الاثنين، 11 أغسطس 2014

وقفات مع الدكتور بهاء عبدالرحمن في مسالة القيف:

الرد على الرد
(وقفات مع الدكتور بهاء عبدالرحمن في مسالة القيف)
الجزء الثالث

15- قال بهاء: ((فقيفك المخترع هو الصوت الواقع بين القاف والكاف، وأن أصله القاف، وليس في قرار مجمعك أن القيف هو الصوت الواقع بين الكاف والجيم الذي أصله الجيم أو أصله الكاف لذلك عليك أن تحرر وصف قيفك المخترع بدقة))

     أقول: لعل الدكتور بهاء يعلم أننا في المجمع بدأنا بالوجه الأشهر في هذه الظاهرة، وهي قفقفة القاف مما نتداوله في لهجاتنا على نحو ما هو شائع في جزيرة العرب وغيرها، ويعلم أننا أشرنا في عدة تغريدات إلى قفقفة الجيم (وهي وجه من وجوه القفقفة) وإلى رسمها، ووعدنا بأن نتناولها في قرار قادم، وأننا سنأتي عليها بالبحث والمداولة لنصل في اسمها ورسمها إلى قرار، وألمحنا إلى أننا قد نأخذ بمصطلح خاص ورسم خاص فيها (ربما الجاف- والقرار للجنة العلمية) وأذكّر الدكتور بهاء بأصل اعتراضه علينا، وهو إنكاره أن يكون القدامى ذكروا صوت القيف وأن من ذكره كان مخلّطا، وأن المتأخرين لا يقصدون بما ورد عندهم هذا الصوت الذي سميناه القيف، فأثبتُّ له أنه صوت قديم وأن سيبويه ذكره في وجهين من وجوه القفقفة وأن ابن قتيبة ذكره وكذلك ابن دريد الذي وصف قفقفة القاف بأنها لغة معروفة في بني تميم في جزيرة العرب، وذكرت له أننا نصف ظاهرة قديمة مشهورة، ولم تزل باقية، وأننا لا نبحث في مستواها في الفصاحة، لأن القرار موجّه للباحثين وليس للعامّة، فهذا ما يخصّ المجمع، والمجمع أعرف بسياسته وبما يتخذه من خطط علمية وقرارات، ولا نحتاج إلى نصيحة مَن لا يعرف تاريخ لغته ولهجاتها ولا يحسن فهم نصوصها القديمة.
    وسأبين للقراء أنه أخذ فكرة اعتراضه هذا من تغريداتي التي نشرتها قبل أن ينشر مقاله بنحو أسبوعين، فقد كتبت في 13 شعبان 1435هـ الموافق 11/ 6/ 2014م ثلاث تغريدات عن الجيم اليمنية، أنقلها بصوصها، وهي: قولي عن الجيم اليمنية: ((هي نطقاً بصوت القيف، ولكنْ رسماً الأحسن التغيير حتى لا يتلبس (ݠمل) بـ (ݠمل) الأول قمل والثانية جمل فالأحسن التفريق:  ݠمل وچمل))
     وقولي ((في الرسم يحسن التفريق، أما في المصطلح فلا يلزم (لأن النطق بالقيف) مع أنني أفضّل التفريق.. وسنترك هذا إلى ما بعد رمضان.))
وقولي: ((نعم سيكون خاصا بما يسمى الجيم المصرية أو الجيم اليمنية.. وهي في النطق قيف.. لكن الدقة في تمييز المصطلحات وفي الرسم خاصة مطلب))
وكتبت تغريدتين في 18 شعبان 1435هـ  الموافق   16 / 6/ 2014م:
قلت في إحداهما: ((بحول الله سننتهي من ترميز الجيم اليمنية (المصرية) وتحدثت عنها الآن من أجل التحضير لها، ولتختمر في العقول وسيكون حديثنا فيها بعد رمضان))
     وقلت في الأخرى: ((الجاف هي الجيم اليمنية أو المصرية مثل: رﭼل وﭼمل، والقيف هي القاف المعقودة مثل مݠبل و ݠوݠل، ونطقُ الجاف والقيف واحد))
وكل ذلك قبل أن ينشر الدكتور بهاء مقاله بنحو أسبوعين، فمقاله نشر في 29 شعبان الموافق 27 /6 / 2014م وبهذا يتبين أنه يأخذ منا البضاعة ويعيدها إلينا في صورة اعتراضات، وهذا ينافي آداب العلم في الأخذ والعزو، وهو لا يستطيع أن ينكر أخذه؛ لأن هذا موثق بالتاريخ الذي لا يحابي أحدا.

