مفهوم المولّد في اللغة وصناعة المعجم
ليس لمعجم اللغة الحيّة أن يبقى في حالة ثبات عند زمن معين، وليس للمحصول
اللفظي أن يتوقّف عن النموّ مع جريان الزمن وكثرة الاستعمال وتجدد حاجات الحياة، فالحاجة
إلى ألفاظٍ جديدة تجدد مع تجدد الحياة وتطورها، فنرى ألفاظا تنشأ أو دلالات لألفاظ مستعملة تتطور وتأخذ معنى جديدًا
بفضل الحاجة وقوة الاستعمال، وتكمن أهمية المولد بشقّيه اللفظي والمعنوي بأنه يحقّق
عنصر النمو الإيجابي في اللغة ويلبّي حاجات المجتمع ومتطلبات التطور الحضاري. ومما
ولّده الناس بالاشتقاق أو التطور الدلالي في العصور المتعاقبة بعد عصور الاحتجاج
إلى عصرنا هذا: السيّارة والقطار، والطائرة، والجرّافة، والهاتف، والجوّال،
والمخابرات، والمباحث، والعولمة، والضرائب، والرسوم، والجمارك، والتصحّر، والشهادة
الجامعية، والمؤسسة التعليمية، والجريدة بمعنى الصحيفة، ودفتر الصادر، ودفتر
الوارد، والصندوق الأسود، والتقاعد، والضّمان الاجتماعي، والبصمات، ومحكمة
الاستئناف، والغسّالة، والخلاطة، وسَلّة المهملات، والشريط الحدودي، ومقصّ الرقابة،
وتطبيع العلاقات، ونحو ذلك من المولّدات في الألفاظ والدلالة وهي كثيرة جدا. فما معنى المولّد؟ ومن هم المولّدون؟ وما موقف
علمائنا القدماء منه؟
معنى المولد في اللغة والاصطلاح:
من معاني المولّد والتوليد الحدوث والطروء والتجدّد، قال ابن سيده ((المُوَلَّد: المُحدَثُ من كلِّ شيء، ومنه:
المُوَلَّدون من الشُّعَراء، وإنما سُمُّوا بذلك لُحدُوثهم)) [المحكم (ولد) 10/
131، وينظر: اللسان (ولد) 3/ 470] والمولدون هم المتكلّمون بالعربية الذين جاؤوا
بعد عصر الفصاحة، ودخول اللحن في كلام العرب.
وبنظرة تاريخية لا نكاد نجد تعريفًا دقيقًا عند القدماء، بل نرى المصطلح
يدور في كتابات بدلالة عامة، وهي ما أحدثه
المولدون في اللغة، ففِي مُخْتَصر العين [مادة (ولد) 2/
317] للزُّبيدي أَنّ ((المولّد من الكلام: المحدَث)) وقال الأزهريّ: ((وإنَّما
سُمِّي المولَّدُ من الكلام مُولَّداً إِذا استحدثوه، ولم يكن من كلامهم فيما مضى))
[التهذيب (ولد 14/ 178] وقال الزمخشري ((ومن
المجاز: ولّدوا حديثاً وكلاماً: استحدثوه. وكلام مولّد: ليس من أصل لغتهم، وشاعر
مولد)) [الأساس (ولد) 508] وقال السيوطي: المولد
هو ((ما أحدثه المولّدون الذين لا يحتجّ بألفاظهم)) [المزهر 1/ 304].
إنّ كل ما استحدثه المولدون في اللغة بعد عصور الفصاحة يعد مولّدا، ويستوى
في ذلك الألفاظ والتراكيب ويستوى ما ولدوه بطريق الاشتقاق أو الارتجال أو التعريب
أو تغيير الدلالة أو اللحن أو التحريف [ينظر: الصناعة المعجمية عند البستاني في محيط
المحيط لعبدالله الفضيخ 325] وبهذا يمكن القول إنّ المولّد في الجملة عند عامّة المتقدّمين
((يشمل كلّ ما تجدّد في العربية بعد عصور الاحتجاج، عربيا كان أو غيره، موافقا
للقياس أو مخالفا له، واقعّا في استعمال العوامّ أو في استعمال الخواصّ، مستعملا
في اللغة العامة أو في اللغة العلمية)) [المولد بين الفيروزابادي وشهاب الدين
الخفاجي لمحمد عفيفي ص 22 ونقلته من: الصناعة المعجمية عند البستاني في محيط
المحيط لعبدالله الفضيخ ص326].
