الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

تأصيل حديث الرِّكْس وأثر القفقفة فيه: القيف والجيف والكاف الفارسية:

تأصيل حديث الرِّكْس وأثر القفقفة فيه
القَيْف والجَيْف والكاف الفارسية

     ورد في حديث صحيح روي عن عبد الرّحمن بن الأسود عن أبيه، أنّه سمع عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: أتى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الغائط وأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت الحجرين والتمست الثّالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيت بهنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأخذ الحجرين، وألقى الرّوثة، وقال: هذا رِكْس)) وروي: ((إنه رِكْس)).
فما معنى ركِسْ؟ وما أصلها؟
للركس وجهان في التحليل اللغوي:

     الأول: أنها من ركس بمعنى رجع، ففي العين: الرَّكْسُ: قلب الشيء [على آخره، أو رد] أوله إلى آخره. والمنافقون أركسهم الله وهو شبه نكسهم بكفرهم. وارتكس الرجل فيه إذا وقع في أمر بعد ما نجا منه. والرَّكُوسيّةُ: قوم لهم دين بين النصارى والصابئين، ويقال: هم نصارى. والرّاكسُ: الثور الذي يكون في وسط البيدر حين يداس، والثيران حواليه فهو يرتكس مكانه. وإن كانت بقرة فهي راكسة.
     وقال الخطابي في معنى الحديث: يريد أنه رجيع قد رد من الطهارة إلى النجاسة. وقال ابن فارس في المقاييس: ومعنى ذلك أنها ارتكست عن أن تكون طعاما إلى غيره.

    الثاني: أن معنى الرِّكْس: الرِّجْس، قال الجوهري: ((والرِكْسُ، بالكسر: الرِجْسُ)). قلت: وهذا أظهر وأقرب إلى معنى الحديث، فالنبي عليه السلام أراد صفة الرجس وهي النجاسة والقذارة، ولم يرد ذات الوصف الذي صفته الرجوع أو الرجيع لأنها ظاهرة معلومة لرواي الحديث حين أخذ الروثة فهو يعلم أنها رجيع، لكن النبي نهى عن الاستجمار بها؛ لصفة النجاسة.
     ويؤيد هذا الوجه التحليل اللغوي الصوتي للكلمة، فالركس مغيّرة من الرجس، على لغة القفقفة من الجيم، وهي لغة يمنية، يقلبون الجيم قيفا (جيفا) وهو الصوت الواقع بين الجيم والقاف والكاف، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم نطقها بالقيف/الجاف أي الجيم اليمنية، فقال: رچس/رݠس، وكتبها رواة الحديث بالكاف الفارسية أو الكاف الخالصة.
     ويؤيد هذا أنّ الحديث جاءت في روايات (رجس) بالجيم، فقد رواه ابن خُزَيمة: «أراد النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يتبرَّز فقال: ائتني بثلاثة أحجار، فوجدت له حجرين وروثة حمار، فأمسك الحجرين وطرح الرَّوْثة وقال: هي رِجْس» ورواه ابن ماجة بالجيم أيضا.
ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بالروايتين، قال: ((وَقَالَ: ذَا رِكْسٌ أَوْ رِجْسٌ)).
     وقال ابن حجر في الفتح (1/ 258): ((الرِّكس: لغة في رجس؛ بالجيم، وقيل: الرِّكس الرَّجيع، رُدَّ من حالة الطهارة إِلى حالة النجاسة)).
     وقال المطرزي في المغرب: ((قوله في الروث: إنه (ركس) أي (رجس) وهو كل ما تستقذره)) وفي ديوان الأدب: ((كلُّ شيء تَسْتقْذِرُه فهو: رِجْسٌ)) وقال الأزهري: ((والرِّجسُ: الشيءُ القَذِرُ))
    ويرجحه أن بعضهم فسر الركِّسْ بهذه اللغة، ففي حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع: ((قوله: الرجس؛ تبدل الجيم كافا في غير القرآن)).
ولهذا قال محمد بن محمد المختار الشنقيطي في شرح زاد المستقنع: ((إنها رِكْسٌ: وهي لغة اليمن أنهم يبدلون الجيم كافاً، والأصل رِجْس، والرِّجْسُ: النَّجِسْ)).

