الجمعة، 2 ديسمبر 2016

القول الفصل في تأصيل "ستّ تغييرات" و"ستّة تغايير":

القول الفصل في تأصيل "ستّ تغييرات" و"ستّة تغايير"
الجزء الأول: التنظير النحوي والصرفي
    خلاصة ما جاء في المقالة الأولى التي جعلتها بعنوان (الرضي يحسم النِّزاع في مسألة "ستّ تغييرات") أنّ الصّواب أنْ تقول: ستّ تغييرات وستّة تغايير، على قاعدة المغايرة بين لفظ العدد وما يضاف إليه؛ لأن مفرد تغايير: تغيير، وهو مصدر الرباعي فعّل، ومفرد تغييرات تغييرة، وهي اسم المرة من ذلك المصدر، وأن المصادر تلحقها تاء التأنيث لكل ما يراد به دلالة الوحدة أو المرّة، وهو القياس الذي يجري عليه الكلام، وأن هذا المصدر المؤنث يجمع جمع سلامة بالألف والتاء، وما خلا من تاء التأنيث يجمع جمع تكسير عند إرادة التنوّع، ويكون تكسيره على غير وزنٍ، وتكسير ما وزنه تفعيل على تفاعيل، وأنّ كلام العلماء في النوعين يجرى في مجمله على القاعدة، وتاج ذلك قول الرضي في شرح الكافية (القسم الثاني 1/ 687 طبعة جامعة الإمام) في حديثه عن جمع المؤنت السالم حين ذكر أن قياس المصدر الدالّ على المرة أن يجمع جمع سلامة بالألف والتاء، بخلاف المصدر الخالي من التاء فإنه يجمع جمع تكسير، فيقال: ثلاث إكرامات وتخريجات بتجريد العدد من التاء، وثلاثة أكاريم وتخاريج إذا قصدت ثلاثة أنواع من الإكرام؛ لأن أصل الجمع المكسر مذكّر: (إكرام وتخريج) وأصل المجموع بالألف والتاء مؤنث: (إكرامة وتخريجة).

    وكان فيما ذكرته في تلك المقالة غنية للنحويّ والفقيه اللغويّ وحجّة للقطع بصحة (ستّ تغييرات) ولكني رأيت الكلام يستطيل في المسألة ويتشعّب وينحرف بعضه عن الجادّة، فرغبت هنا في مزيدٍ من البحث والبسط ومزيد من المدارسة العلمية مع بعض الأكاديميين الفضلاء ممن خاض في المسألة ووافقني أو خالفني فجعل الصواب (ستّة تغييرات) مع إجازته (ستّ تغييرات) على وجه مرجوح لا راجح، وأما من زعم أنّ (ستّ تغييرات) لحنٌ وسخر من علمائنا الذين تكلموا بها وخطّأهم بغير هُدى ولا وجه حقّ مع خروجه عن أدبيات الحوار العلمي ولجوئه إلى الاستفزاز بأساليب سخيفة فليس للحوار معه أيّ فائدة تُرجى، ولا يُتشاغل بالرّدّ عليه، وكلامي هنا موجّه لأهل العلم والفضل، الذين يعرفون آداب الحوار وهم كُثُر، ومنهم الأستاذ سعيد بن عبدالخالق (وفهمه للمسألة دقيق ولا خلاف بيني وبينه) والأستاذ الدكتور سليمان العيوني، وهو يجيزها ولكنّه يخالفني في الترجيح، فعنده أن الأرجح ستّة تغيرات وأنّ ستّ تغييرات جائزة على ضعفٍ!، وكذلك الأستاذ الدكتور إبراهيم الشَّمسان، وهو يرى أن الفصيح ستّة تغييرات؛ لأن مفرد تغييرات –عنده- تغيير لا تغييرة، كما جاء في آخر مقالاته: (هل نقول: تغيير وستّ تغييرات؟) ويجيز ستّ تغييرات على ضعف، ويرى في توجيهها ما رأيته أوّل الأمر في بعض تغريداتي قبل كتابة مقالي الأول، وذلك باعتبار لفظ الجمع لا المفرد عند المخالفة بين العدد ومعدوده، وهو الرأي المنسوب للكسائي وبعض البغداديين ومنهم ابن قتيبة.. وخصصت الثلاثة بالذكر لأنّ غرضهم علمي، يريدون الوصول إلى الحقّ في المسألة، دون تسفيه الرأي المخالف، فلهم الشكر على ما تفضّلوا به من أُطروحاتٍ مهمّة في حواراتهم.

