الصفراء كانت لجهينة والأنصار وبني فِهر ونَهْد. (معجم معالم الحجاز 5/ 150) ولم ينكر عليهما، وورد هذا أيضا في كتاب البكري.

5-                       وقال عرّام: «ثم إلى (الرَّحضيّة) قرية للأنصار وبني سليم، من نجد، وبها آبار ومزارع». (أسماء جبال تهامة وسكانها 2/ 427) (أي شرق الحجاز مما يتاخم نجدًا) ووافقه عاتق البلادي وذكر أنّها للأنصار وبني سليم. (معجم معالم الحجاز 4/ 42) و هو ينقل عنه.  

6-                       وقال عرّام: «ثم تمضي مصعداً نحو مكة فتميل إلى وادٍ يقال له (عُريفِطان مَعنٍ) ليس به ماء ولا رعي، وحذاءَه جبالٌ يقال لها (أُبْلَى)، وحذاءَه قُنّة يقال لها (السَّوْدة) لبني خُفاف من بني سُليم، وماؤهم (الصَّعْبِيّة) وهي آبار يُنزعُ عليها، وهو ماء عذب وأرض واسعة، وكانت بها عين يقال لها (النَّازِيَة) بين بني خُفاف وبين الأنصار، فتضاربوا فسدّوها، وهي عين ماؤها عذب كثير». (أسماء جبال تهامة وسكانها 2/ 429) وذكر عاتق البلادي خلاصة هذا وأنّ ممن يسكنها الأنصار، نقلا عن أبي الأشعث الذي يروي كتاب عرّام (معجم معالم الحجاز 5/ 141) ولم يُنكر سُكنى الأنصار بها.

7-                       وقال عرّام: «وبين مكة والطائف، قرية يقال لها (راسب) لخَثْعَم، و(الجَوْنة): قرية للأنصار».( أسماء جبال تهامة وسكانها 2/ 419) ونقل عاتق البلادي أنها للأنصار. (معجم معالم الحجاز 2/ 189)

 

وبعد هذا أقول: أين ذهبت قبائل الأنصار ومن جاورهم الذين كانوا يسكنون تلك الديار الحجازية والتهامية المتفرّقة في القرن الثالث؟ وقد رأينا أنّ عرّاما –وهو العارف بتلك الديار- لم ينفرد بذكرهم، بل رواها بلدانيون كبار كأبي عبيد البكري وياقوت من المتقدمين، من غير نكير ولا ردّ، ورواها من المعاصرين ابن الحجاز عاتق البلادي في معجمه، ولم ينكرها. فأين ذهبوا؟ أترك الجواب لكم، وهو ظاهر لكلّ ذي لبٍّ يدرك أنّ تداخلات القبائل وتحالفاتها وانضواء بعضها في بعض عادة اجتماعية مألوفة في جزيرة العرب فرضتها ظروف المعيشة وحاجة الأمن منذ العصر الجاهلي إلى عهودٍ قريبةٍ من القرون الماضية، قبل توحيد هذه البلاد المباركة على يد موحّدها الملك عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله.

عبدالرّزّاق الصّاعديّ

26 شعبان 1442هـ