هل يمكن إرجاع القبيلة الكبيرة إلى جدّ واحد؟
رأي الدكتور جواد علي
ليس
من اهتماماتي الكتابة في الأنساب، ولا يعنيني من أمرها إلا ما توصل به الأرحام، فالناس
جميعهم يرتفعون في أنسابهم إلى آدم عليه السلام، وآدم من تراب وعاد إلى تراب، وذُرّيته
مثله، وهم من سائر الأجناس والأمم سواسية في الأصل والمبدأ، لا يتفاضلون إلا بأعمالهم
وأخلاقهم ومواقفهم وما يقدمونه لأمتهم وبلدانهم وللإنسانية، لا أستثني منهم إلا من
فضلهم الله عز وجلّ بنص شرعي، كنبينا عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه، رضوان الله عليهم أجمعين، وعلينا أن نحفظ لهم حقوقهم.
وأردت
هنا دعوة المهتمين بالأنساب إلى مراعاة هذا المبدأ أو الأصل، وأن يقرأوا كلام الباحث
العراقي الدكتور جواد علي في (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) وأن يتقيّلوه ويتركوا
فسحة في كتاباتهم للعقل الناقد لروايات النسابين القدماء كابن السائب الكلبي
والهمداني وابن حزم والحمداني والقلقشندي، وغيرهم، فلعل في قوله ما يعين الباحثين
عن الحق والإنصاف إلى الوصول إلى نتائج يقبلها العقل، وتراعي الاعتبارات التاريخية
والجغرافية والاقتصادية والاجتماعية ذات الأثر في حركة الناس والعمران وانتقالات
القبائل وتحالفاتها، وتعين أيضا على قبول تعدد الجدود للقبيلة الكبيرة ورجوعها إلى
سلاسل نسب مختلفة يجمعها سبب أو أسباب مختلفة غير الدم، مع الإيمان بأن مسألة الجدّ
شائكة ويكاد الوصول فيها إلى حقيقة مطلقة يكون متعذرا، فتبقى المواءمة والمقاربة هي
ما يمكن تحقيقه والوثوق به.
وفي
هذا المعنى الشائك يقول الدكتور جواد علي تحت عنوان: (أسماء أجداد القبائل): ((لكل
قبيلة -كما ذكرتُ- جد تنتمي إليه وتفاخر وتباهي به. وقد يكون هذا الجد جدًّا
حقيقًّا, أي: إنسانًا عاش ومات، وساد القبيلة، وترك أثرًا كبيرًا في قبيلته حتى
نسبت القبيلة إليه. وقد يكون الجد اسم حلف تكوَّن وتألف من قبائل عديدة، حتى عرفت
به، ودعيت بذلك الحلف, وصار وكأنه اسم جد وإنسان عاش. ومن هذا القبيل اسم
"تنوخ" على حدّ زعم أهل الأخبار, فقد رووا أن تنوخًا قبائل عديدة،
اجتمعت وتحالفت، وأقامت في مواضعها.
وقد
يكون اسم موضع، أقامت قبيلة به، فنسبت إليه, كما يذكر أهل الأخبار من اسم
"غسان". وقد يكون اسم إله عُبد، فنسب عُبّاده إليه مثل "بني سعد
العشيرة"، و"تألب ريام" جد قبيلة "همدان"، وقد يكون اسم
حيوان أو نبات أو ما شابه ذلك، مما يدخل في دراسة أصول الأسماء ومصادرها واشتقاقها)). (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 340).
ويقول:
((وقد أرجع ابن حزم جميع قبائل العرب إلى أب واحد، سوى ثلاث قبائل، هي: تنوخ، والعتق،
وغسان، فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون. وقد نص غيره من أهل النسب على أن تنوخًا
اسم لعشر قبائل، اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخًا. وذكر بعض آخر أن غسان عدة
بطون من الأزد، نزلت على ماء يسمى غسان، فسميت به. فترى من هنا أن تنوخًا والأزد حلف
في الأصل، وقد صار مع ذلك نسبًا عند كثير من أهل الأخبار.