وعرّفه الدكتور محمد حسن جبل بقوله: ((المولّد من اللغة هو ما ابتُكر من
الألفاظ العربية بعد عصور الاحتجاج إما بلفظه (صيغته ومعناه) أو بصيغته فقط أو
بمعناه فقط أو كان عبارة أو استعمالا كذلك)) [الاستدراك على المعاجم العربية 45] ولكن
من هم المولّدون؟ وما زمانهم؟
وبهذا يتضح أن مفهوم المولد عندهم واسع فيشمل ما وافق القياس أو وجها منه أو
لغة من لغات العرب أو خالف القياس وهو كلام العامّة أو لحن العامة.
الحدود الزمانية للمولّد:
لا
نجد للمولد عند القدماء عصرًا أو قرنًا يجمعون عليه، فمنهم من جعل شعراء القرن
الثاني مولدين، وغالى أبو عمرو بن العلاء في تحديد زمن الاحتجاج فأخرج الفرزدق
وجريرًا من شعراء الاحتجاج وعدّهم مولدَين. قال السيوطي: ((كان أبو عمرو بن العلاء
يقول: لقد حَسُن هذا المولد حتى هممت أن آمُر صِبياننا بروايته، يعني بذلك شِعرَ
جرير والفرزدق، فجعله مولَّداً بالإضافة إلى شعر الجاهلية والمُخضرمين، وكان لا يَعُدّ
الشعر إلا ما كان للمتقدمين))
[المزهر 2/ 488]: وقال: ((وقال الأصمعي: جلستُ إليه عَشر حِجَج،
فما سمعتُه يحتجُّ ببيت إسلامي. وسُئِل عن المولَّدين فقال: ما كان من حَسَنٍ فقد
سُبقوا إليه، وما كان من قبيحٍ فهو من عندهم، ليس النمط واحدًا، هذا مذهب أبي عمرو
وأصحابه كالأصمعي وابن الأعرابي، أعني أن كلَّ واحد منهم يذهبُ في أهل عصره هذا
المذهب، ويقدم مَنْ قبلهم، وليس ذلك لشيء إلا لحاجتهم في الشعر إلى الشاهد، وقلةِ
ثقتهم بما يأتي به المولَّدون)) [المزهر
2/ 488] قلت: وهذا الذي نراه في كلام أبي عمرو أقرب إلى المعيار النقدي،
فلا يعتد به، والإجماع شبه منعقد على أن شعر الفرزدق وجرير والأخطل مما يحتج به في
اللغة.
وقال السيوطي في [الاقتراح ص 120]: ((أجمعوا على أنه لا يحتجّ بكلام
المولّدين والمحدثين في اللغة العربية))، ثم ذكر فائدة فقال: ((أول الشعراء المحدثين: بشّار، وقد احتج
سيبويه في كتابه ببعض شعره تقرّبا إليه؛ لأنه كان هجاه لتركه الاحتجاج بشعره. ذكره
المرزباني وغيره)) [الاقتراح 122]. ونقل ثعلب عن الأصمعي (وهو من أرباب التشدّد في
اللغة) قوله: ((خُتِمَ الشعر بإبراهيم بن هَرْمة، وهو آخر الحجج)) [الاقتراح 122،
123] ومعلوم أن وفاة ابن هرمة كانت سنة 176هـ.
وذكر البغدادي في مقدمة الخزانة [ص 1/ 5، 6] كلاما مطوّلا في هذا، وقسم
الشعراء إلى طبقات، قال: ((قال الأندلسي فِي شرح بديعية رَفِيقه ابن جابر عُلُوم
الأدب سِتَّة اللُّغَة والصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع والثَّلاثة الأول
لا يستشهد عليها إلَا بكَلام العَرَب دون الثَّلاثة الأخيرة فإنّهُ يستشهد فيها
بكَلام غيرهم من المولدين لأنَها راجعة إلى المعاني ولا فرق في ذلك بين العَرَب
وغيرهم إذ هو أَمرٌ راجع إلى العقل ولذلك قبل من أهل هذا الفَنّ الاستشهاد بكلام
البحتري وأبي تمام وأبي الطّيب وهلم جرا هـ
وأَقُول: الكَلام الّذي يستشهد به نوعانِ شعر وغيره فقائل الأول قد قسمه
العلماء على طَبَقَات أَربع:
الطَّبَقَة الأولى: الشُّعَرَاء الجاهليون، وهم قبل الإِسلام كامرئ القَيْس
والأعشى.
