السماع
بعد عصور الاحتجاج
لستُ
بِدعاً في ثقتي فيما تواتر من مفردات البدو في العصور التي أعقبت عصور الاحتجاج، وإن
طال بعدهم عن زمن الفصاحة لثقتي بأن المستوى المعجمي أقل المستويات في التأثر بالتغيير،
فرأيت من القرائن ما يجعلني أثق في أن ألفاظهم ودلالاتها يمكن أن يستفاد منها إن تحققت
فيها شروط الفوائت الظنية، فهذا الزمخشري (ت 538هـ) يثبت في معجمه سماعه من أعرابي
في القرن السادس، قال الزمخشري: «وسمعتُ بالبادية كوفيّاً يقول لأعرابيّ: كيف ماوان؟
قال: مَيِّهَةٌ، قال أَمْيَهُ ممّا كانت؟ قال: نعم؛ أَمْوَهُ مما كانت»، فيُلحظ
أن الأعرابي صوب للكوفي، فجعل الكلمة واوية لا يائية، فالكوفي يقول: (أَمْيَهُ) والأعرابي
يقول: (أَمْوَهُ)، وهذه هو وجه الاستشهاد الذي أراده الزمخشري.
وقد
رأيت أن الزمخشري في معجمه أساس البلاغة يكثر من قوله: سمعت، وترددت هذه الكلمة في
سماعات لغوية له أكثر من مئة مرة، وروى لنا مادّة تستحق أن تجمع وتدرس، ومنها على سبيل
المثال قوله: «سمعتُهُم يقولون: فلان يَسْتَحِيطُ في أمره وفي تجارته؛ أي: يبالغ في
الاحتياط ولا يترك».
وقوله:
«وسمعتُ من العرب: بيتٌ جَهْوان».
وقوله:
«وسمعتُ العرب يقولون في المحاجاة: تَحَكَّيتُك، وهو نحو تقضّي الباز، أو من الحكاية».
وقوله:
«وسمعتُهُم يقولون: عَيناه تَخاذَفَتا بالدَّمْع».
وقوله:
«وسمعتُهم يقولون: خَرَطَني بَطْني، وخَرَّطَ البقلُ الماشيةَ تخريطاً».
وقوله:
«وسمعتُ أهل السّراة يقولون: رَفَعَ اللهُ خَصَّتَك».
وقوله:
«وسمعتُ من العرب من يقول في رائيّة ذي الرُّمّة: أبياتُها كلّها دِفْنُ؛ أي: غامِضة
معمّاة».
وقوله:
«ورأيت العرب يسمّون الكُزْبَرة والدُّقّة، وينشدون:
باتَـتْ لهـنَّ ليـــلةٌ دُعْفُقَّـه
طَعْمُ
السُّرَى فيها كطعمِ الدُّقّه
مـن
غائر العينِ بعيـدِ الشُّقّه
وسمعتُ
باعة مكّة ينادون عليها بهذا الاسم».
وقوله:
«وسمعتُ من يقول لكلامٍ استهجَنَه: هذا كلامٌ يُذْرَقُ عليه».
وقوله:
«وسمعتُ بمكّة -حرَسَها اللهُ- شَيخاً من الشّرف ومعه بُنَيٌّ له مَليح؛ دخلَ عليَّ
صَبيحةَ بنائي على أُمِّ هذ الصّبيّ صَبيٍّ من أهلِ السَّراة ابن ثمان سنين فقال لي:
ثَبَّتَ اللهُ رَبْعَك وأحدث ابنك؛ أراد: ثَبَّتَ اللهُ بيتَك؛ أي: أهلَك وامرأتَك».
وقوله:
«وسمعتُ من يقول: أين رَبِيتَ يا صَبيّ، بوزن رَضِيتَ وتَرَبَّيتَ».
وقوله:
«وارْتَدَّ هِبَتَه: ارتجعها، سمعتُه منهم سَماعاً واسعاً، ومنه قوله:
فيا
بطحـاءَ مَكّة خَبِّريـني أما تَرْتَدُّني
تلك البِقاعُ»
وقوله:
«وسمعتُهُم يقولون: رَصِّنْ لي هذا الخبرَ، بمعنى حَقِّقْه».