16- قال بهاء: ((الوقفة الثانية: أنه يستحيل عقلا أن يكون للصوت الواحد مخرجان مختلفان، كما يستحيل ذلك أداء ونطقا))

    أقول: هذا القول مبني على وهم يتكرر في كلام الدكتور بهاء، وهو لم يزل مصرا على أن قفقفة الجيم من مخرج وقفقفة القاف من مخرج مختلف، وهذا توهّم يخالف واقع القفقفة، فهي من مخرج واحد ينتقل إليه الحرف المقفقف، كما ينتقل حرف من مخرج إلى مخرج آخر عند الإبدال، فالجيم والقاف والكاف تنتقل إلى مخرج واحد عند القفقفة، ولذا يتّفق الصوت في (رݠع) حين قفقفة الأحرف الثلاثة في (رجع ورقع وركع) وذكر الخليل أن مَخْرَج الجيم والقاف والكاف فمن بين عكدة اللّسان وبين اللَّهاة في أقصى الفَم (العين 1/ 52) فنشأ هذا الصوت اللهجي الفريد في ظاهرة القفقفة في مخرج واحد تلتقي فيه الأصوات الثلاثة حين تُقفقف، فمخرج القفقفة واحد ينزاح إليه كلٌّ من الأصوات الثلاثة، على نحو ما تقدم، وكذلك يتفق الصوتان (الجيم والقاف) عند قفقفتهما في كلمتي المجرّ والمقرّ فينطقان نطقا واحدا هو: (المݠرّ) على نحو ما تقدّم فالصوت المقفقف في الكلمتين يكون من مخرج واحد، فجاء النطق واحدا، ويرسمهما القدامى برسم واحد هو (المگرّ) لأن الصوت واحد، ولا يُفرّق بينهما إلا بالسياق أو الحال.

17- قال بهاء: ((إن السيرافي الذي استدرك على سيبويه الصوت الذي بين القاف والكاف فرّق بينه وبين الجيم التي بين الكاف والجيم عندما قال:(ورأينا من يتكلم بالقاف بين القاف والكاف فيأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف) فالصوتان متشابهان لكنهما ليسا صوتا واحدا))

      أقول: أجبت عن هذا مرارا، وقول السيرافي (...يأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف...) يعني أن نطقهما واحد وإن اختلف الأصل، ولأن المخرج واحد فلا بد أن يكون الصوت واحدا، ولذا قال السيرافي (فيأتي بمثل..) وكلامه صريح صحيح، وهو مطابق لواقع الصوت المقفقف من الحرفين القاف والجيم.
 أما لو كان الصوت من مخرجين لاختلف الصوتان وانتفى التماثل، فالتماثل هنا بمعنى التطابق، والأمثلة التي كررتها تشهد بذلك، وكلام السيرافي حجّة على الدكتور بهاء لا له كما يتوهم، وهو يحاول أن يصرف كلام السيرافي عن معناه ولن يستطيع.

18- قال بهاء: ((أنه لو سلمنا أن الصوت الذي اخترعتَ تسميته فدعوته (القيف) هو نفسه القاف التي بين القاف والكاف ، وهو نفسه الجيم التي بين الكاف والجيم، وهو نفسه الكاف التي بين الكاف والجيم، لو سلمنا بهذا التناقض وهذه الاستحالة فكيف تجعل للحروف الثلاثة رمزا كتابيا واحدا هو ذاك الرمز المخترع العجيب؟ إن ذلك لا يصح إلا إذا جعلته رمزا كتابيا خاصا بك وببحوثك الصوتية))