الثَّانِيَة: المخضرمون، وهم الَّذين أدركوا الجاهليّة والإسلام كلبيد
وحسان.
الثّالثة: المتقدّمون، ويُقال لهم الإسلاميون، وهم الَذين كانوا في صدر
الإسلام كجرير والفرزدق.
الرَّابِعَة: المولدون، ويُقال لهم المحدثون، وهم من بعدهم إلى زَماننا
كبشار بن برد وأبي نواس.
فالطبقتان الأوليان يستشهد بشعرهما إِجماعًا وأما الثَّالِثَة فالصَّحيح
صِحة الاستشهاد بكلامها، وقد كانَ أَبُو عَمْرو بن العَلاء وعبد الله بن أبي إسحاق
والحسن البَصريّ وعبد الله بن شبْرمَة يُلحِّنون الفرزدقَ والكميتَ وذا الرمة
وأضرابَهم)).
ويتّضح بهذا تفاوت اللغويين في تحديد عصور الاحتجاج، لكن السائد عند
المتأخرين أنّ عصور الاحتجاج عصران، ينتهى أولهما في منتصف القرن الثاني في
الحواضر وأما ثانيهما فعصر الاحتجاج في البادية، وهو مختلف فيه، فيرى بعضهم أنه ينتهي
بنهاية القرن الثالث، ويرى بعضهم أنه منتصف القرن الرابع، وحدّده بعضهم بنهايته،
ويشهد لهذا الأخير صنيع أبي منصور الأزهري (ت 370هـ) في التهذيب ونقله عن أعراب
نجد الذين وقع في أسرهم، وكذلك صنيع الجوهري (ت 392هـ) إذ ذكر في مقدمة الصحاح أنّ
من مصادره مشافهته العرب العاربة في ديارهم بالبادية .
حكم المولّد وحدوده وضابط قبوله في المعجم الشامل:
إن كان علماؤنا مجمعون على ترك لحن العامّة وكلامهم المخالف لأقيسة العربية،
فإنهم مختلفون في قبول المولّد الجاري على
القياس، أو ما يوافق وجها من أوجه العربية، فمنهم من لم يقبله ولم يعدّه من لغة
العرب، ومنهم قبل بعضه واستشهد بشعر بعض المولّدين، ولا سيّما في اللغة دون النحو
والتصريف، وقد فتح المازنيُّ ومن جاء بعده كابن جني بابَ الشرعية اللغوية للمولد
الجاري على سنن كلام العرب في قاعدتهم الشهيرة (ما قيس على كلام العرب فهو من
كلامهم) وعقد ابن جني له بابًا: سَمّاه ((باب
في أنّ ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب)) وقال فيه: ((هذا موضع شريف.
وأكثر الناس يضعف عن احتماله لغموضه ولطفه. والمنفعة به عامة, والتساند إليه مقوٍ
مجدٍ. وقد نص أبو عثمان [المازني] عليه فقال: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام
العرب؛ ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول وإنما سمعت البعض
فقست عليه غيره. فإذا سمعت "قام زيد" أجزت ظَرُف بشر, وكَرُم خالد.)) [الخصائص
1/ 357]، وقال: ((وهذا باب مطّرد متقاود.
وقد كنت ذكرت طرفًا منه في كتابي "شرح تصريف أبي عثمان"؛ غير أن الطريق
ما ذكرت لك. فكل ما قيس على كلامهم فهو من كلامهم. ولهذا قال من قال في العجاج
ورؤبة: إنهما قاسا اللغة وتصرفا فيها وأقدما على ما لم يأت به من قبلهما))، وقال:
((أقوى القياسين أن يقبل ممن شُهِرَت فصاحته ما يورده)) [الخصائص 2/ 27]، وقال: ((وذكر
أبو بكر أن منفعة الاشتقاق لصاحبه أن يسمع الرجل اللفظة فيشكّ فيها, فإذا رأى الاشتقاق
قابلًا لها أَنِسَ بها وزال استيحاشه منها. فهل هذا إلا اعتمادٌ في تثبيت اللغة
على القياس؟)) [الخصائص 1/ 369].
