الجمعة، 30 نوفمبر 2018

تشدّدُ الأصمعي ووَهْمُ الجواليقي في النِّحِرير والنَّحارير:


تشدّدُ الأصمعيّ ووَهْمُ الجواليقي في النِّحِرير والنَّحارير

كان الأصمعيّ يحمل لواء اللغويين الأكثر تشدّدًا أو تحرّزًا في رواية اللغة، ويتسع في مفهوم المولد، ونراه أحيانًا ينكر شيئًا من كلام العرب وغيرُهُ يثبته، ومما أنكره كلمة النِّحْرِير وزعم أنها ليست من كلام العرب، قال ابن دريد: ((رجل بليدٌ بَيّنُ البَلادة: ضدّ النِّحْرير. وكان الأصمعِيّ يقول: النِّحْرِير ليس من كلام العَرَب، وهي كلمة مولدة)). (الجمهرة (روغ) 2/ 783).
ويبدو أنّ الجواليقي وَهِمُ فيها حين ظنّ أنّ الأصمعي يراها معرّبة أو أعجمية، بقوله: ((ليست من كلام العرب)) فوضعها في كتاب المعرّب (ص 331)، ضمن الكلمات المعرّبة، ويريد الأصمعي بقوله: إنها ليست من كلام العرب أنّ الأوائل من العرب لم يعرفوها، فهي عنده مما ولّده المولّدون في زمانه. وذكره بعضهم في المولد اغترارا بقول الأصمعي، كالسيوطي في (المزهر 1/ 243) والخفاجي في (شفاء الخليل 497) واعترض الأخير على لأصمعي لحكمه بتوليدها، وإشار إلى عربيتها بشاهد عدي بن زيد والاشتقاق.
ولا يسلّم للأصمعي بهذا الحكم الجائر على هذه الكلمة، فهي عربية المادّة والاشتقاق، وليس فيها من العجمة أو التعريب شيء، وجاءت في شعر قديم، ورواها أغلب صُنّاع المعاجم دون أن ينكروها، ولم يلتفتوا لقوله، وأذكر من نصوصهم:
قال الفارابي في (ديوان الأدب 2/ 77): النِّحْرير: العالِمُ الجيِّدُ العِلْمِ.
وقال الأزهري (تهذيب اللغة (نحر) 5/ 11): النحْرِيرُ: الرجُل الطَبِنُ الفَطِنُ فِي كل شَيْء، وَجمعه: النَّحَارِيرُ.
وقال ابن فارس (المقاييس 5/ 400): والعالمُ بالشَّيءِ المُجَرّبِ نِحْرِيرٌ، وهو إن كان من القياسِ الّذي ذكرناه، بمعنى أنّه يَنْحَرُ العِلمَ نَحْرًا، كقولك: قتلت هذا الشّيءَ علمًا. وارتضى الصغاني في العباب (نحر) هذا الاشتقاق.
وقال الفيروزي (القاموس (نحر) 618): النِحْرُ والنِحْريرُ، بكسرهما: الحاذِقُ الماهِرُ، العاقِلُ المُجَرِّبُ، المُتْقِنُ، الفَطِنُ، البَصيرُ بكُلِّ شيءٍ، لأَنَّهُ يَنْحَرُ العِلْمَ نَحْراً.
وقال الرضي الاستراباذي (شرح الكافية ): ((والنحر، أيضا، بمعنى الأظهار؛ لأنّ نحر الأبل يتضمنه، ومنه قولهم: قتلته نحرا، وقولهم للعالم: نحرير: لأن القتل والنحر يتضمنان إظهار ما في داخل الحيوان))
وزاد مرتضى الزَّبيدي (التاج نحر14/ 187) في هذا قوله: وسُئلَ جَريرٌ عن شُعراءِ الإسلام قال: نَبْعَةُ الشِّعْرِ للفرَزْدَق. قيل: فما تركتَ لنفسك قال: أنا نَحَرْتُ الشِّعرَ نَحْرَاً.
وحين نبحث عن شواهد هذه الكلمة في النصوص نراهم يروون قول عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ العِبَادِيُّ التَّمِيمِيُّ (توفي في 35 ق.هـ)
وأنا النّاصِرُ الحَقِيْقَةَ إنْ أظْـ     ـلَمَ يَوْمٌ تَضِيْقُ فيه الصُّدُوْرُ
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الرَّواغُ ولا يَنْـ      ـفَعُ إلّا المُشَيَّعُ النَّحْــرِيرُ

وهو في ديوانه 90 بتحقيق المعيبد، ويروى هذا الشاهد للأسود بن يَعْفُر، كما في الجمهرة (روغ) 2/ 783 المعرب 331.
وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي (ت 93هـ):
أتحذرُ وَشْكَ البَينِ أم لستَ تحذرُ     وذو الحَذَرِ النِّحْرِيرُ قَدْ يَتَفَكَّرُ

ونجد لهذا الكلمة ذكرًا في كتب غريب الحديث (الغريبين للهروي 6/ 1816 وغريب ابن الجوزي 2/ 396 والنهاية لابن الأثير 9/ 4091) فيما يروونه من حديث حذيفة: ((وُكِّلَتِ الفتنةُ بثلاثةٍ: بالحادِّ النِّحْرير)) قال ابن الأثير: هو الفطن البصير بكل شيء.
ونحرير فعليل، وهو وزن عربي عريق، ومنه صِنْديد وحِلْتِيت وسِرْطِيط، وغِرْبيبٌ، وسِخْتيتُ، وعِبْديدُ، وقِنْديدُ، وخِنْذيذُ، وشِمْطيطُ، وعِرْنِين، وصِّهْميمُ.
ــــــــــــــــــــــــ
عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة 22 ربيع الأول 1440هـ
الموافق 30 نوفمبر 2018م