    أقول: هذا الاعتراض أيضا مستوحى من تغريداتي التي ذكرتها بتواريخها في الفقرة رقم (15) وما قلته هناك يغني، وعليه أن يلتزم بآداب البحث العلمي، وأزيد هنا قائلا:
  ينبغي أن يدرك الدكتور بهاء ثلاثة أمور في غاية الأهمية، وهي:
الأول: يتصل بالصوت المنقول عن أصله؛ فأن هذا الصوت في القفقفة واحد؛ لأن المخرج الصوتي للقفقفة واحد.
الثاني: يتصل بالصوت في أصله، فأن أصل القفقفة من الحروف الثلاثة مختلف، فإن نظرنا إلى الحال وهو الصوت المقفقف ترجّح توحيد المصطلح وإن نظرنا إلى الأصل فالحروف (الأصوات) الثلاثة مختلفة، فترجّح التفريق في التسمية، وقد ألمحت إلى ذلك في عدة تغريدات قبل أن يكتب مقاله، وقد استقى ملحوظته هذه من تغريداتي المشار إليها في الفقرة رقم (15)
والثالث: يتصل بالرسم فإن نظرنا إلى الحال الذي آل إليه الصوت جاز أن يكون برسم واحد هو القاف المنقوطة من تحت في الحالات الثلاث، وفي هذا نوافق علماءنا الذين وحدوا بين حالات القفقفة في الرسم فرسموا القفقفة من الأصوات الثلاثة بالگاف الفارسية؛ لأنهم راعوا الصوت المقفقف، وهو صوت واحد من مخرج واحد، وفي هذا دليل على وحدة الصوت، وفي مذهبهم هذا ما يكفي للرد عليه لو تدبّر وتأمل صنيعهم، ولكن المكابرة تعمي وتصمي، أما إن نظرنا إلى الأصل، واعتددنا بخوف اللبس في الكتابة فإنه يحسن أن ترسم القفقفة من الجيم برسم مخالف للقفقفة من القاف وكذلك القفقفة من القاف، وقد قلت هذا في تغريدات قبل أن يكتب كلامه بنحو سبوعين، وأسبوعين، وذكرت أنني أميل إلى رسم القفقفة من الجيم بالجيم المثلثة كما فعل باحثون مصريون، ((حتى لا يتلبس (ݠمل) بــ (ݠمل) الأول قمل والثانية جمل فالأحسن التفريق:  ݠمل وچمل)) وكذلك المݠر والمچر، فنطق الصوت المقفقف في هذه الأمثلة واحد والأصل مختلف، وهذا الأمر عندنا متضح، والحلول موجودة، وسنعرض ذلك على المجمع –كما وعدنا سابقا قبل أن يكتب مقالته- وننظر في الأمر بعد عرضه على اللجنة لاتخاذ قرار خاص بهذا، وما الدكتور بهاء في هذا الموضع والموضع السابق في الفقرة 15 إلا مقتبس مما ذكرته في التغريدات ومعيد لصياغتها في أشكال اعتراضات، وليته حين يأخذ يراعي أمانة البحث العلمية.

19- قال بهاء: ((إنك لو فهمت معنى قول ابن قتيبة لرميت بقيفك في عرض البحر وتبرأت من الدعوة إلى إدخاله في أصوات العربية، فهو يرى أن الحرف الذي بين القاف والكاف ليس من حروف العربية، وإنما هو من حروف الأعاجم))

