الأحد، 7 أكتوبر 2018

ظاهرة القفقفة وحروفها الثلاثة: القيف والجيف والكيف:


ظاهرة القَفْقَفَة حروفها الثلاثة وطريقة رسمها
(القَيْف والجَيْف والكَيْف)


عرفت العربية منذ العصر الجاهلي صوتًا لهجيًّا فريدًا متحوّرًا ينشأ متوسّطّا بين مخارج الجيم والقاف والكاف، يصفونه بأنه صوت مجهور، وهو من حيث الانتشار صوت عالمي، معروف في كثير من اللغات القديمة كالفارسية والحديثة كاللغات الأوربية، ولكنه في العربية صوتٌ لهجيٌّ مرذول، عرفه علماء العربية منذ القرن الثاني، وجعلوه من الأحرف المستقبحة حين يحصون تفريعات الحروف الصوتية ويصلون بها إلى اثنين وأربعين حرفًا أو صوتًا، ووصفه سيبويه وابن قتيبة وابن دريد وأبو سعيد السيرافي وابن فارس وأبو حيّان وابن خلدون وغيرهم، ويسميه سيبويه وكل القدماء حرفًا، والحرف والصوت في عرفهم شيء واحد.

 ويمتاز هذا الحرف أو الصوت عن غيره بأنه يرجع لأحد ثلاثة أحرف، بحسب الكلمة التي هو فيها، وليس صوتا أحاديا كغيره من الأصوات اللهجيه الفرعية، فهو من ظاهرة لغوية خاصّة، نسميها القَفْقَفَة، وتظهر الأصول الثلاثة لهذا الصوت المقفقف في الصور الآتية:

الصورة الأولى: تقريب القاف إلى الكاف فيأتي الصوت متوسطا بين مخارج القاف والكاف والجيم، وأول من ذكره بهذا ابن دريد والسيرافي وغيرهما، ويُكتب عند القدامى بحرف يسمونه الگاف الفارسية، قال ابن دريد: «فأما بنو تميم فإنّهم يُلحقون القاف باللهاة فتَغْلُظ جدًّا، فيقولون للقَوْم: الكَوْم، فتكون القاف بَين الكاف والقاف وهذه لُغَة معروفة في بني تَمِيم؛ قال الشّاعر:

ولا أَكُول لكِدْرِ الكَوْمِ كَدْ نَضِجَتْ      ولا أَكُولُ لبابِ الدَّار مَكْفُولُ»(1)

هكذا كتبوها بالكاف الخالصة، لأنهم لا يملكون رمزًا مناسبًا، ولعلهم كتبوها بالكاف الفارسية، ثم غفل النسّاخ عن ذلك، لما بينهما من تقارب، وقال السيرافي: «ورأينا من يتكلّم بالقاف بين القاف والكاف، فيأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف»(2).

وقد أصدر مجمعنا قبل سنوات قرارين (العاشر والحادي عشر) في هذا الصوت المقفقف من القاف، أحدهما لاسمه والآخر لرسمه، فأسميناه حرف القيف أو صوت القيف، ورسمناه بقاف منقوطة باثنتين من تحت، وشاع بفضل الله ثم بمساعدة المصطلح والرسم.

الصورة الثانية:  تقريب الجيم إلى القاف والكاف فيأتي الصوت متوسّطًا بينها، ومثاله: گمَل ورَگل (چَمَل ورَچُل) في جَمَل ورَجُل، وذكروا أنها لهجة في اليمن، ويسمونها الجيم اليمنية، أو الجيم القاهرية، ورسموه بالكاف الفارسية أيضا، قال ابن دريد: «ومثل الحرف الذي بين القاف والكاف والجيم والكاف، وهي لُغة سائرةٌ في اليمن، مثل: جَمَل إذا اضطروا قالوا: كَمَل، بين الجيم والكاف»(3)، وقال السيرافي: «وأما السبعة الأحرف التي هي تتمة الاثنين والأربعين حرفًا فأوّلها الكاف التي بين الجيم والكاف، وقد أخبَرَنا ابن دريد أنها لغة في اليمن، يقولون: في جَمَل: كَمَل، وهي كثيرة في عوامّ أهل بغداد، يقولون: كَمَل ورَكُل في: جَمَل ورَجُل، وهي عند أهل المعرفة منهم معيبة مرذولة، والجيم التي كالكاف، هي كذلك، وهما جميعا شيء واحد، إلا أن أصل أحدهما الجيم وأصل(4) الآخر الكاف، ثم يقلبون إلى هذا الحرف الذي بينهما»(5).

