الجمعة، 24 فبراير 2023

يقرأ من اليسار ! (١)

 يُقرأُ مِنَ اليَسار!  (1)

 

تتباين اللغات في طريقة القراءة ، ومنشأ البدء ،، فمنها ما يكون ابتداؤه من اليمين كلغتنا العربية، ومنه ما يكون من اليسار كالإنجليزية ،، ولأن هذه المقالة مكتوبة باللغة العربية فحتما ستكون القراءة فيها من اليمين ، كما تفعله أنت أيها القارئ.

ماذا لو واصلت مشوار القراءة معي هنا، ثم في نقطة معينة غامضة، عصيّة على الظهور عند كثيرين، اكتشفتَ لوحدك أنك ستنتقل للقراءة من اليسار، وأما غيرك فقد فاتتهم اللمحة المشعّة التي انقدحت في ذهنك فنقلتك تلقائيا إلى اليسار.

وسأسرد شيئا من الحكايا وأورد شذرات من الأفكار، وأتحدث عن بعض الشخصيات من العرب والعجم، فكُنْ على درجة بالغة من التركيز، حتى توافق تلك اللحظة المستبطنة في تضاعيف هذهالمقالة.

ولربما سألتني سؤالا مهما ،، مفادُه: هل من أهمية لكشف تلك اللحظة؟. هل من عائد مجزٍ يعود عليّ؟. لمَ تتعبني في استجماع القوى حتى أظفر بلحظتك الحالمة والتي فاتت الجاحظ وطويت عن التوحيدي المعرّي لا يدخل معنا فهو رهين محبسه- بل لم تظهر لواحد من يهود أوربا في لغتهم اليدشية أو من كان منهم عارفا بالعبرية أو السريانية، ولا في حذّاق الفرس في فارسيتهم ومن جاورهم من البشتو والأردو؟ .

وقبل أن أعطيك المجال لتتحدث - الكلام للقارئ- أود أن أعكس السؤال هل سبق أن ظهرت لجوته أو فولتير أو كافكا لحظة قرائية أشارت إليهم سريعا بالانتقال إلى اليمين ؟ أو أن هذا خاصّ بنا، واللحظة يساريةثابتة كضربة لازب.

ثم آتي أنا القارئ العربي المسكين ليفتحَ سمسمُ أبوابَ لحظته، فأتجهُ ذاتَ اليسار مع فقري وعدم يساري؟!

انتهى سؤال القارئ ، وحتما من حقّه أن أجيبه ، ولكن ربما من حقّي أيضا أن أؤخّر الإجابة ، فقبلها كلام مهم ، ومن أهميته أنه مفتاح الإجابة وركيزتها.

على أنك أيها القارئ ما شرعتَ في قراءة هذه المقالة إلا وأنت تملك بعض الثقة في كاتبها، فلِم َهذا الاهتزاز وعدم الوثوقية، حتى أحسستَ بأنك ستصرف جهدا في مقابل شيء غامض؟ .. صدقني:أنت تجعل من هذا مغامرة ممتعة ورحلة ماتعة، وسيهوّن عليك الأمر، وسيرفع معدل التفاؤل عندك، وستكون أقرب من غيرك لالتقاط رأس اللحظة وقُرونها قبل أن تقع كاملة بين يديك أو مقابل عينيك.

هيّا توكل على الله، وواصل فستقرأ بعد قليل أخبارًا مدهشة عن التوحيدي في سيرته المتقلّبة، وذكائه المبهر، وتضاربِ آراء الناس في صدقه أو كذبه وإيمانه أو .....  ، وضعت تلك النقاط لأنّ رمي الناس بالاتهامات الكبيرة ليس من جبلتي وطبيعتي ولا من ما تعلمته خلال مشوار التعلم في حياتي.

