الجمعة، 5 أبريل 2013

نفاضة الجراب 29: العربية لغةٌ بدوية (2)

نفاضة الجراب
العربية لغةٌ بدويّة (2)
ومما يلفت النظر أن كثيراً من ألفاظ الإبل تغيرت دلالتها عن طريق أحد ضروب التطور الدلالي الرئيسة، وهو ما يسمى (تعميم الدلالة) أو توسيعها، كـ (الرحل) وهو السرج في أصل اللغة كما ذكر الحريري، ثم صارت تعني متاع الرجل وما يستصحبه من أثاث.

ومما اتسعت دلالته من ألفاظ الإبل: (الحشو) و(الحاشية) و(الجلبة) و(الجران) و(الركب) و(الانحياز) و(الخديج) و(الإرقال) و(التقحُّم) و(القطار) و(الكوم) و(والمجد) و(المنحة) و(النتيجة) و(الرُّغاء) و(الرائد) و(الذود) و(تسنّم الشيء) ونحو ذلك وهو كثير في ألفاظ الإبل، وهنالك أضعافه في ألفاظ بدوية لا صلة لها بالإبل.
ويستطيع الجامع أن يصنع معجما من الألفاظ أو الأساليب البدوية التي اتسعت دلالتها، وارتقت معانيها في سُلّم الفكر والحضارة، فابتعدت عن أصولها القديمة التي تتصل بالإبل.

والقاعدة التي يمكن للباحث أن يتّبعها في مثل هذا النوع من البحث اللغوي الدلالي وتتبع أصول المعاني وتطورها هي أن المعنى الحسي أسبق من المعنى المعنوي، غالبا، كما قرره علماء اللغة المعاصرون، فكل معنيين اشتركا في لفظ واحد ووجدت بينهما علاقة واضحة وأحدهما حسي والآخر معنوي فالحسي هو الأصل، غالبا، كقولهم: (تسنّم ذروة المجد) فهذه مأخوذة من سنام البعير، وقولهم: (نهل من مناهل العلم والعرفان) فهذا مأخوذ من أصل حسي، وهو المنهل الذي كان يدل على عين ماءٍ تردها الإبل في الصحراء.

وقد لا يطرد هذا في كل الأحوال، ففي الصفات مثلا قد يكون الحال معكوسا، فلا يمكن الزعم أن (النجاة) مأخوذة من (الناجية) وهي صفة للناقة، لأنها تنجو بصاحبها من الهلاك في المهامه والقفار، وتبلغ به هدفه، فالأظهر في هذا أن الناجية صفة للناقة مشتقة من النجاء تفاؤلا بالفوز والظفر في رحلة مجهولة المصير.
وكذلك لا يمكن القطع بأن (الأمْن) مأخوذ من قولهم: (ناقة أمون) أي: وثيقة الخلق قد أُمِنَتْ أن تكون ضعيفة، أو هي التي أُمِنت العِثار والإعياء، بل الأظهر في ذلك أنها سميت بذلك اشتقاقا من الأمن، لأن الأمن والخوف مما ينبغى أن يكون قديما في الاستعمال اللغوي، لأنهما من لوازم الحياة الإنسانية، فلا بد للغة أن توجد لكل منهما لفظا.
ولا أقول: إن (البدانة) وهي السِّمَن مأخوذة من (البدنة) من الإبل، وهي كالأضحية تُهدى فتنحر، وإنما سمّيتْ بدنة ؛ لأنهم كانوا يسمّنونها.

والحق أنه قد يشُقّ على الباحث تمييز الأصل من الفرع في الدلالات حين تكثر المعاني لبعض الكلمات كما شق ذلك على ابن فارس في (مقاييس اللغة) ولكنه صنع لنا معجما فريدا بين المعاجم، لكن محاولته لم تجد من يتبناها من صناع المعاجم الذين أتوا بعده، سوى الزمخشري في معجمه الفذ (أساس البلاغة) الذي توسع في المعاني المجازية للكلمات بعد أن ينتهي من عرض المعاني الحقيقية، وأكثر الألفاظ من الألفاظ البدوية التي انتقلت إلى معان حضرية مجازية جميلة.

ولعلّي أتناول في مقالات لاحقة بعضا من الألفاظ التي تتصل بحياة العربي في صحرائه، وبخاصة ألفاظ الإبل، التي تؤلف مادة معجمية كبيرة كما نراه في المعاجم القديمة، فلها آلاف الألفاظ، ومنها كلمة (الأناقة) من ألفاظ الأزياء التي قد تكون متطورة من كلمة (الناقة).

أ.د.عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة
تويتر/ sa2626sa@
نشرت في جريدة المدينة (ملحق الرسالة) الجمعة 1434/5/24 هـ 2013/04/05 م العدد : 18244