     أقول: كعادته لا يفهم المراد مع وضوحه، وأظنه يعلم أن مرادي هو إثبات أن ابن قتيبة ذكر صوت القيف، ووصفه بأنه الحرف الذي بين القاف والكاف، وأن هذا الصوت الذي ذكره ابن قتيبة هو القيف عينه، سواء نطقت به العرب أو نطقت به العجم، والنص في كتابه (تأويل المشكل) يفيد بأن ابن قتيبة عرف هذا الصوت، وهو أول من حدد مخرجه بين القاف والكاف كتحديد ابن دريد، فنحن نتحدث عن وصف صوتٍ وعن مخرجه وعن أقدم من ذكره قبل ابن دريد، ولم نناقش ابن قتيبة في مسألة كونه عربيا أو أعجميا، فهذه قضية أخرى، وإثبات عربيته إن شئنا في غاية اليسر، وحديثي كما يعلم صاحبي هو عن هذا الحرف المقفقف الذي يكون بين القاف والكاف وعن البحث عن أقدم من ذكره وحدد مخرجه، وابن قتيبة أولهم فيما نعلم، وكلامه يفيدنا في إثبات هذا الصوت الذي نتحدث عنه، وهو تحديد مخرجه بين القاف والكاف، وكأنَّ ابن دريد اقتفى أثره، وهو صوتٌ عربي وافق لغة الفرس وبعض أصوات الأمم الأخرى؛ لأن الأصوات محدودة معدودة، فلا بد فيها من التوافق، في كثير منها، وثبوته في لهجات العربية لا ينكر ولا يدفع، تشهد له النصوص والأقوال القديمة والحديثة ويثبت عربيته بقاؤه واستمراره في لهجات العديد من قبائلنا وبيئاتنا منقولا عن أجدادنا وأهلنا الذين نسمعهم اليوم يتكلمون به، وقد توارثوه كما توارثوا الكسكسة والعنعنة والشنشنة والعجعجة والفحفحة وغيرها من الظواهر، واشتهر هذا الصوت عند البدو بخلاف الحضر في زمن ابن خلدون حتى صار لعرب شمال أفريقيا كالعلامة عليهم كما قال ابن خلدون، وبلغ بهم أن من يريد التّقرّب إليهم والدّخول فيهم يحاكيهم في النّطق بالقيف، وعندهم أنّه إنّما يتميّز العربيّ الصّريح من الدّخيل في العروبيّة بالنّطق بهذا الصوت، وذكر ابن خلدون أن هذه اللّغة المقفقفةلم يبتدعها ذلك الجيل في زمانه بل هي متوارثة فيهم متعاقبة ورجّح أنها من لغة الجيل الأول من سلفهم من مضر، فما الذي جاء بلغة الفرس في شمال أفريقيا؟! فإن كان ابن قتيبة يرى أن القيف من لغة العجم دون العرب فإننا لا نقرّه أبداً؛ لأن حقيقة الظاهرة تثبت عربيتها كما قلنا أعلاه ولا ينفي عربيتها وجودُها في لغة الفرس؛ لأن التوافق بين أصوات الأمم أمر محتوم، على ما يقضي به علم اللغة العام، وبعض الأصوات عالمي إنساني لطبيعة مخرجه وصفاته، كصوت القيف الذي نجده في لهجات العربية وفي اللغات الهندية السنسكريتية وغيرها وفي الفارسية والصينية والإنجليزية والأسبانية وغيرها وكذلك في بعض اللغات السامية واللغات اليمنية القديمة، فهو صوت عالمي إنساني شائع، فلا حق للفارسية فيه دون غيرها، ولكننا نقرّ ابن قتيبة ونؤيّده في وصف هذا الصوت المقفقف من القاف في أنه (بين القاف والكاف) كما قال فأجاد الوصف وأفاد، وهذا حسبنا منه، فهو أول من صرح بقفقفة القاف وحدّد مخرجها فيما وصل إلينا من نصوص، وبهذا يظهر لصاحبي أن كلامي ونقلي عن ابن قتيبة صحيح، ودلالته صريحه في تحديد المخرج.
      ولو فكر أهل اللغة بمنطق الدكتور بهاء وأخذوا بدعوته لرمي القيف ((في عرض البحر)) بسبب التوافق لرُميتْ حروف كثيرة في البحار!! لموافقتها حروف الفرس والأمم الأخرى، ولما بقي لنا إلا الظاء وربما الضاد والحاء!!

20- قال بهاء: ((والذي يدقق في صفة الجيم اليمانية ويوازنها بالقاف في اللهجة العامية في نجد يلحظ الفرق فأثر الجيم واضح في اليمانية وأثر الجيم معدوم في القاف العامية))

     أقول: كلامه لا يصح، ولا يقوله من يعرف الجيم اليمنية والقاف البدوية في جزيرة العرب في نجد وغيرها، فالجيم اليمنية والقاف التميمية البدوية تنطقان عند القفقفة نطقا واحدا من مخرج واحد، وهو الصوت المطابق للحرف (g) وهذا يعلمه سائر اللغويين، فـ (گمل ورگل=جمل ورجل) هو صوت القيف بعينه في (الگدر والگوم=القدر والقوم) وقد ذكرت له أمثلة عديدة سابقا منها: (المݠرّ = المجرّ ، المقرّ) ثم إننا خالطنا عدداً من اليمنيين والحضارم وسمعنا نطقهم للجيم ورويناها عنهم ووجدناها مطابقة لنطقنا للقاف، تمام المطابقة، وهذا التوافق بين قفقفة الجيم وقفقفة القاف قديم، ولذا رسموه بالكاف الفارسية في الحالتين كما أشرت سابقا.