الصورة الثالثة:  تقريب الكاف إلى الجيم فيأتي الصوت بين الكاف والجيم والقاف، ويفسّره الدكتور محمد الأنطاكي(6) بأن الكاف التي بين الجيم والكاف هي ما ننطقه في الرسم الأجنبي (g) وذكر أنه هو المسموع في كلام عوامّ اللاذقيّة والشّام في قولهم: الله أگبر (agbar). ومثّل لهذا الصوت ركنُ الدين الإستراباذي وذكر أنّ من العرب من يأتي في موضع الكاف من نحو:كسب ووكد بحرف بين الكاف والجيم(7)، وقال: «وأما الجيم التي كالكاف، وهي عكس الكاف التي كالجيم، فلا يتحقّق أنها غير الكاف التي كالجيم، بل هما شيء واحد»(8).

وهذا الصوت الثالث كالأول والثاني، عند من ينطقه قيفًا، والثلاثة في نطق الصوت وسماعه شيء واحد، فمثلا: (الݠدر) مفرد القدور، و(الرَّݠُل/الرَچُل) وجمعه رجال، و(الله أَݠْبَر/أگبر) في التكبير= تنطق بصوت واحد، وهو الصوت الذي نسميه القيف، ولكن الثلاثة تختلف في الأصل، فكل منها يعود إلى حرف مختلف. والعِلّة في هذه الحالة الفريدة لهذا الصوت أنّ الحروف الثلاثة (القاف والكاف والجيم) متقاربة في المخرج، فوقع هذا الصوت بينها، فتارة تُقرّب القافُ إلى الكاف (القدر= الݠدر) وتارة تُقرّب الجيم إلى الكاف (رَگل وگمَل = رَچُل وچَمَل) وتارة تُقرّب الكاف إلى الجيم والقاف (الله أكبر = أَݠْبَر)، وينتج عنها صوت يماثل في نطقه الحرف: g في كلمة: good في اللغة الإنݠليزية.

