هل أخطأ أبو الطيب المتنبي في قوله: أسْوَدُ من الظُّلَمِ؟
قال المتنبي:
ابْعَدْ، بَعِدْتَ، بَياضاً لا بَياضَ لهُ لأَنتَ أسوَدُ في عَيني منَ الظُّلَمِ
الجواب: من
شروط أفعل التفضيل عند البصريين ألا يأتي مما الوصف منه على أفْعَل الذي مؤنثه
فَعْلاء مما دل على لون أو عيب أو حِلْية؛ لأنَّ الصفة المشبّهة تُبنى من هذه
الأفعال على وزن أَفْعَل، فلو بُني التفضيل منها لالتبس بها، فيتوصّلون إلى ما
فُقد منه شرطٌ بزيادة (أشَدّ) أو (أكثر) قبله، فيقال: هو أشَدُّ سوادًا وأشدُّ
بياضًا.
ولكنَّ
الكوفيين يجيزون بناء أفعل التفضيل من لفظي السَّواد والبياض، يقولون: لأنهما أصلا
الألوان، ولوروده في السماع. قلت: وهو الصحيح، ومنه قوله تعالى: {ومَنْ كان في
هَذه أَعْمَى فهو في الآخِرةِ أَعْمَى وأَضَلُّ سبيلاً} فإن كانت الأُولى صفة من
العمى، فالثانية اسم تفضيل أي أشد عمىً، ويتأوله بعضهم بأن العَمَى هنا عَمَى
القلب والبصيرة لا عمى البصر، وهو يحتمل الوجهين، وأظهر منه الحديث الصحيح الذي
رواه البخاري (ح: 6579): «حوضي مسيرة شهر، ماؤه أَبْيَضُ من اللَّبَن» ولفظه عند مسلم (ح: 2292): «... ماؤه
أَبْيَضُ من الوَرِق» وهو في مسند أحمد أيضا، وهذا ظاهر وهو حجة لا ترد.
وأما قول
المتنبي: [لأَنْتَ أَسْوَدُ فِي عَيْني من الظُّلَمِ] فيتأوله البصريون بأن الشاعر
جَعَلَ أسْوَدَ هاهنا من قبيل الوصف المحض الذي تأنيثه سوداء، وأخرجه عن حيز
أفْعَلَ الذي للتفضيل والترجيح بين الأشياء، ويكون على هذا التأويل قد تم الكلام
وكملت الحجة في قوله: لأنت أسود في عيني، وتكون (من) التي في قوله: من الظلم
لتبيين جنس السواد؛ لا أنها صلة أسود. ولذا قال ابن هشام في المغني متابعا
البصريين: إنّ من الظُّلم صفة لأسود؛ أَي: أسود كائِن من جملَة الظُّلم، وليست
(من) مُتَعَلقَة بأسود لأن هذا يَقْتَضِي كونه اسم تفضِيل وذلك مُمْتَنع في
الألوان.
قلت: مذهب
البصريين ضعيف وتوجيههم المسموعَ -ومنه بيت المتنبي- ظاهر التكلّف، ومذهب الكوفيين
فيه هو الصحيح عندي؛ لورود السماع؛ ولأن الألوان متفاوتة الدرجات، ولأننا لم نزل
نسمع في لهجاتنا على سبيل الاستفاضة مثل قولهم: هذا أبْيَضُ من هذا، وهذا أسْوَدُ
منه، وأما دعوى الالتباس بالصفة المشبهة فمدفوعة بدلالة السياق.. والله أعلم.
عبدالرزاق
الصاعدي 16/ 12/ 1437هـ