21- قال بهاء: ((أما أن يكون الصوتان صوتا واحدا فمحال))

    أقول: صححت له مفهومه الخاطئ في هذه المسألة، وأنه يفترض صوتين ومخرجين، والحقيقة أن مخرج القفقفة واحد بين تلك الأحرف الثلاثة، كما قال ابن فارس وابن خلدون، ولذا جاء الصوت واحدا لا صوتين كما يتوهّم.

22- قال بهاء: ((ثم أطال الدكتور عبد الرزاق في إيراد أقوال من ذكروا القاف التي بين القاف والكاف. ولا اعتداد بما ذكره المتأخرون فإنهم كانوا يصفون صوتا لهجيا في عصرهم))

    أقول: هذا من العجائب! كيف لا يعتدّ بقول المتأخرين في وصفهم ظاهرة لغوية لهجية يعرفونها؟ كيف لا يعتد بقول ابن الحاجب وابن يعيش والرضي والخضر اليزدي والأسنوي وأبي حيان وابن خلدون والقلقشندي والسيوطي وابن الطيب الفاسي والزَّبيدي؟ وهم من هم في العلم والمعرفة بالعربية، ثم أليس الدكتور بهاء من المتأخرين؟ فكيف يعتدّ بإنكاره وقوله في صوت القيف اللهجي وكيف يسمع جداله فيه ولا يعتدّ بقولهم؟ أيرى نفسه فوقهم؟!! أليسوا أقرب إلى زمان الفصحى منه؟ ألا يؤخذ منهم وصف ظاهرة لهجية امتدّت إلى زمانهم ويقبل تحديدهم لمخرجها؟ وهل وجد في كلامهم ما ينافي وصف مخرج القيف عند ابن دريد وابن فارس؟ ألا يعلم أن وصفهم مطابق لوصف ابن دريد ومطابق لما نسمعه في لهجاتنا بعدهم بعدة قرون؟ وهل ينكر استمراية الظاهرة اللهجية حين يرى غيرها باقيا على حاله في زماننا كما قالته العرب في عصورها الأولى؟ كيف يغمض عينيه عن قول ابن خلدون في لغة القيف بأنها لغة قديمة لم يبتدعها الجيل في زمانه بل هي متوارثة فيهم متعاقبة؟ وعن ترجيحه أنها من لغة الجيل الأول من سلفهم من مضر؟
     وقد علّق إبراهيم أنيس (في كتابه الأصوات اللغوية 85،86) على كلام ابن خلدون قائلا: ((ويظهر أن القبائل البدوية التي عاشت في المغرب أيام ابن خلدون كانت من القبائل الحجازية التي هاجرت في القرن الخامس الهجري، إلى تلك البلاد وجاءت معها بهذا النطق الخاص للقاف، ولذلك نرجح أن نطق القاف كالجيم القاهرية قديم، وربما كان شائعا بين بعض القبائل الحجازية أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- أما موقف القرشيين بصفة عامة والنبي وأصحابه بصفة خاصة من هذا النطق فأمر يحتاج إلى تحقيق))
     قلت: وأنا أرى أن تلك القاف وصلت إلى شمال أفريقيا مع العرب الأوائل الذين وصلوا إلى هناك مع طلائع الفتوحات الإسلامية في زمن بني أمية، ثم تلتها موجات الهجرة من قبائل بني سليم وبني عامر وبني هلال وغيرهم.

23- يدّعي الدكتور بهاء أن هذه اللهجة التميمية في القاف مأخوذة أصلا من الأعاجم وأن هذا الصوت (القيف) غير عربي في الأصل، ويعزو ذلك إلى الصلة بين تميم والفرس، ويستشهد بنصٍّ لأبي عبيد البكري في فصل المقال، وبعض الأحداث الفردية العارضة كقصة رهن حاجب بن زرارة قوسه لدى كسرى ليأذن لبني تميم دخول ريف العراق.