وقوله:
«وسمعتُهم يقولون: مالي في هذا رَفَقٌ».
وقوله:
«سمعتُ مُرْشِدَ بنَ مِعْضادٍ الخَفاجي يقول: خَرجتُ أُبَدِّدُ، كنَّى بذلك عن البَول».
وقوله:
«وسَمعتُ مُرْشِداً الخفاجي: تَرَيَّقْتُ الماءَ ورَيَّقْتُهُ الشرابَ: سَقَيته إيّاه
على غير ثُفْل».
وقوله:
«وسمعتُ خُضيراً الهُذليّ يقول: الحُداء زَبَدُ الفُؤاد؛ أي: يرمى به القلبُ كما يَرمى
الماءُ بزَبَدِه، أرادَ سهولتَه عليه».
وقوله:
«وسمعتُهُم يقولون: حَيّا اللهُ سَبَلَتَك، وحَيّا اللهُ هذه السَّبَلَةَ المباركة».
وقوله:
«وسمعتُ من يحي النار وهو يقول:
تشبّـبي
تَشَبُّـبَ النَّميـــمَهْ
تَسْعَى
بها زَهْراً إلى تَمِيمَهْ»
وقوله:
«وسمعتُ بمكّة من يقول لحامل الجُوالق: اسْتَشِقَّ به؛ أي: حَرِّفْه على أحَدِ شِقَّيه
حتى ينفذَ البابَ».
وقوله:
«وسمعتُهم يقولون: أَوْرِنِيه».
وقوله:
«وسمعتُ في طريق مكّة صَبيّاً من العَرَبِ وقد انْتَحَى عليه بَعيرٌ: ضَرَبْتُهُ فعَرَّدَ
عنّي».
وقوله:
«وسمعتُ صَبيّاً من هُذيل يقول: غَثَّتْ علينا مَكّةُ فلا بُدَّ لنا من الخروج».
وقوله:
«وسمعتُ أهلَ الحِجاز يقولون: غارَقَني كذا؛ إذا دانَى وشارَفَ».
وقوله:
«ومن المجاز: فلانٌ حارس من الحرّاس أي سارق، وهو مما جاء على طريق التهكّم والتعكيس،
ولأنهم وجدوا الحُرّاس فيهم السرقة. كما قال:
ومُحْتَرِسٍ
من مثله وهو حارسٌ
فواعجباً
من حارسٍ هو مُحْتَرسْ
ونحوه
كل الناس عُدول إلا العُدولَ، فقالوا للسّارق: حارس، وقد رأيتُهُ سائراً على ألسنة
العرب من الحجازيين وغيرهم، يتكلم به كلُّ أحد، يقول الرجل لصاحبه: يا حارسُ، وما أنت
إلا حارس».
وقوله:
«وسمعتُ خادماً من اليمامة يقول وقد وَكَفَ السقف: يا سيدي؛ هل أَهَبُ عليه الترابَ؟
بمعنى هل أجعله عليه؟ وهو من الهِبَة».
وقوله:
«وسمعتُ العَرَب يقولون: فُلانٌ فَرْخٌ من الفُروخ: يريدون وَلدَ زِناً. وقالوا: فلانٌ
فُرَيخُ قومه: للمُكَرَّم منهم».
وقوله:
«وسمعتُهم يقولون: افْتَضَحْنا فيك؛ أي: فَرَّطْنا في زيارَتِك وتَفَقُّدِك».
وقوله:
«وسمعتهم يقولون: فلان فَلِسٌ من كلّ خير».
وقوله:
«وركبتُ في القارِب إلى الفُلك، وهي سَفينةٌ صغيرة تكون مع الملاّحين تُسْتَخَفُّ لحوائجهم،
وسمعتُ أنّهم يُسمّونه: السُّنبوك».
وقوله:
«واكتريتُ من أعرابيّ فقال لي: أعطني من سِطَاتِهَنَّهْ: أراد من خيار الدنانير».
وقوله:
«وسمعتُهُم يقولون: هذا طريق قَشيبٌ: قَذِر، وفيه قَشَبُ: قَذَرٌ».