    إن مفتاح هذه المسألة هو معرفةُ مفرد (تغييرات) ومفرد (تغايير) ويتبع معرفتهما الحكمُ على ضوء قاعدة مخالفة العدد معدوده في التذكير والتأنيث، ثم كيف جرى استعمال ذلك على ألسنة الأئمة الأعلام وأقلامهم؟ هذان سؤالان رئيسان يحسم جوابهما النزاع في المسألة، ويأتي بعد ذلك تفنيدُ اعتراضاتٍ رأيتها في بعض كلام أولائك الزملاء الفضلاء.. فإليكم تفصيل القول:

أولاً: كيف يجمع التفعيل مصدر فعّل؟
      المصدر نوعان، ولكل نوع قياسٌ في الجمع:
    الأول ما خلا من تاء التأنيث، والأصل فيه ألا يجمع، لدلالته على الحدث المجرد، وجمعه بمنزلة تكرير الفعل، والفعل لا يثنى ولا يجمع، فإن أُريد به الأنواع أو خرج عن المصدرية وانجذب إلى الاسمية جُمع جمع تكسير، لما فيه من معنى الاسمية، وحديثنا هنا عن التفعيل مصدر فعّل، فقياسه أن يجمع على تفاعيل؛ لأنّ ما قبل آخره حرف مدّ، كتفعيل وتفعال وتفعول وما يحمل عليها من السداسي كاستخراج، فيقال في تحميد وتقدير وتغيير مما جاء على تفعيل: تحاميد وتقادير وتغايير، وكذلك أخواتها في هذا الباب وما انجذب منه إلى الاسم، لما فيه من معنى الاسمية، وعلى هذا جرى استعمال الأئمة في كتبهم.
      ومما سمع منه: (التَّصاوير) جمع تصوير، جاء في أحاديث تحريم التصوير، ومنها ما في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها ((أنّها أخبرتهُ أنّها اشترتْ نُمْرُقَةً فيها تَصاوِير)) (البخاري ح 2105 وأخرجه مسلم في اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان. رقم 2107) وقال ابن معصوم (الطراز الأول (صور) 8/ 271) ((التَّصَاوِيرُ: التَّماثِيلُ، واحِدُهَا تَصْوِيرٌ، وهو في الأصلِ مصدرٌ سُمِّيَ به ما يُصَوَّرُ ويجعلُ صُورةً)).
      ومنه (التهاويل) جمع تهويل، ففي العين (هول 4/ 87): ((التَّهاويل: جماعة التَّهويل))، وفي الصحاح (هول) 5/ 1855): ((والتهويل: التفزيع. والتهاويل: ما هالك من شئ. وهَوَّلَ القومُ على الرجل))، وقال ابن سيده (المحكم هول 4/ 304): ((قد هَوَّلَ عليه، والتَّهوِيل: ما هُوِّلَ به، قال:
على تَهـاوِيلَ لَها تَهْوِيلُ
... والتَّهاوِيلُ: زِينَة التصاوير والنقوش وَالثيَاب والحلى، واحدها تَهْوِيلٌ)). وقال الفيروزي (القاموس هول 1386): ((والتَّهاويلُ: الألوانُ المختلفة، وزينة التّصاوير والنُّقوش والحَلْي، والتَّهْوِيلُ: واحِدُها)).
     وسيأتي في الجزء الثاني من هذا المقال مزيدٌ من الأمثلة مما جمع على تفاعيل من مصادر جاءت على التفعيل، وهي متّسقة مع القياس لا تندّ عنه، ولذا توسّع فيها العلماء وأجروها في أساليبهم وولّدوا منها ما شاؤوا لعلمهم باطرادها في القياس.
     وما يجمع جمع تكسير في هذا الباب وغيره لا يجمع بالألف والتاء، إلا في ألفاظ قليلة مرصودة حكم عليها النحويون بالشذوذ، وذكروها في كتبهم، ولا يجيزون خروج الباب عن هذا الحدّ إلا على طريق النادر لعلةٍ صحيحة، (ينظر: شرح الرماني 737 تحقيق د. أحمد المعبّدي) لأنه لا حاجة إلي جمعه بالألف والتاء حين يُكسّر، وقال أبو علي الفارسي فيما نقله عنه ابن سيده (المخصص 14/ 119): ((إنما يجمع بالألف والتاء ما لم يكسّر ليكون ذلك كالعوض من التكسير، فأما ما كُسّر فلا حاجة بنا إلى جمعه بالألف والتاء))، وتوهموا في بعض ما خرج عن قاعدتهم التأنيث حين جاء بالألف والتاء، كأَهْل وأَهَلات وإن كانوا قد قالوا: أهالٍ؛ لأنهم قد توهّموا به: أهْلة. (ينظر: المخصص 14/ 119) وقال ابن مالك بعد أن ذكر ما يجمع بالألف والتاء قياسا مطردا: ((وما سِوى ذلك مقصور على السماع)) (شرح التسهيل 1/ 112)، ولذا حاولوا حصر ما خرج عن القياس، قال ابن مالك: (شرح التسهيل 1/ 114): ((فلا يجمع شيء من هذه الأسماء والصفات ونحوها بالألف والتاء إلا إذا سمع، فيعد من الشواذ عن القياس، ولا يُلْحقُ به غيره، فمن الشاذ: سماء وسماوات، وأرض وأرَضات وعُرُس وعُرُسات وعِير وعِيرات، وشمال وشمالات، وخَوْد وخَوْدات، وثَيِّب وثَيِّبات. وأشذّ من هذا الجمع بعض المذكّرات الجامدة المجردة، كحسام وحسامات، وحمّام وحمامات، وسرادق وسرادقات، وكل هذا شاذ مقصور على السماع)).

