هذه عصور الاحتجاج وهذا موقفي منها
اضطرب
علماء العربية فيما يسمّونه عصور الاحتجاج أو الحدود الزمانية اضطرابا واضحًا، فلم يكن لهم رأيٌ صريح حاسم في تحديدها في الحاضرة
والبادية، ومن أسْفٍ أنهم لم يميزوا بين النحو والمعجم في ذلك، وكل ما راج عند
المتأخرين مستنبطٌ من أقوالٍ لبعضهم وأحكام على بعض الشعراء كابن هرمة وبشار وأبي
تمام، فزمن الاحتجاج عند بعضهم منتصف القرن الثاني أو نهايته في الحواضر، ويزيدون على ذلك قرنين فيما يخصّ البادية.
وغالَى أبو عمروبن العلاء في تحديد زمن الاحتجاج
فأخرج الفرزدق وجريرًا من شعراء الاحتجاج وعدّهم مولدَين. قال السيوطي (المزهر 2/ 488): ((كان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد حَسُن
هذا المولد حتى هممت أن آمُر صِبياننا بروايته، يعني بذلك شِعرَ جرير والفرزدق،
فجعله مولَّداً بالإضافة إلى شعر الجاهلية والمُخضرمين، وكان لا يَعُدّ الشعر إلا
ما كان للمتقدمين.
قال الأصمعي: جلستُ إليه عَشر
حِجَج، فما سمعتُه يحتجُّ ببيت إسلامي. وسُئِل عن المولَّدين فقال: ما كان من
حَسَنٍ فقد سُبقوا إليه، وما كان من قبيحٍ فهو من عندهم، ليس النمط واحدًا، هذا
مذهب أبي عمرو وأصحابه كالأصمعي وابن الأعرابي، أعني أن كلَّ واحد منهم يذهبُ في
أهل عصره هذا المذهب، ويقدم مَنْ قبلهم، وليس ذلك لشيء إلا لحاجتهم في الشعر إلى
الشاهد، وقلةِ ثقتهم بما يأتي به المولَّدون)). قلت: وهذا الذي نراه في كلام أبي
عمرو أقرب إلى المعيار النقدي، فلا يعتد به، والإجماع شبه منعقد على أن شعر الفرزدق
وجرير والأخطل مما يحتج به.
وقال
السيوطي في (الاقتراح ص 120): ((أجمعوا على أنه لا يحتجّ بكلام المولّدين والمحدثين
في اللغة العربية))، ثم ذكر فائدة (ص 122) قال: ((أول الشعراء المحدثين: بشّار، وقد
احتج سيبويه في كتابه ببعض شعره تقرّبا إليه؛ لأنه كان هجاه لتركه الاحتجاج بشعره.
ذكره المرزباني وغيره)).
ونقل
ثعلب عن الأصمعي (وهو من أرباب التشدّد في اللغة) قوله: ((خُتِمَ الشعر بإبراهيم
بن هَرْمة، وهو آخر الحجج)) (الاقتراح 122، 123) ومعلوم أن وفاة ابن هرمة كانت سنة
176هـ
وذكر
البغدادي في مقدمة الخزانة (ص 1/ 5، 6) كلاما مطوّلا في هذا، وقسم الشعراء إلى
طبقات، قال: ((قال الأندلسي فِي شرح بديعية رَفِيقه ابن جابر عُلُوم الأدب سِتَّة
اللُّغَة والصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع والثَّلاثة الأول لا يستشهد عليها
إلَا بكَلام العَرَب دون الثَّلاثة الأخيرة فإنّهُ يستشهد فيها بكَلام غيرهم من
المولدين لأنَها راجعة إلى المعاني ولا فرق في ذلك بين العَرَب وغيرهم إذ هو أَمرٌ
راجع إلى العقل ولذلك قبل من أهل هذا الفَنّ الاستشهاد بكلام البحتري وأبي تمام وأبي
الطّيب وهلم جرا هـ
وأَقُول:
الكَلام الّذي يستشهد به نوعانِ شعر وغيره فقائل الأول قد قسمه العلماء على
طَبَقَات أَربع:
الطَّبَقَة
الأولى: الشُّعَرَاء الجاهليون، وهم قبل الإِسلام كامرئ القَيْس والأعشى.