ما الحاجة إلى تحرير المصطلح والرسم؟
أدرك القدماء أنّ هذا الحرف المقفقف يحتاج إلى رسم خاصّ، فاختاروا له الكاف الفارسية، وهي كالكاف العربية فوق عصاها المائلة عصًا موازية كالفتحة، هكذا (گـ) ولم ينظروا إلى أصل الحرف المقفقف، أقافٌ هو أم جيمٌ أم كاف، ولم ينظروا إلى تفرّد هذا الصوت عن غيره، فلم ينجح هذا الرمز، إذ كان سببًا في انحرافات صوتية وأخطاء؛ لأنه يوهم القارئ بأن الأصل كاف فينطقه كافًا. وعند النظر في حال الجيم اليمنية (القاهرية) والقاف التميمية (القَيْف) يظهر تداخلهما والتباسهما؛ لأنهما شيء واحد في السمع، وهما مختلفان في الأصل، الأولى من الجيم والثانية من القاف، ومثال ذلك كلمة (ݠليل) فحين تقول (هذا ݠليل) فإنها تحتمل قليلا وجليلا، وحين ترسمها بالكاف الفارسية (الگليل) تلتبس بالكليل، وإن رسمتها بالقيف العربية (ݠليل) غلب على ظنك أن أصلها القاف، ولا تعلم أصلها على وجه اليقين، إلا بقرينة من سياق أو غيره؛ لأنّ القفقفة ثلاثية الأصول، مع تقارب قفقفة القاف وقفقفة الجيم في كثرة الاستعمال اللهجي وتقارب مناطق الانتشار وتداخلها أحيانًا، وكذلك حين تقول وتكتب: (رَݠّه يرُݠّه) فإنها تحتمل رجّه يرُجّه ورقّه يرُقّه، وكذلك (الݠبر) تحتمل القبر والجبر، وكذلك (رݠع يرݠع) تحتمل رجع يرجع ورقع يرقع. وتكتب: (أَعْݠَبَه) فلا تدري أهي أَعْقَبَه أم أَعْجَبَه؟ وإن سمعت أو قرأت: (المَݠَرّ) لم تدر من غير سياق أهو المجرّ أم المقرّ، وكذلك: (الݠُرْعة) لا يُدرى من غير سياق أهي الجُرْعة أم القُرْعة، و(مݠروح) لا يُدرى من غير سياق أهي مجروح أو مقروح من القرح. ومثل هذا كثير، ومنه المقفقف من حرف الكاف أيضا، ولا يخفى ما في هذا من تداخل ولبس.

  وتبرز الحاجة إلى رمز كتابي دقيق عند قراة نصوص العلماء المتقدمين، كنص ابن دريد المشار إليه في قول الشاعر: (ولا أكُولُ لكِدْر الكَوْم...) ونصّ الخطابيُّ: «الكَبْهة لغة رديئة في الجَبْهة، ومثله في كلامهم: الكَبَل والرَّكُل يريدون: الجَبَل والرَّجُل وهو من كلام جفاة الأعراب»(9)، فهذا وأمثاله يوهم أنهم يُبدلون الجيم كافًا خالصة، وسبب الوهم الرسم، وانتفاء المصطلح المناسب للحرف، ولو كان لدى اللغويين العرب مصطلح مناسب ورمز كتابي لكلٍّ من تلك الأصوات المقفقفة الثلاثة لكان ذلك أوفى وأكمل.

ولذا نقترح أن يكون لهذا الصوت المقفقف الفريد ثلاثي الأصول ثلاثة مصلحاتٍ، ولكلٍّ منها رمزه الكتابي الخاصّ، كما يأتي:

1-  حرف القيف، وقد فرغنا منه سابقًا، وهو الصوت المقفقف من القاف، ورمزه القاف المنقوطة باثنتين من أسفل، هكذا: الݠدر، لهجة في القَدْر.

2-  حرف الجَيْف، وهو الصوت  المقفقف من الجيم، ورمزه الجيم منقوطة بثلاث من تحت، هكذا: الچَدْر، لغة في الجَدْر، وسماه كمال بشر: الجاف(10).

3-  حرف الكَيْف، وهو الصوت المقفقف من الكاف، ويرمز له بالكاف الفارسية، وهي أقرب له، ومثاله: أگبر، لهجة في أكبر.

فهذه  ثلاثة رموز على وزن واحد، القَيْف والجَيْف والكَيْف، يشير الحرف الأول من كل منها إلى الأصل الفصيح، وهي متاحة ضمن الرموز الإضافية في الأجهزة الحاسوبية، والمصطلح يزيل اللبس للسامع والرمز الكتابي يزيل اللبس للقارئ.