     ولم أجد فيما شذ عن القياس وذكروه في كتبهم شيئًا من باب (تفعيل) فيعلم بذلك أنه كغيره في القياس المطرد، يجمع جمع تكسير، ولا يجمع جمع سلامة بالألف والتاء، فليس لأحد أن يدّعي أن تغييرًا جُمع على تغييرات؛ لأن القياس يأبى هذا، وليس ثمة سماعٌ به، فهو مما كُسِّر على تغايير ومنع من تغييرات، فإن قال: إنهم يقولون في أساليبهم: (فيه من التغيير عدة تغييرات) (وهناك تغييرات: الأول منها) ونحو هذا، قلتُ: هذا منقوض بما سيأتي في الجزء الثالث إن شاء الله.

    والثاني ما فيه تاء التأنيث من المصادر، وهو ما دلّ على الوحدة، ويسمّى اسم المرّة، ويجمع قياسًا بالألف والتاء، وباب هذا الجمع أن يكون للمؤنث الذي فيه علامة التأنيث أو المذكر المسمى باسمٍ فيه هاء التأنيث أو المنعوت بنعت فيه هاء التأنيث، كما يقول السيرافي (شرح الكتاب 14/ 240)، وهو عند التفصيل جمعٌ لخمسة أشياء أوجزها ابن مالك في التسهيل بقوله: ((يُجْمَعُ بالألف والتاء قياسًا، ذُو تاء التأنيث مطلقا، وعلمُ المؤنث مطلقا، وصفة المذكر الذي لا يعقِل، ومُصَغَّرُه، واسمُ الجنس المؤنث بالألف إن لم يكن فَعْلى فَعْلان أو فَعْلاء أفعل غير منقولين إلى الاسمية حقيقة أو حكما. وما سِوى ذلك مقصور على السماع)) (التسهيل 20 وشرحه 1/ 113) وقال: ((ذو تاء التأنيث مطلقا)) ليدخل في ذلك العَلَم واسم الجنس والمدلول فيه بالتاء على تأنيثٍ أو مبالغةٍ أو اسم مَرّةٍ في المصدر، وما سِوى هذه الأنواع الخمسة مقصور على السماع كما قال (شرح التسهيل 1/ 114)، فيحفظ ولا يقاس عليه، كما يقول ابن عقيل في المساعد 1/ 76، وأصل هذا قول سيبويه: (3/ 615) في باب (ما يجمع من المذكّر بالتاء لأنه يصير إلى تأنيثٍ إذا جمع): ((فمنه شيءٌ لم يُكسّر على بناء من أبنية الجمع بالتاء إذ مُنِعَ ذلك، وذلك قولهم: سرادقاتٌ، وحمَّاماتٌ، وإواناتٌ، ومنه قولهم: جملٌ سبحلٌ وجمالٌ سبحلاتٌ، وربحلاتٌ، وجمالٌ سبطراتٌ. وقالوا: جوالقٌ وجواليقُ فلم يقولوا: جوالقاتٌ حين قالوا: جواليق))، ثم قال عَقِيب هذه الشواذّ: ((فهذه حروف تُحفظ ثم يُجاء بالنظائر)) يعني الجمع بالألف والتاء فيما ليس فيه هاء، كما يقول السيرافي (شرح السيرافي 14/ 241).