الثَّانِيَة:
المخضرمون، وهم الَّذين أدركوا الجاهليّة والإسلام كلبيد وحسان.
الثّالثة:
المتقدّمون، ويُقال لهم الإسلاميون، وهم الَذين كانوا في صدر الإسلام كجرير
والفرزدق.
الرَّابِعَة:
المولدون، ويُقال لهم المحدثون، وهم من بعدهم إلى زَماننا كبشار بن برد وأبي نواس.
فالطبقتان
الأوليان يستشهد بشعرهما إِجماعًا وأما الثَّالِثَة فالصَّحيح صِحة الاستشهاد
بكلامها، وقد كانَ أَبُو عَمْرو بن العَلاء وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن البَصريّ
وعبد الله بن شبْرمَة يُلحِّنون الفرزدقَ والكميتَ وذا الرمة وأضرابَهم)).
وقال
ابن الطيب الفاسي في فيض نشر الاقتراح 1/ 611: ((وبعضهم فرق بينهما، فقال:
المولدون من بعد الإسلام كبشار، والمحدثون من بعدهم كأبي تمّام، وفي ذلك كلام طويل
أودعناه غير كتاب، كشرح شواهد البيضاوي وشرح كفاية المتحفظ، وحاصله أن الشعراء طبقات)).
فأنت
ترى أن اللغويين يتفاوتون في تحديد عصور الاحتجاج، لكن السائد عند المتأخرين أن
عصور الاحتجاج عصران، ينتهى أولهما في منتصف القرن الثاني في الحواضر وأما ثانيهما
فعصر الاحتجاج في البادية، وهو مختلف فيه، فيرى بعضهم أنه ينتهي بنهاية القرن الثالث،
ويرى بعضهم أنه منتصف القرن الرابع، وحدّده بعضهم بنهايته، ويشهد لهذا الأخير صنيع أبي منصور الأزهري (ت 370هـ) في التهذيب ونقله عن أعراب نجد الذين وقع في أسرهم، وكذلك صنيع الجوهري (ت 392هـ) إذ قال في مقدمة الصحاح إن من مصادره مشافهته العرب العاربة في ديارهم بالبادية .
وهذا
التأطير الزماني مقبولٌ بل واجب في النحو والتصريف من أجل بناء معيارية مستنبطة من نصوص لم يداخلها اللحن، وأما المعجم
فينبغي أن يستثنى من ذلك، لأن اللحن إنّما فَشَا في التراكيب والبِنَى الصرفية،
وأمّا الوحدات المعجميّة فبقيت -في الجملة- سليمة إلى القرن الثامن، وبخاصة في البادية،
بل إننا في زماننا اليوم نجد ألفاظًا من الغريب والحوشي متوارثة من فصيح العربية
مما يظنه اللغوي من كلام العامة فتفجأهُ مطالعةُ المعاجم إذ يجد فيها ما يُصدِّق
كلامَهم، فإن كانوا يحافظون على الغريب والحوشي فهم أولى بغيره، فعلينا ألا نستهين
بالمعجم البدوي، وبخاصّة حين يكون واسع الحيّز المكاني، في قبائل عدة، على الشرط
الذي بنيتُهُ في معايير الفوائت الظنية.
ويُصدِّقُ
منهجي في مدِّ عصر الاحتجاج في المستوى المعجمي دونَ النحويّ والصرفيّ أنّ الزمخشري
كان يُدوِّن سماعاتِه في القرن السادس، ويروي عن أعراب الحجاز، ويُمعجم كلامهم في
معجمه الفذّ أساس البلاغة، ورأيت الصغاني يفعل مثل فعله، ولكن بحذر، ثم فَعَلَ
فعلهما الزَّبيديُّ في التاج، ولكن على استحياء شديد.
عبدالرزاق
الصاعدي
المدينة
المنورة
25
رمضان 1438هـ الموافق 20 يونيو 2017م