وإليكم نص ابن دريد بعد كتابته بما يناسبه من الرموز: قال: «ومثل الحرف الذي بين القاف والكاف والجيم والكاف، وهي لُغة سائرةٌ فِي اليمن، مثل: جَمَل إذا اضطروا قالوا: چَمَل، بين الجيم والكاف....، فأما بنو تميم فإنّهم يُلحقون القاف باللهاة فتَغْلُظ جدًّا، فيقولون للقَوْم: الݠَوْم، فتكون القاف بين الكاف والقاف وهذه لُغَة معروفة في بني تَمِيم؛ قال الشّاعر:
ولا أَݠُول لݠِدْرِ الݠَوْمِ ݠَدْ نَضِجَتْ      ولا أَݠُولُ لبابِ الدَّار مَݠْفُولُ»

وهذا نص الخطّابي برمز الجيف: «الچَبْهة لغة رديئة في الجَبْهة، ومثله في كلامهم: الچَبَل والرَّچُل يريدون: الجَبَل والرَّجُل، وهو من كلام جفاة الأعراب».

وتأمل كيف يزول اللبس بين الألفاظ المقفقفة التي مثلنا بها آنفا: (ݠليل وچليل) و(رَݠَع، ورچع) و(رَݠّه يَرُݠّه ورَچّه يَرُچّه) و(الله أگبر).

إننا نريد أن تكون مصطلحاتنا دقيقة معبّرة لا لبس فيها، ومن هنا جاءت الحاجة إلى مصلح دقيق يُعين الباحثين اللهجيين؛ يفصل بين ما أصله القاف وما أصله الجيم وما أصله الكاف في ظاهرة القفقفة، وكنا اقترحنا مصطلحَ القيف للقاف التميمية، أو القاف البدوية، التي وصفها ابن دريد، ثم اخترنا له رسمًا خاصًّا وهو القاف المنقوطة باثنتين من تحت، ونجح المصطلح ورسمه، واليوم نأمل إكمال مصطلحات القفقفة، فالقَيْف والجَيْف والكَيْف، ثلاثة أصوات متماثلة، لظاهرة القفقفة، وكل منها يعبّر بحرفه الأول من اسمه عن أصله.

وأما الأعلام الأجنبية، فيكتب ما فيه حرف g الإنݠليزية وما يماثلها بالقيف مطلقا؛ لأنّ نُطقه فيها ثابت، وهو صوت مماثل لنطق القيف في لهجاتنا، فيحسن الاصطلاح بكتابته بحرف واحد هو القيف، وأمثلته:  google= ݠوݠل، وݠولدتسيهر، وMargoliouth/ مرݠليوث، وEngland/ إنݠلترا، ونحو هذا.

عبدالرزاق الصاعدي
ملحوظة: فُرغ من هذا المقال بتاريخ 16/ 11/ 1438هـ 
ووردت الفكرة والمصطلحات في تغريدات قبل عدة سنوات


(1) الجمهرة 1/ 42.
(2) شرح السيرافي 13/ 13 تحقيق قلعجي.
(3) الجمهرة 1/ 42.
(4) في المطبوع: الأصل.
(5) شرح السيرافي 17/ 10 تحقيق قلعجي.
(6) المحيط في أصوات العربية 1/ 44.
(7) شرح شافية ابن الحاجب 2/ 923.
(8) شرح شافية ابن الحاجب 2/ 922.
(9) غريب الحديث للخطابي 2/ 329.
(10) اقترح الدكتور كمال بشر لهذا الصوت مصطلح (الجاف)، وقبله في عام 1959 اقترح محمد فريد أبو حديد حرف الجاف لما نسميه القيف، ورد ذلك في كلامه عن ميزات اللهجة الليبية فذكر منها: «أن القاف تنطق عندهم جيما قاهرية وهي حرف الجاف، وشأنهم في ذلك شأن العري في كثير من البلاد العربية» (اللهجات العربية بحوث ودراسات 517) الطبعة الثانية وهو من بحث عرض  في الجلسة الثامنة لمؤتمر الدورة الخامسة والعشرين سنة 1959م بعنوان بعض ملاحظات في اللهجة العربية الليبية وصلتها بالفصحى) ونراها تسمية غير مناسبة، ولو جعلها للحرف المقفقف من الجيم لكان أوفق، واختيارنا للجيف من أجل التوازن الصوتي بينه وبين القيف.