وبين
أجداد القبائل والأسر الذين يذكرهم أهل الأنساب أجداد كانوا أجدادًا حقًّا، عاشوا
وماتوا, وقد برزوا بغزواتهم وبقوة شخصياتهم، وكونوا لقبائلهم وللقبائل المتحالفة معها
أو التابعة لها مكانة بارزة، جعلتها تفتخر بانتسابها إليهم، حتى خلد ذلك الفخر على
هيئة نسب, ونجد في كتب الأنساب أمثلة عديدة لهؤلاء)). 1/ 517.
ويقول
جواد علي: ((وقد ذهب المستشرق "بلاشير" إلى أن طريقة النسابين بالنسبة إلى
الأرهاط، هي طريقة إيجابية مقبولة، ولكنها لا تستند إلى أسس صحيحة بالنسبة للقبائل
والأحلاف؛ بسبب أن تحالف القبائل وتكتلها راجع إلى عوامل المصلحة الخاصة والمنافع السياسية،
وهي تتغير دومًا بتغير المصالح، تتولد تبعًا لذلك أحلاف لم تكن موجودة, وتموت أحلاف
قديمة، وتظهر قبائل كبيرة وتموت غيرها. ولهذا التغير فعل قوي في تكوين الأنساب وفي
نشوئها, إذ تتبدل وتتغير الأنساب تبعًا لذلك التغير، ومن ثَمَّ فلا يمكن الاعتماد على
الأنساب الكبرى، التي دونها علماء النسب وجمعوها في مجموعات، وشجروها حفدة وآباء وأجدادًا)). 4/ 341.
ويقول في موضع آخر: ((ويلاحظ أن الأحلاف إذا طالت وتماسكت، أحدثت اندماجًا بين قبائل الحلف قد يتحول إلى النسب، بأن تربط القبائل والعشائر الضعيفة نسبها بنسب القبيلة البارزة المهيمنة على الحلف, وينتمي الأفراد إلى سيد تلك القبيلة البارزة, فتدخل أنسابها في نسب الأكبر. وفي كتب الأنساب والأدب أمثلة عديدة على تداخل الأنساب، وانتفاء قبائل من أنسابها القديمة ودخولها في أنساب جديدة. ويؤدي انحلال الحلف أو انحلال عقد عشائر القبيلة الذي هو في الواقع حلف سمي "قبيلة"، إلى انحلال الأنساب وظهور أنساب جديدة، فإن القبائل المنحلة تنضمّ إلى حلف جديد، فيحدث ما ذكرته آنفًا من تولد أنساب جديدة، ومن تداخل قبائل في قبائل أخرى, وأخذها نسبها. ومن هنا قال "جولد زيهر": إنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف, فإنها تكوِّن القبائل؛ لأن أكثر أسماء أجداد القبائل هي أسماء أحلاف، ضمت عددًا من القبائل توحّدت مصالحها فاتفقت على عقد حلف فيما بينها)) (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 7/ 385، 386).
وأختم
بقولي: إنّ في الأخذ بروايات بعض النسّابين القدماء أو المتأخرين والتسليم بها على
عِلّاتها دون تمحيصٍ ونقدٍ مجازفةً تنافي أدبيات البحث العلمي، فقد تسيطر على بعض
الباحثين الرغبة في إرجاع القبيلة الكبيرة إلى جدّ واحد دون دليل قطعي يثبت أنها
من نسل جدٍّ واحد، وفي هذا مجازفة وظلم لقبائل وبطون عريقة ذات جذور أقدم. فليت أخواننا المشتغلين بالأنساب يعيدون النظر في أدواتهم وطريقتهم في قراءة النصوص ولا
يُقدّمون النقل على العقل الناقد ولا يتجاهلون الظروف التاريخية والمصالح الاقتصادية
والعوامل الاجتماعية ذات الأثر في اندماج بطون صغيرة في قبائل أكبر.
عبدالرزاق
الصاعدي
المدينة المنورة
18
جمادى الآخرة 1440هـ