من المسلّمات في الأروقة الأكاديمية أنّ
البحث العلميّ الأصيل هو ما يُنتج المعرفةَ ويصنعُها، وأنّ العلوم النظريّة قائمةٌ
على التخمين والافتراض الذي يتحوّل بالاستقراء إلى حقائق في كثير من أبحاثنا
اللغويّة والأدبيّة، وأنّنا لم نزل في مرحلة استهلاكٍ لأقوال القدامى، وأن أقوال
القدامى من علمائنا التي نستهلكها ونبني عليها هي في أصلها ظنون وتخمينات تحوّلت
إلى حقائق.
فما مقادر العلم الذي نصنعه في زماننا؟
لا أراه إلا كزاد الراكب أو أقل حين نوازن بين ما ننتجه وما أنتجته عقول علمائنا
القدامى في علوم اللغة وآدابها، بل إن عقل الخليل وحدَه وما قدمه يرجح بجهود
جامعات عديدة عتيدة، فلِمَ لا نصنع المعرفة نحن الأجيال من الأساتذة في جامعاتنا
وأقسامنا ولا نأتي بالحقائق مع ما تهيّأ لنا من الوسائل المُعينة؟ وإلى متى نبقى
مستهلكين ومردّدين لجهود علمائنا دون أن نأتيَ بإضافة ذات قيمة؟
ألدينا خلل في المنهج أم هو ضعف في
الاستعداد والتكوين والتأهيل؟ ولمَ لا نحتفي بالمحاولات ونأخذ بيد أصحابها؟ إلى
متى ننظر إلى القديم نظرة تقديس ونبقى أسرى في جلبابه؟ أليست المعادلة الصحيحة: أن
التقليل من شأن التراث اللغوي والأدبي القديم خطأ فادح وأن الانبهار به وتقديسه وتعطيل
العقول في حضرته خطأ أكبر؟
إن الكلام في هذا يطول ويتشعّب،
ولاختصاره أكتفي بإيراد شذرات متفرقة، لعلها تغني عن البسط، فأقول:
1-
إنّ من أوجب
واجبات الأكاديمي أن يُعنى بصناعة المعرفة لا استهلاكها، وأن ينظر إلى تراثنا
اللغويّ على أنّه محفّز للتفكير والتوليد وليس مادةً للاستهلاك.
2-
إنّنا نتوارث
مفاهيم لغويّة وأدبيّات بحثيّة مغلوطة وبالية، ولو استمرّ الوضع على حاله فإنّنا
قد نتحوّل إلى قوالب وتماثيل لا حياة فيها!
3-
إن الأكاديميّ
الذي لا يُراجع آراءَه العلميّة ويُهذّبها ويُطوّرها ويَرجع عن أخطائه قد يصاب
بالجمود العلميّ القاتل، فلا ثبات في العلم النظريّ.
4-
رجعتُ عن بعض المسلمات
التي رددتها في أبحاثي، وأعلنت أمام طلابي في الدراسات العليا أنها غير صحيحة،
ومنها متابعتي للبصريين بأن حروف الزيادة عشرة، والصحيح أنها ثمانية.
5-
كنت أنكر النظرية
الثنائية للأصول، ربما لإرضاء عقلي الصرفي ولإرضاء ابن جني ثم تبين لي خطئي وأن ابن
جني واقع في أسر التصريف البصريّ العتيد، وأنا الآن أتبنّى الثنائية وأدافع عنها،
ولكنني أراها مرحلة من مراحل طفولة اللغة، تخطاها التصريف واستقر على الثلاثية
والرباعية والخماسية، فهي غير صالحة للتصريف ولكنها كبيرة النفع في التحليل
الدلالي المعجمي وتتبع سِـيَـر الألفاظ وأنسابها.
6-
لا يرضى اللغوي
بأن يكون آلة تسجيل لأقوال الخليل وسيبويه وابن جني.. فإما أن يشارك في صنع المعرفة
أو يتحول إلى مستهلك لها فحسب.
7-
درجة
الدكتوراه في التخصص تعني أنّ صاحبها باحثٌ مؤهّل يَنتظر منه تخصصُه الكثير، وليس
معلما فحسب.
8-
كن مستقلا، حرّ
الرأي والفكر.. فلن تحقق ذاتك وترضى عن نفسك إلا بأن تكون نسخة أصليّة من نفسك.
أ.د.عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة
نشرت بجريدة المدينة، ملحق الأربعاء
1434/11/5 هـ 2013/09/11 م العدد : 18403