ويلحق بهذا عند ابن جني وشيخه الفارسي ومن وافقهم المعرّبُ الجاري على سنن
العرب في التعريب، قال ابن جني: ((قال أبو علي: إذا قلت: "طاب الخُشْكُنان فهذا من كلام العرب؛ لأنك بإعرابك إيّاه قد
أدخلته كلام العرب. ويؤكّد هذا عندك أنّ ما أُعرب من أجناس الأعجمية قد أجرته
العرب مجرى أصول كلامها، ألا تراهم يصرّفون في العلم نحو آجُر وإبْرَيْسَيم وفِرِنْدٍ
وفيروزجُ وجميعَ ما تدخله لام التعريف. وذلك أنه لما دخلته اللام في نحو الدّيباج,
والفِرِند والسُّهريز، والآجُر؛ أشبه أصول كلام العرب, أعني النكرات. فجرى في
الصرف ومنعه مجراها))[الخصائص 1/ 357] وقال: ((قال أبو علي: ويؤكد ذلك أن العرب
اشتقت من الأعجمي النكرة, كما تشتق من أصول كلامها، قال رؤبة:
هل يُنْجِيَنِّي حَلِفٌ سِخْتِيتْ
أو فِضّةٌ أو ذَهَــبٌ كِبْرِيتْ
قال: فسِخْتِيت من السّخت؛ كزِحْلِيل من الزَحل.
وحكى لنا أبو علي عن ابن الأعرابي؛ أظنه قال: يقال دَرْهَمَتِ الخُبّازَى؛
أي صارت كالدّراهم فاشتُقّ من "الدرهم" وهو اسم أعجميّ. وحكى أبو زيد:
رجل مُدْرَهم. قال: ولم يقولوا منه: دُرْهِمَ، إلا أنّه إذا جاء اسم المفعول
فالفعل نفسه حاصل في الكف. ولهذا أشباه))[الخصائص 1/ 357، 358].
وعلى هذا النهج المعتدل سار كثير من علماء العربية المعاصرين ومجامع اللغة،
ومنها مجمع القاهرة في قراراته وأعماله المعجمية، كالمعجم الوسيط والمعجم الكبير، وقبلوا
المولّد الذي يوافق أقيسة العربية وما يمكن حمله على لغة من لغات العرب.
والمولد في رأيي هو: كلُّ ما أُحدث في
اللغة بعد عصور الاحتجاج (منتصف القرن الثاني في الحاضرة ونهاية القرن الرابع في
البادية) من لفظ أو دلالة، باشتقاق أو ارتجال أو تعريب أو تغيير دلالة؛ مما يجرى
على القياس أو يوافق وجها من أوجه العربية أو لغة من لغات العرب، ويتضمّن عند
التفصيل الأنواع الآتية:
1-
اللفظ المشتق الموافق للقياس.
2- اللفظ الشائع الجاري على وجه من أوجه العربية، أو لغة من لغات العرب.
3-
الدلالة المولدة الشائعة الناشئة بوسيلة من وسائل التطور الدلالي.
4-
المعرب الجاري على سنن العرب في التعريب.
وبهذا التعريف يُستبعدُ لحنُ العامّة، وهو ما أحدثه المولّدون بعد عصور
الاحتجاج إلى يومنا مما لا يوافق قياسًا من أقيسة العربية أو وجهًا من وجوهها أو
لغة من لغاتها، ويمكن الإشارة إلى لحن العامّة في قسم الدراسة وبخاصة ما ورد منه
في كتب التصحيح ولحن العامة القديمة والحديثة، لشهرته، ولا يدوّن منه شيء في متن
المعجم.
وأما ما يُسميّه بعض المعاصرين بالمحدث فهو امتداد للمولد وجزء منه، ولا
حاجة لفصله عنه، لأن الأزمان تتجدد، فما يكون محدثًا في زمان سيكون قديمًا في
أزمان بعده، وعند الحاجة إلى بيان زمان المولد يمكن وصفه بما يخصصه، فيقال على
سبيل المثال: مولد قديم، أو مولد حديث، أو يربط بالعصور الشهيرة فيقال: مولد
عبّاسي أو مولد مملوكي أو مولد عثماني، وهكذا. ولا يلزم هذا في منهج المعجم الشامل،
ويكفي أن يحكم عليه بأنه مولّد؛ لأن الغَرَض تمييزُهُ عمّا جاء في عصور الاحتجاج.
عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنوروة
15 ربيع الأول 1439هـ الموافق 3 ديسمبر 2017م