    أقول: كيف لا يعلم الدكتور بهاء أن هذه اللهجة ليست خاصة بتميم؟ ولا يعلم أنها لغة مشهورة في عموم العرب في الجزيرة، في أغلب بيئاتها النجدية والحجازية وفي أغلب قبائلها، وفي مناطق الفصاحة منها كالعالية في نجد والحجاز؟! وفي عرب شمال أفريقيا، أفإن كانت تميم على صلة ما بالفرس لأغراض التجارة ووقع في لغتها ألفاظ كما وقع في لغة قريش وغيرها أيكون ذلك دليلا على أن ظاهرة صوتية عامة كالقفقفة تكون مأخوذة من الفرس؟ أليست هذه الظاهرة في غير تميم؟ وألم تكن تميم من أنقى قبائل العرب وبيئاتها في الفصاحة؟ وألم تكن مقصد اللغويين في زمن رواية اللغة؟ حتى كان أبو زيد الأنصاري يطوف في قبائل تميم وفروعها إذا حزبه أمر لغوي، فلا يسأل إلا هذا الحيّ من العرب، ولقد طاف مدة يسألهم عن باب فعل يفعل ليعرف ما كان منه بالضم أولى وما كان منه بالكسر أولى!
    ولقد ذُكرت تميمٌ في القبائل التي اعتَمد عليها الرواة في مادة اللغة ((وعنهم أكثر ما أُخذ ومعظمه وعليهم اتّكل في الغريب، وفي الإعراب والتصريف)) وذكر ابن عطية أن تميماً من القبائل التي نزل القرآن بلغتها، وذكر أبو عمرو بن العلاء أن أفصح الناس عليا تميم.. وفي رواية: سفلى تميم.
    وأكثر علماء اللغة الذين تناولوا هذه الظاهرة الصوتية قديما وحديثا لم ينكروا عربيتها وإن صنفوها ضمن الأصوات غير المستحسنة، وقد رصدت نحو ثلاثين عالما تناولوا القيف (القاف المعقودة) لم يذكر أحد منهم أنها غير عربية أو حتى في إشارة إلى شيء من ذلك، بل هم يرون عربيتها فابن دريد والسيرافي وابن فارس يرون أنها لغة تميم، ولو كانت لغة فارسية لنصوا على ذلك، فهي عند ابن دريد وابن فارس لغة تميم، ووصفها ابن الحاجب (ت 646هـ) بأن أكثر العرب ينطقون بها في زمانه وكانت القيف في القرن الثامن كانت ((غالبة على لسان من يوجد في البوادي من العرب)) كما قال أبو حيان (ت 745هـ) أو أنها (قاف العرب) كما قال الأسنوي (ت772هـ) والسيوطي في الحاوي، وأن بعض العرب يقرؤون بها القرآن، كما يقول ابن خلدون (808هـ) وأنهم ((لم يستحدثوها وإنّما تناقلوها من لدن سلفهم، وكان أكثرهم من مضر لمّا نزلوا الأمصار من لدن الفتح)) فهي ((متوارثة فيهم متعاقبة عن أسلافهم)) وهي ((لغة مضر الأوّلين)) حتى قال ابن خلدون: ((ولعلّها لغة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم)) لأن القبائل القيسية التي تنطق بها هي ((أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجّح فيما يوجد من اللّغة لديهم أنّه من لغة سلفهم)) كما يقول ابن خلدون، ويمكن القول في الجملة: إن القفقفة من القاف لغة شائعة سائرة في العرب، كما يقول الرافعي.. فهل هؤلاء جميعا أخذوها من الفرس؟ فإن كانت موجودة في لغة الفرس فهي أيضا في لغة العرب، وهذا صوت عالمي إنساني كما وصفته، وله وجود في كثير من اللغات العالمية القديمة والحديثة في شرق الأرض وغرب، والأصوات محدودة ولا بد أن يقع فيها التوافق، وأكثر أصوات العربية الفصحى واقع في الفارسية وغيرها، فهل يزعم أنها فارسية لمجرد التوافق؟!
     ولذا أقول: إن القفقفة ظاهرة صوتية لهجية عربية قديمة، يؤكد ذلك فصاحة تميم وشيوع القفقفة في قبائل متعددة غيرها لا تقل عنها فصاحة في نجد والحجاز وأقوال أكثر العلماء ولا ينفي عربيتها أنها في لغة الفرس، فهذا محمول على التوافق؛ لأن هذا الصوت صوت إنساني عالمي واسع الانتشار، وما أكثر التوافق في الأصوات بين اللغات والأمم!