    وجاء جمع تلك الشواذ بالألف والتاء تعويضا لها عما فاتها في بابها وهو جمع التكسير، كما قال الفارسي فيما سبق نقله، وإلى هذا يشير الرماني في الشرح (737 تحقيق د. أحمد المعبدي) فيقول: ((ليكون عوضا مما منع من ذلك، ولا يجوز خروجه عن هذا الحد إلا على طريق النادر لعلة صحيحة. وجُمِعَ سرادق: سرادقات؛ لأنه لم يكسّر، وكذلك حمّام وحمّامات)). كما أن ما جمع بالألف والتاء لا يجمع جمع تكسير، فــ((ـلا يجوز في جوالق: جوالقات؛ لأنه كُسِّر على جواليق، ولا يجوز خِنْصِرات ولا مِحْلجات لقولهم: خناصر ومحالج، وإن كان تكلم به المولّدون، ومذهب العرب فيه على ما بيّنا، ويجوز عِيرات حين لم يكسّروها، وجاء على طريق النادر بُوان وبُوانات وبُون، ووجهه أنه جمع بُوانات على قياس الباب، ثم احتيج إلى تكسيره فقيل: بُون على التشبيه بغيره من نحو: خِوان وخُون))، وقريب من هذا ما في شرح التسهيل (1/ 114) لابن مالك.

     ويزيد أبو حيان (التذييل 2/ 100) المسألة بيانًا إذ يقول: ((وبعض هذه الأسماء كُسّر، ومنهم من فصل في ذلك، فقال: إما أن يكون المذكر المكبر جُمع جمع تكسير أو لا، وكذلك أيضاً المؤنث المكبر الذي ليس بعلم، ولا فيه علامة تأنيث، إما أن يكون جُمِعَ جمع تكسير أو لا، فإن كان النوعان جُمعا جمع تكسير فلا يجوز أن يجمعا بالألف والتاء، وذلك نحو: جُوالق وأرنب وخِنْصِر... وقد شذّ من ذلك بُوان وبُوانات وعُرس وعُرسات وضِفْدَع وضِفْدِعات؛ لأنّ العرب قد كسّرتها، فقالوا: بُونٌ وأعراسٌ وضَفادع، ولذلك لُحِّنَ أبو الطيب في قوله:
إذا كان بعضُ الناسِ سَيفاً لدولة     ففي النــــــــاس بُوقاتٌ لها وطُبُـولُ
فجمع بُوقاً على بُوقات وقد كسّرته العرب فقالوا: أبواق. وإن لم يكونا جُمِعا جمع تكسير جاز أن يجمعا جمع سلامة بالألف والتاء قياساً مطرداً. وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أخيراً، فتقول في: حَمّام وسِجِلّ وسُرادق وإصْطَبْل: حَمّامات وسِجِلّات وسُرادقات وإصطبلات. وهذا المذهب هو ظاهر كلام سيبويه))، وهو يريد ما ذكرتُهُ آنفا من كلام سيبويه.

     ولهذا كله قال الرضي (القسم الثاني 1/ 687 طبعة جامعة الإمام) قولته الفذّة عند حديثه عن جمع المؤنث السالم: ((ومنه قولك الإكرامات والتخريجات والانطلاقات ونحوها؛ لأن الواحد: إكرامة وتخريجة بتاء الوحدة، لا إكرام وتخريج. وجمع المجرد: أكاريم وتخاريج عند اختلاف الأنواع (يعني حين يجوز جمعه) فالإكرامات كالضربات والقتلات، والأكاريم كالضروب والقتول. فلذا يقال ثلاث إكرامات وتخريجات بتجريد العدد من التاء، وثلاثة أكاريم وتخاريج إذا قصدت ثلاثة أنواع من الإكرام))؛ لأنه وجد أن المصادر بغير التاء تجمع جمع تكسير، فجعل بابها التكسير، على ما جاء في كلام العرب، وباب اسم المرة التأنيث على القياس، فالأصل أنّ كل ما جاء من المصادر مجموعا بالألف والتاء فهو للمرّة (تفعيلة) وكل ما جاء مكسّرا فمفرده مذكر (تفعيل) ولا يختلط هذا بهذا إلا في السهو أو الوهم أو التوهّم، كما سيأتي.

     وبهذا يظهر جليا لكل ذي نظر أن الصواب الذي يوافق كلام العرب وما استقرّ لدى النحويين أنّ يقال: ستّ تغييرات وستة تغايير، ولا يقال: ستّة تغييرات، خلافًا لأصحابنا، أعني الدكتور إبراهيم الشمسان والدكتور سليمان العيوني.
     وسيأتي الكلام في الجزء الثاني على الشواهد وأساليب العلماء مما يثبت ما ذهبت إليه ويقطع به، ويليه إن -شاء الله- ذكرُ الملحوظات وتفنيدُ الاعتراضات.

(يتبع)
عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة - الجمعة 2 ديسمبر 2016م