     ويظهر من هذا أن الكاف في الرِّكْس هي الجيم في الرِّجْس؛ جاءت على لغة القفقفة، فقلبت قَيفا أو جَيْفًا؛ لأن أصلها الجيم وليس القاف فتكتب بالجَيْف: (رچس) وعند القدماء تكتب بالگاف الفارسية، رگس، وهي قريبة في النطق من الكاف، وكثيرا ما تنتقل من (الجيف) إلى الكاف الخالصة لقرب المخرج، كما تنتقل القيف في العݠيلي إلى الكاف في بعض لهجات العراقيين فتصبح: العكيلي، وبخاصة عند من يسمع (الرچس) وليس من لغته القفقفة فينقلها إلى الكاف أو يعيدها إلى أصلها.. وقد وجدت أقولا متفرقة قديمة يذهب أصحابها إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بهذا الصوت، فإن صح ذلك فإنه نطق بهذه الكلمة (الرجس) على لغة اليمن في قلب الجيم قيفا/جيفا فقال: إنها (رِچْس/رِگْس) وأراد: إنها رِجْس.  
     وهناك من روى الحديث بلفظ (رجس) بالجيم على الأصل، كما تقدم.
    وقال محمود عبداللطيف في الجامع لأحكام الصلاة: ((وإذا أوردنا لفظة رِجس قلنا إنه عليه الصلاة والسلام أراد بها إظهار رفضه لاستعمالها فقال إنها سيئة أي غير صالحة وإنها سخط أي مخالفة للوعد الذي قطعه عليه الصلاة والسلام لإخواننا الجن)).
     ولهذا النطق والرسم نظائر، منها قول المعري في رسالة الغفران: ((فيقول عديُّ بعباديته: يا مكبور، لقد رزقت ما يكب أن أن يشغلك عن القريض، إنما ينبغي أن تكون كما قيل لك: "كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون" قوله يامكبور، يريد: يامجبور، فجعل الجيم كافاً، وهي لغةٌ رديئةٌ يستعملها أهل اليمن. وجاء في بعض الأحاديث: أن الحارث بن هانىء بن أبي شمر بن جبلة الكندي، استلحم يوم ساباط فنادى: يا حكر يا حكر، يريد: يا حجر بن عديَّ الأدبر. فعطف عليه فاستنفذه. ويكب: في معنى يجب)).
     وقول ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة في أخبار صفين حين ذكر ((أن بني عكل - وكانوا مع أهل الشام- حملوا في يوم من أيام صفين، خرجوا وعقلوا أنفسهم بعمائمهم، وتحالفوا أنا لا نفر حتى يفر هذا "الحَكَر" بالكاف قالوا : لأن عكلا تبدل الجيم كافا)) وقوله: ((وقال راجز من أهل الشام:
ويلٌ لأم مذحجٍ من عَكِّ
وأمُّهـــــــــــم قائمــة تُبَكّي
نصكّهم بالسيفِ أيّ صَكِّ
فلا رجالَ كرجالِ عَكِّ
قال : وطرحتْ عكٌّ حجرا بين أيديهم، وقالوا: لا نفر حتى يفر هذا (الحكر) (بالكاف) وعك تقلب الجيم كافا))
وقالت عكّ : ((عك برك الكمل)) أي: الجمل.
     وهكذا يكتبون الركس والحكر والركل بالكاف الخالصة، وهو وهم، والصواب أن تكتب برسمها الخاص، فما يقفقف من القاف يكتب بالقيف أي بنقطتين تحت القاف، وما يقفقف من الجيم يكتب بالجاف، أي بجيم مثلثة من تحت، هكذا: الرچس والحچر والرچل.
     وهنا يظهر كيف تبتعد الأصوات عن أصلها بسبب انعدام رمز مناسب لصوت القفقفة، ولا أضرَّ في رسم هذا الصوت المقفقف من الگاف الفارسية! لأنها تُحوّل القيف وكذلك الجاف إلى كاف خالصة.
عبدالرزاق الصاعدي
23 شوال 1435هـ
الموافق 19 أغسطس 2014م