وقوله:
«وسمعتُهُم يقولون: اسْتَهِمَّ لي في كذا».
وقوله:
«وسمعتُ من يقول لامرأةٍ: انْدُرِي. وأنْدَرْتُهُ: أخرجته».
وقوله:
«وأنشدني بعض الحجازيين:
وبتنــا
بقِرْواحِيَّـــــةٍ لا ذَرا لهـا مِـنَ الرِّيـح إلّا أن
نَلُـوذَ بكُـورِ
فلا
الصُّبْحُ يأتينا ولا الليلُ ينقضي ولا الرِّيحُ مأذونٌ
لها بسُكُـورِ»
وقوله:
«وقف عليّ شيخُ من أهل السَّرَاة في المسجد الحرام فقال لي: ما عَضَبَك؟».
وقوله:
«وسمعتُهُم يقولون: وَقَعت هَوشةٌ في السُّوق وجَفْلة، وهو أن ينفِرَ الناسُ لخوفٍ
يلحقهم».
وقوله:
«وسمعتُ في المسجد الحرام سائلاً يقول: من يَدُلُّني على وَجْهِ عربيٍّ كريمٍ يَحْمِلُني
على نُعَيْلَه».
وقوله:
«وسمعتُهم يقولون لأهل مكة: المُكُوك، واسْتَوْلَى على مَكّةَ مرةً ناجمٌ من بلادِ
نجدٍ فطَرَدُوه، فلما خرَجَ قال: خذوا مُكَيْكَتَكُم».
وقوله:
«وسمعتُ صَبِيّةً سَرَوِيّة بمَكّة تقول: عُيَينَتِي نُوَيظرةٌ إلى اللهِ وإليكم».
والزمخشري
في هذه السماعات ينقل عن أهل زمانه في القرن السادس في الحجاز وغيره؛ لأنّه يعرف أن
اللفظ ليس كالتركيب النّحوي الذي أصابه الفساد بعد عصور الاحتجاج، وكأنه بهذا لا يقرّ
قصر السماع في الألفاظ والدلالة على زمن الاحتجاج المشهور، وأكثر سماعاته من أهل الحجاز،
حين إقامته بمكة والمدينة، ولو استقرّ في نجد لنقل سماعاته ودوّنها في معجمه، ومنهجه
سديد.
وفي
القرن السابع نجد الصغاني في غير موضع ينقل عن أهل زمانه، ففي التكملة نراه يرد على
الجوهري ويستند إلى استفاضة المسموع في عصره، ويصوّب له العُضَل بضم العين ويقول:
«هذا سياق كلام الجوهري، وهذا السياق يندّد بأنّه: العُضَل، بضمّ العين، على ما هو
هِجّيراه في وضع كتابه. والصواب: العَضَل ، بالتحريك، واستفاضة هذه اللغة، واستمرارُ
ألسنة أهل حَرَض وما والاها عليها تغني عن الاستظهار فيه بما سواه»، وحرض هذه مدينة
يمنية لم تزل معروفة إلى اليوم، جعل الصغاني لغة أهلها دليلا له على الردّ على الجوهري؛
وصحح بما في لهجتهم في القرن السابع ضبط الكلمة؛ لأنه أدرك أن لغتهم وثيقة الصّلة بجذورها
القديمة، وأنها لم تفسد في المفردات.
وفي
القرن الثاني عشر نرى المرتضى الزَّبيدي يأنس أحياناً بلغة أهل عصره، ويقول : «قلتُ:
ويُقال: فُلانٌ في تَنْبُوكِ عِزِّه؛ أي: غاية ما بَلَغ من عِزِّه، سَمِعْتُها من عرب
الحجاز».
وقال
في مادة تبك: «تَبُوك؛ لأنَّ الأزهرِيَّ قد نَقَل عن بعضٍ أَصالَة التّاء، كما سَبَق،
فينبغي أن يُشِيرَ إليه، كما فَعَل في تِبراك مع أنّه ذَكَرَه في برك ويُقَوّي هذا
القول ما سَمِعْت من عامَّة أهل الشّامِ ينطقون به بضمّ الأوّل».