24- قال بهاء: ((وقال السيرافي أيضا بعد أن ذكر الجيم التي تلفظ بين الكاف والجيم عند أهل اليمن وبغداد قال: وهي عند أهل المعرفة منهم معيبة مرذولة، فكيف تدعو يا دكتور عبد الرزاق  لتأصيل ما هو معيب مرذول؟))

     أقول: جوابي من ثلاثة وجوه:
الأول: أين وجدني الدكتور بهاء أدعو إلى تأصيل ما هو معيب مرذول من لهجاتنا؟ وهل رآني أدعو إلى ترك القاف الفصحى والتكلم بالقيف؟ أو هل رآني أضع القيف في درجة القاف الفصحى؟ هل وجد شيئا من هذا في تغريداتي أو في قرار المجمع؟ إن وجده فليأت به ليكون حجة له ودليلا على صدقه!
الثاني: ما معنى قول المجمع في قراره ((...كما يرى المجمع أن الأصل في هذا الصوت هو القاف الفصحى، وأن على المتكلمين التعوّد على القاف الفصحى، ولكن يجوز عند الحاجة لحكاية لهجة القَفْقَفَة أن يقال مثلا: ننطق اسم مقبل ومقرن ومطلق بصوت القَيْف، ليفهم القارئ حقيقة الصوت المراد في النص المكتوب))؟
     وقول المجمع: ((فهو من الأصوات الفرعية الأربعة عشر التي ذكرها القدامى، وليس لنا فيه سوى الاسم)) وقول المجمع في الرسم: ((يرى مجمع اللغة الاقتراضي أن يُرسم صوت القيف -عند الحاجة- بحرف القاف الفصحى منقوطة بنقطتين من تحت...))
     وقول المجمع في الرسم أيضا: ((وهذا الرسم يلبّي حاجة الباحثين اللغويين الوصفيين عند رسم لهجة القفقفة، وهي لهجة عربية لم تزل معروفة في جزيرة العرب وخارجها، من الخليج إلى المحيط وجذورها بعيدة على نحو ما وصف ابن دريد والسيرافي وابن خلدون، وكذلك في بعض اللهجات الساميات، ويعين هذا الرسمُ المترجمين والمعَرّبين عند "نقحرة" الأسماء الأجنبية حين يكون في حروفها الحرف المطابق لحرف القيف، وهو g  في كلمة good ونحوها، ويظهر هذا في نقحرة كلمة google فقد نراهم يتخبّطون في نقحرتها فيقولون: جوجل، غوغل، كوكل، قوقل.. والصواب: ݠوݠل، وكذلك يقولون: الإنكليزية والإنغليزية والإنجليزية، والصواب: الإنݠليزية وكان سلفنا يُعرّبون هذا الصوت بالكاف الفارسية، ولكن رسم القيف بالقاف العربية المنقوطة من تحت أقرب إلى طبيعة هذا الصوت، وأكثر أمانا من أن تنحرف القيف إلى الكاف الخالصة، كما حدث مع الكاف الفارسية))
     وقلت في تغريداتٍ كثيرة: إن صوت القيف لا ينافس القاف الفصحى، ولا يصل إلى مستواها، وأننا نرفض استعماله في النصوص اللغوية الفصيحة، وأن رسمه ليس لعموم الكتابة، بل هو لتلبية حاجة الباحثين اللهجيين الوصفيين. ورفضتُ استعماله في النصوص اللغوية الفصيحة والمكاتبات الرسمية، والاقتصار عليه في الحاجة.
الثالث: أن عملي وصفي كعمل غيري من أهل اللغة الذين تناولوا اللهجات بالدرس أو الوصف قديما وحديثا.
      وبهذه الوجوه الثلاثة التي يعلمها الدكتور بهاء علم اليقين يتبين أن استنكاره وقوله: ((فكيف تدعو يا دكتور عبد الرزاق  لتأصيل ما هو معيب مرذول؟)) باطل ومردود.

انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وهو الأخير


أ.د عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
المدينة المنورة
السبت 15 شوال 1435هـ
الموافق 11 أغسطس 2014م