من قرأ الإمتاع والمؤانسة عرف أدبَ الرجل ومكانته في العربية، وسيرتفعُ أكثرَ في عين القارئ حين يُتبع الإمتاع بالبصائر والذخائر، وهو مشوار ليس باليسير، فعشرة من المجلدات بحاجة إلى وقت يناسبها، ولقد أحسنت المحققة وداد قاضي في تحقيق هذا الكتاب، ولربما كان أبرز عمل قدمته، وافتخرت به ومازالت _ وداد ما زالت على قيد الحياة حتى كتابة هذه الأسطر في حدود علمي _ ومن قرأ مقدمتها وعرف الجهد الذي بذلته أدرك ذلك لا محالة. ولقد أثنى أستاذها المحقق الكبير والعالم الفاضل إحسان عباس على جهدها، وكان له دور في خروج هذا العمل، فقد كان يمدّها بعدد من المخطوطات والوثائق المهمة والنادرة، حتى خرج العمل زهيا مبهجا .

عودة إلى كتب التوحيدي فليس الكتابان السابقان هما فقط ما يمكن أن يثنى بهما على التوحيدي ، أمامك كمٌّ كبير من نفائس ما كتب في تاريخ النثر الأدبي: الصداقة والصديق، وأخلاق الوزيرين ، والمقابسات، والهوامل والشوامل وغيرها كثير !

على كل حال لا أود أن أسترسل في الكلام عن التوحيدي ، ولكني سأنقل لك قطوفا من عباراته المحلّقة التي لا يكتبها أيّ أحد وستكون مرقمة كما يأتي :

1- من ابتهالاته لربه : ( اللهم إني أسألك خفايا لطفك، وفواتح توفيقك، ومألوف برّك، وعوائد إحسانك، وأسألك القناعة برزقك، والرضا بحكمك، والنزاهة عن محظورك، والورع في شبهاتك ).
2- في وصف الصوت الجميل : ( إن الصوت الجميل يسرقك من نفسك و يعيدك إليك .. يأخذك و يردك) ..
3- وفي شان الحوار والنقاش مع الأصدقاء : ( إنّ في المحادثة تلقيحًا للعقول، وترويحًا للقلب، وتسريحًا للهمّ، وتنقيحًا للأدب) ..

 

كان من إشكالات التوحيدي أنه ربما قصد شيئا فعاد بالضرر عليه و بغير ما أراد ، فحين أراد بيان تألهه ورغبته فيما عند الله في تلك الالفاظ المفعمة بالإيمان كما في ابتهالاته الكثيرة، إلا أنّ حشوه في كتبه ببعض عبارات التردد والتشكيك، جعلت كثيرين يتهمونه بالزندقة، فجمع بهذا بين الإيمان وضدّه ، ونال الثناء والقدح معا.

يذكرني هذا بكلام بورخيس عن بعض الكتب التي يريد صاحبها شيئا وتأتي بخلافه (قبل أن أكمل مقولة بورخيس ربما تساءلتَ هل مرتْ لحظة الانتقال، ففاز بها غيرك وخسرتَها ؟  اطمئن يا صديقي لم تأت بعد!)

يقول بورخيس: (هناك من الكتب التي قرأتها، كتاب النار لهنري باربيس، لقد كتب صاحبنا ، وفي نيته ذمّ الحرب، فإذا بالنتيجة تأتي تقريبا أشبه ما تكون بتمجيد الحرب! ). وأجابه على الفور صديقه ساباتو بقوله : ( لقد اقترح سارمينتو على نفسه أن يؤلف كتابا ضد التوحّش ، فانتهت به المسألة إلى تأليف كتاب متوحش!).

القارئ الكريم .. أعتذر إليك ،، فأنا مضطر للتوقف هنا ، على أن أكمل في مقالة تالية ،، وفيها سرد موجز لشيء من عظمة المتنبي وتعاظمه ، وستقف بنفسك على أن هذا الشأن وتلك الحال عند المتنبي ،، لم يسجل التاريخ في تلك الحقب مثلها بل ولا قريبا منها .. فإلى ذلك الوقت في حفظ الله ورعايته.

 

د. عبدالله الشهري  الرياض المأنوس