من
الخطأ تخطئة "البِداية"
يُخطّئ جماعة من اللغويين المتقدّمين مَن يقول: (البِداية)
ويرون أنها لحن العامّة وأن الصواب، الهمزة: البِداءة والبُداءة والبَداءة
والبُدْأة والبِدْأة والبَدِيئة، وهنّ لغات فصيحة فيها وكلها بالهمز، وورد فيها
قلب الهمزة هاء: البداهة. ولم يرووا في معاجمهم لغة التسهيل أو قلب الهمزة ياء، ومن
رواها نصّ على خطئها، ولذا أوردوها في كتب لحن العامة. قال ابن الحنبلي في سهم الألحاظ
في أوهام الألفاظ: ومن ذلك؛ أي من أوهام العامّة: (البِدايةُ) بالياء، خلاف
النهاية. على ما في مُغرِب المُطَرِّزِيّ من أنّها عامِّيّةٌ، وأَنّ الصواب:
البِداءَة. قال: وهي فِعالةٌ، من بَدَأَ، كالقِراءة والكِلاءةِ، من قَرَأَ وكَلأ.
وقال صاحب التاج بعد أن ذكر رأي المطرّزي: عدَّها ابن بَرّيَ من
الأَغلاط، ولكن قال ابن القطّاع: هي لغةٌ أنصاريّة، بَدَأْتُ بالشيء وبَديِتُ به:
قَدّمته: وأَنشد قولَ ابن رواحة:
باسمِ
الإلاهِ وبه بَدِينَا
ولو
عَبَدْنَا غيرَهُ شَقِينَا
وظاهر كلام ابن جني إجازتها، قال في سر الصناعة: ((وقد أبدلوا
الهمزة ياء لغير علة إلا طلبا للتخفيف، وذلك قولهم في قَرَأْتُ: قَرَيْتُ وفي بَدَأْتُ
بَدَيْتُ وفي تَوَضَّأْتُ تَوَضَّيتُ، وعلى هذا قال زهير:
جَريءٌ
متى يُظلمْ يًعاقِبْ بظُلمه سَريعا وإلا يُبْدَ بالظُّلم يَظْلِمِ
أراد يُبدأ، فأبدل
الهمزة وأخرج الكلمة إلى ذوات الياء)).
وأجازها محمد العدناني في معجم الأغلاط اللغوية، وأحمد مختار
عمر في معجم الصواب وعبداللطيف شويرف في تصحيحات لغوية. وقال العدناني عَقيب كلام
ابن جني: ((فمن قال: بِداية بناه على هذه))؛ أي: إجازة بقلب الهمزة ياء لغير علة إلا
طلبا للتخفيف، وهو ضرب من ضروب التسهيل.
وأقول:كلمة "البداية" (العامية عند بعضهم) لغة
أنصارية قديمة، فرضت نفسها وتفوّقت في الاستعمال على "البُداءة" و"البِداءة"
وأخواتهما مما جاء في معاجمنا، وشاعت "البداية" منذ قرون لدى العلماء
والمثقفين، وحَسُنت في أفواه الناس وأسماعهم، والكلمات تقوى أو تضعف بما يشاكلها،
فكما ضعفت ودع ووذر وماتتا استغناء بترك قويت "البِداية" لمشاكلتها
النهاية، فتفوّقت على "البُداءة" و"البِداءة" وأخواتهما وأخملتهنّ.
وأنا أجيزها للشّاهدَين وأستحسنها للهجة الأنصارية أو الحجازية،
وأقيسها بالمشاكلة على ضدها النهاية، فبين البداية والنهاية تشاكل لغوي بالغ
الحسن، ولو كان اسم كتاب ابن كثير: [البُداءة والنهاية] لكان اسما ثقيلا فجّا،
بخلاف البداية والنهاية، ومن فقه اللغة ألا يكون اللغوي أسيراً لأقوال بعض
المتشددين في السماع والقياس، فاللغة الحية قد تحوم حول معاييرها وقد تراوغ وتلتفُّ
ولكنها لا تبتعد عن أصولها، وما أجملها حين تنساب طيّعة مرنة على ألسنة قبيلٍ من
الناس أو أٌمّة كاملة كما ينساب الماء في جدول صغير أو نهر عظيم.. فقل
"البداية" ولا حرج.
عبدالرزاق الصاعدي
26/ 3/ 1437هـ