قراءة في رحاب آية
"ومن شر النفاثات في العقد".
أليست عقدة النكاح عقدة من العقد التي ورد ذكرها في القرءان.؟
أليس النفث في عقدة النكاح هو التفريق بين المرء وزوجه بحل تلك العقدة.؟
أليست عقود المعاملات وعقود الأيمان عهود ومواثيق عقدها أصحابها على أنفسهم
بالكتابة وباللسان.؟ كما في سورة المائدة ويكون النفث فيها إبطالها
والرجوع عنها والنكوث فيها.؟
أليست النميمة باللسان تفعل فعل السحر بل أشد.؟
والنمام والقتات لا يدخلان الجنة ومن نم شرا كمن نفث سما.؟
واستعمل القرءان العقدة في عقدة اللسان كما في قوله تعالى :"واحلل عقدة من
لساني" كما استعملها في عقدة النكاح وهو مما يعقد باللسان.
وغالب استعمال القرءان لجذر مادة ع ق د فيما يكون باللسان:
أوفوا بالعقود،عقدت أيمانكم، وعقدتم الأيمان، وعقدة النكاح، وعقدة من
لساني.
ولم يستعمل القرءان مرة أيا من جذر مادة ( ع ق د ) فيما تكون فيه الإشارة
إلى عقدة الخيط والحبل والشعر ونحو ذلك مما يستخدم في السحر.
والعقد هي الروابط المحكمة والأواصر المتينة والعرى المستمسكة.
والنفث في العقد على سبيل الإضرار وإلحاق الأذى بتلك العقد بتقطيع الأواصر
وكسر الروابط وحل الوثاق عن العرى المستمسكة.
وتحمل الاستعاذة من شر النفاثات في العقد على طلب السلامة لهذه العقد
وإبقائها في حالة محكمة متصلة مستمسكة واتقاءا لقطعها وانفكاكها.
ويقع الضرر على هذه العقد على إثر النفث فيها بطريقين:
طريق السحر وهو أخفها وأكلفها وأعزها، وطريق النميمة وهو أشدها وأخطرها
وأيسرها.
لم يقع التصريح في الاستعاذة من شر السحر على نحو الحسد،
فلم يقل ومن شر ساحر اذا سحر كما قال ومن شر حاسد إذا حسد.
ولم يأت بالفعل نفث من اسم الفاعل النافثات أو من صيغة المبالغة النفاثات
على غرار حسد من حاسد ، ولم يقل ومن شر النفاثات إذا نفثن أو نفثت في
العقد.
وكما لم يأتت بالفعل نفث ، لم يعلق حدوث الفعل بإذا الدالة على الشرطية
والظرفية والاستقبال كما فعل مع غاسق إذا وقب ، وحاسد إذا حسد على ما في
ذلك من عدم ترقب حدوث الفعل ووقوعه من فاعله من غير استدعاء له.
ووقوع النفث في العقد من غير استدعاء له أو تعليق حدوثه بشرط ما على ما في
النفث من الكثرة والسهولة واليسر وغزارة وتتابع الدفق ليدل على تكراره.
والعدول عن استعمال إذا عقدن إلى استعمال في الدالة على الظرفية "في العقد"
ليفيد التغلغل والتمكن والنفاذية وتحقق حصول الضرر.
والنفث فيه معنى البث بجامع التفشي والانتشار بينهما بملحظ من الخفة
والسرعة.
وفي الحديث أَنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : إِنّ رُوحَ القُدُسِ
نَفَثَ في رُوعِى " أَي أَوْحَى وأَلْقَى كذا في النهاية .
وفي المصباح : نَفَثَه من فَمِه نَفْثاً من باب ضَرَب: رَمَى به .
وفي الأَساس: النَّفْث: الرَّمْىُ.
وفي المثل : "لا بُدّ للمَصْدُورِ أَنْ يَنْفِثَ ".
وفي حديث المُغيرَة : " مِئْنَاثٌ كأَنّهَا نُفَاثٌ " أَي تَنْفُثُ
البَنَاتِ نَفْثاً قال ابنُ الأَثير : قال الخَطّابِيّ : لا أَعْلَمُ
النُّفَاثَ في شَيْءٍ غير النَّفْثِ قال : ولا موضِعَ لَهَا ها هنا قال
ابنُ الأَثير : يحتمل أَن يكونَ شَبَّهَ كَثرةَ مَجيئِها بالبَناتِ بكثرةِ
النَّفْثِ وتَواتُرِه وسُرْعَتِه . وكذا في اللسان
المصدر : تاج العروس.
العقد : جمع عقدة بمعنى المعقودة والمنعقدة.
قال في تاج العروس : والذي صَرَّحَ به أَئِمَّةُ الاشتِقَاقِ : أَنَّ أَصلَ
العَقْدِ نَقِيض الحَلِّ. ا.ه.
العقد : بملحظ من التشابك والالتفاف والتجعيد والتراص والتداخل كما في
عنقود العنب وخرزات العقد.
دلالة العقد على الربط والتشبيك كما هو عقدة النكاح رباط بين الزوجين،
والعقود ربط بين المتعاقدين وعقد اليمين ربطها بالقسم والكفارة وعقدة
اللسان ربط الكلام باللسان فلا يبين.
وتأسيسا على ما سبق ذكره:
الاستعاذة من شر النفاثات في العقد، استعاذة من شر النميمة، أشد آفات
اللسان فتكا بالروابط المنعقدة والمعقودة على ما في معنى النفث من الوحي
والالهام والالقاء مما يرشح لخطر الكلمة التي تخرج من اللسان فلا تعود إليه
أبدا بحال من الأحوال وبثها بسرعة البرق بما يضر بتلك العقد القائمة
بالفعل بما يهدد سلامتها ومتانتها ويؤذن بحل وثاقها وكسرها روابطها.
وهي قراءة أخرى يقبلها السياق ولا يردها على قاعدة تعدد المعنى بتعدد
الحمل، وذلك سمة النص القرءاني، وواحدة من أخص أوجه إعجازه وبيانه.
والله أعلم.
سعيد صويني
صعيد مصر