وقال
في تأصيل يستأهل: «قلتُ: وسمعتُ أيضا هكذا من فُصحاء أعراب الصَّفراء، يقول واحِدٌ
للآخر: أنت تَسْتَأْهِلُ يا فُلانُ الخَيرَ، وكذا سمعتُ أيضا مِن فُصحاء أَعراب اليَمن»(
). وتأمل قوله في وصفه حالهم: «فُصحاء أَعراب الصَّفراء» والصفراء وادٍ في ناحية الغرب
من المدينة وعلى ضفته تقع بدر، وتسكنه قبائل وبطون أكثرها من حرب من بني سالم وبعض
بني عوف، ونقلت عن الأعراب في هذا الوادي كثيرا من الألفاظ التي دوّنتها في الفوائت
الظنية.
وقال
الزَّبيدي: «ومما يُستَدرَك عليه: إِشْكِيفٌ، كإِزْمِيلٍ: الغُلامُ الحَسَنُ الوَجه،
هكذا يَسْتَعْمِلُه الحجازيّون، ولا إِخالُهُ إلاّ مُعَرَّباً».
وقال:
«الجَبُوبُ: حِصْنٌ باليمن، والمشهور الآنَ على أَلسنة أهلها ضَمُّ الأَوّل كما سمعتُهم».
وقال
بعد أن أورد قول سيبويه في (المِسْكِينُ) وأنه مِن الألفاظ المُتَرَحَّم بها: «قلْتُ:
وسَمِعْتهم يقُولُونَ عنْدَ التَّرَحُّم مُسَيْكِين بالتَّصْغيرِ».
وقال:
«الغَزْغَزة: الأكلُ بالأشداقِ من غير شَهوةِ نفسٍ؛ كأنّه مُكرَهٌ عليه، هكذا سمعتهم
يقولون، وأَحْرِ به أن يكون عربيّاً صَحيحا».
وقال:
«وكِنْدَةُ، بِالْكَسْرِ، هذا هو المشهور المتداول، وعليه اقتصر الجمهور، قال شيخنا:
ورأَيت مَنْ ضَبَطَه بالفَتح أيضاً في كُتب الأنساب. قلت: وسمعت أهل عُمان والبحرين
والكِندِيِّين يقولون: كُنْدَة، بالضمّ».
وتفيد
هذه الروايات أهمية السماع من (الأعراب) أهل البادية، لنقاء لغتهم في تلك الأزمان،
وأنه يمكن أن يستفاد من كلامهم في اللغة، وإن كانت الرواية عنهم بعد عصور الاحتجاج.
ومعلوم أن لغة الأعراب هي مادة اللغة في عصور الفصاحة ولم تزل كذلك حتى بعد عصور الفصاحة،
على الرغم مما طرأ عليها كغيرها، لكن لهجاتهم تبقى هي الأقرب للفصحى، وعلى اللغويين
أن يستفيدوا من كلام الأعراب، دون وجل، فبأيديهم معايير الفُصحى وموازينها تُعينهم
على اكتشاف المخبوء.
وليت الباحثين اللغويين وطلاب الدراسات العليا يلتفتون
إلى البحوث اللغوية الميدانية ويرحلون إلى المواضع النائية في بادية الجزيرة لمشافهة
أهلها من كبار السن، وتسجيل كلامهم صوتيا وتدوينه واستخراج ما فيه من فصيح، وعرضه على
المعجم ومعايير العربية. فثمة بقايا للفصاح في كلامهم، يوشك أكثره أن ينقرض وتفقده
العربية.
ولو
قُدّر لصنّاع المعاجم بعد القرن الرابع (أي في الخامس والسادس والسابع والثامن) أن
يشافهوا الأعراب ويأخذوا عنهم ويختاروا ما يناسب أقيسة اللغة لجمعوا قدراً وافراً مما
فات أسلافهم من صنّاع المعاجم، وحفظوا ألفاظاً نُقدِّر أنها دَرَسَتِ اليومَ وفات معاجمنا
العراقية تدوينها فذهبت بذهاب أهلها.
ـــــــــــــــــــ
تركت
الإحالات هنا وهي في الكتاب (فوائت المعاجم).