الاثنين، 19 نوفمبر 2018

علّة الثقة في لهجاتنا في أرض المنبع على مستوى المعجم:


علّة الثقة في لهجاتنا في أرض المنبع على مستوى المعجم

إنّ مما يجعلنا نثق في لهجاتنا في جزيرة العرب ومنها منابع اللغة كنجد والحجاز وتهامة والسراة أنْ نرى الألفاظ أو الأساليب الغريبة التي دونتها المعاجم وكتب الغريب لم تزل حَيّة مستعملة كما هي.ومن يقرأ معاجم اللهجات مثل (فصيح العامّيّ في شمال نجد) لعبدالرحمن السويداء، في مجلداته الثلاثة و(معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة) للشيخ محمد بن ناصر العبودي، في مجلداته الأحد عشر يقفْ على مادّة معجميّة فصيحة ثريّة.

وقد رأيت في بعض ما جمعتُهُ من ألفاظ لهجاتنا في أرض المنبع الكثير مما كنتُ أظنُّه للوهلة الأولى فائتًا ظنيًّا فإذا هو مرصود في معاجمنا، بلفظه ومعناه، وفي كل مرة تزداد ثقتي في المستوى المعجمي للهجاتنا، وأن ما أصاب بعض ألفاظها من تغيير في الصوت أو البنية لم يبعدها عن أصلها أو يطمس معالمها، ومن السّهل إصلاح ذلك ومعجمتها على وجهها الفصيح القديم.

ومن أمثلة ذلك قولهم في تهامة الحرمين: ما له سَبَد ولا لَبَد، أو ما يترك سَبَد ولا لَبَد. والاستعمال قديم، وهو مُمعجم، قال الأزهري: «وقولهم: ما له سَبَد ولا لَبَد، أي: ما له ذو شَعْر ولا ذو وَبَر متلبِّد، ولهذا المَعنى سُمِّيَ المالُ سَبَداً»( )، وفي هذا دلالة على فصاحة البادية، وأنهم يتوارثون لغتهم العربية القديمة ولا يتأثّرون بغيرها مع أن هؤلاء على طريق الحج في تهامة.

ويقولون في بادية الحجاز ونجد: فلان يحضرم، إذا كان يدمدم بكلام غير مفهوم من الغضب والغيظ()، وهذه ممعجمة، قال الزبيدي: «حَضْرَمَ الرَّجُلُ حَضْرَمَةً: إذا لَحَنَ وخالَفَ الإعراب في كلامِهِ»( ).

وفي لهجاتنا في نجد والحجاز: فلان يَتَحَرْقَص، إذا تحرّك من وجع أو ضجر الانتظار، فهو يتحفّز  ويتقبّض، وقال الشيباني في الجيم: «والتَّحَرْقُص: أن يتقبّض الرجل، أو الدّابّة، من البرد أو الوجع»( ).

ويقولون في تهامة وجازان: الشِّجْنة: القبيلة، ويقولون: من أيّ شِجْنة أنت؟ أي: من أيّ قبيلة؟ وما شِجنتك؟ أي ما قبيلتك( )؟ وفي الصحاح: «يقال: بينى وبينه شِجْنةُ رَحِمٍ وشُجْنَةُ رحمٍ، أي قرابةٌ مشتبكةٌ. وفي الحديث: "الرَحِمُ شِجْنَةٌ من الله"؛ أي: الرحم مشتقَّة من الرحمن، يعني أنَّها قرابةٌ من الله -عزّ وجلّ- مشتبكة كاشتباك العروق»( ).

وقولهم في بادية الحجاز وتهامة الحرمين وعالية نجد: فلان يَعْتِب في مَشْيِه؛ أي: يظلع، يظنها الظانّ عامية لا أصل لها، ولكن في العين: «والفحل المعقول، أو الظالع إذا مشى على ثلاث قوائم كأنّه يَقْفِزُ يقال: يَعْتِبُ عَتَباناً»( ).

ويقولون في تهامة الحرمين: غَرَّزَتِ الجرادة، إذا غَرَزَتْ ذيلَها في الأرض لتبيض، وفي الجمهرة: «وغَرَّزتِالجرادةُ، إِذا أدخلتْ ذنبَها فِي الأرض لتبيض»( ).

ويقولون في منطقة حَوالة وما حولها من نواحي الباحة بالسراة: العِيشة باسلة، وهي عربية فصيحة، وردت في اللسان( ) وغيره.

ومما يجري على ألسنتهم: السِّعِن والشَّكوة لأديمٍ يُتّخذ من جلد السَّخلة، يشبه القربة الصغيرة، يُجعلوعاءً للبن أو السّمن، وهي شائعة لدى قبائل جزيرة العرب، وذكرتها المعاجم القديمة بلفظها ومعناها.
ويقولون في السراة: فلان (يُغَوِّث) أي: يصرخ بأعلى صوته كأنه يستغيث. وفي التاج: «غَوَّثَ الرجلُ، واستغاث: صاح: وا غوثاه»( ).

ومن ذلك الوَعِيْ (ويقفون عليه بالسكون ويحرّكون العين بالكسرة) وهو الصّديد أو القيح الذي يخرج من الجرح. وهذا بلفظه ومعناه في معاجمنا، ففي التّهذيب عن أبي زيد الأنصاري: «إذا سالَ القَيْح من الجُرْح قيل: وَعَى الجُرْحُ يَعِي وَعْياً. قال: والوَعيى هُوَ القَيْح. ومثله المِدَّة»( ).

ومن نوادر لهجاتنا: قولهم: تَخَطْرَيتُهُ وتَخَطْراني وتَخَطراه؛ أي: تجاوزه، وقد يَظُنّ ظانٌّ أنها عامّيّة، ولكنّها عريقة مُمعجمة، ففي التاج: «قالوا: تَخَطْرَاك وتَخَطَّاك بمعنًى واحِد، وكان أبو سَعيدٍ يَرْويه: تَخَطَّاكَ، ولا يَعرف تَخَطْرَاك. وقال غَيره: تَخَطْرانِي شَرُّ فلانٍ وتَخَطَّانِي: جَازَنِي»( ).

وفي احتفاظ لهجاتنا بالغريب والنادر وغير الشائع ونحوه دلالةٌ واضحة على فصاحتها في منابع العربية القديمة، واتصالها الوثيق بأصولها الأولى، ومقاومتها لتعاقب الأزمان، وأنها حفظت لنا مخزونَ الألفاظ والدلالة، وأن الفساد أصاب النحو وبعض التصريف، وبقيت الألفاظ على المستوى المعجمي صالحة قريبة المأخذ. وحين نجد شيئا من هذا على المستوى المعجم والدلالة ولا نراه في المعاجم القديمة فليس لنا أن نردّه ونسِمُه بوسم العامّيّة، بل على الباحث أن يتمهّل وينظر في القرائن والمرجّحات، فقد يكون فصيحاً فائتاً.

ولم تبتعد لهجات القبائل البدوية في ديارها في جزيرة العرب عن أصولها الفصيحة وهي حجة في المستوى المعجمي للألفاظ والدلالة وبخاصة حين يتسع الأطلس الجغرافي للفظ، ولست أول من فصّحها فقد رأيت اللغوي المصري الدكتور محمد عيد يرى شيئا من هذا، حين يقول: «لا ينسب إلى لهجات العصر الجاهلي من التفضيل والتمييز  ما تحرم منه اللهجات التي تنطق الآن بين قبائل الجزيرة العربية التي تقطن الأماكن التي وجدت فيها اللهجات العربية القديمة»( ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تركت الإحالات هنا وهي في الكتاب (فوائت المعاجم).