الجمعة، 6 سبتمبر 2013

نفاضة الجراب 47: الفعل (شَهَرَني) بين التوليد والفوائت

سمعتهم في بعض لهجات حرب الحجاز ومَن جاورهم يقولون: (شَهَرَه) الماءُ الساخن بمعنى لسعه بحرارته وأحرقه وترك علامةً ظاهرةً في يده، و(شَهَرَني) القِدْرُ أو بَرّادُ الشاي أو نحوه، أي لسعني وترك علامةَ الحرق في يدي أو جسدي، وكذلك تعني اللسعةَ القوية في اللسان من شرب الحار أو ابتلاعه بعجلٍ أو في غفلة.
 وهي كلمة بدويّة محدودة الانتشار في الحجاز، توشك الآن أن تنقرض، وثمة صلة بينها وبين النار والحرارة، وثمة استعمالٌ لها قريبٌ من هذا في موريتانيا، إذ يقولون شَهّرَ الإبريقَ أو البَرّادَ بمعنى: سخّنه قليلا على النار.
فما أصلها؟ وما حالها؟ وهل هي مولدة؟ أو هي من الفوائت الظنّيّة؟
إن أصل هذه الكلمة أو  الفعل هو (الشُّهرة) وهي الظهور والوضوح، يقولون: شَهَرَه يَشهَرُه شَهْراً وشُهْرَة فاشْتَهَرَ ، أظهره أو أعلنه أو أذاعه، ومن معانيها الضمنية (العلامة) التي تُظهر صاحبها وتبرزه وتجعله واضحاً أو مميزاً عن غيره، ولذا قالوا: شُهِرَ فلانٌ في الناس بكذا، فهو مشهور، ومنه: الشَّهْرُ : القمر، فهو علامة على الأيام، لمعرفتها، ولخّصَ ابن فارس معاني الجذر (شهر) في: دلالة الوضوح.
وكأكثر الألفاظ القديمة حدث تطور دلاليّ للفعل شهر ، بتخصيص دلالته، فأصبح من معانيه في بادية الحجاز: الحرق وترك أثرٍ أو علامة على الجلد؛ لأنّ من معاني الشهرة العلامة، والحرق في الجلد علامة، وربما اشتق من الشّهرة العلامة بالتخصيص فدلّت (الشّهرة) على أثر الحرق، ثم اشتُق منها الفعل (شهر) بمعنى أحرقَ وتركَ علامةً، وقد أشار إلى هذا التطور الدلالي الثاني الدكتور سالم الخماش في إحدى تغريداته لمجمع اللغة الافتراضي.
وفي حالها والحكم عليها أقول: إن من الصعب أن تُعدّ هذه الكلمة من الفوائت الظنية؛ لأنها محدودة الانتشار، فلم يتحقق فيها الشرط الثالث من شروط الفوائت الظنية، وهو الشرط الجغرافي، وأراها أقرب إلى المولد الصحيح، وليست عامّيّة، فالحكم عليها بالعاميّة ظلم وقسوة، على لفظ تكلم به بعض العرب في بيئة عربية بدوية، وجرى على سنن كلام العرب في الصوت والبنية والدلالة.
وربما يميل بعضنا إلى تخطئة ما لا يعرفه في لهجاتنا الخاصة، مما لا يجده في المعاجم القديمة، وكان اللغويون القدامى لا يجترئون على مثل هذا دون دليل؛ والتخطئة أو الإنكار أشدُّ من التصويب أو القبول، وقد حدث ذلك مع كلمة (القَمْعَرة) التي لا جذر لها في المعاجم، واستعمالها محدود جدا في بعض قبائل عوف بالحجاز، ومعناها التكبّر وشوفة النفس، فظُنّ حين نوقشت في المجمع أنها عامّيّة لا أصل لها، لمحدودية انتشارها، ولكن الشيباني في نوادر الأعراب (الجيم) انقذها من حكم جائر، ففيه: ((الاقْمِعْرارُ ارتفاعٌ واجتماعٌ في الأنف، تقول: إنّ أنفَه لمُقْمَعِرّ))
 والربط الدلالي هنا ظاهر وميسور، ولولا نص الجيم لكانت كلمة (القَمْعَرة) أسوأَ حالاً من كلمة (شَهَرَني) ومع هذا فهي (أي القمعرة) من الفوائت القطعية، بفضل الجيم، ولكننا في شأن (شَهَرَني) لا نملك دليلا يجعلنا نعدها من الفوائت، إذ تخلّف الشرط الثالث، فليس لنا إلا أن نعدّها من المولد الصحيح.
ويبقى أن أقول: إن المولد نوعان: صحيح مقبول وعامّي مرذول، ومن المولد ما هو في درجة الجاهلي في الإبانة والصحة والفصاحة، وقد يتفوّق عليه.

نشرت في صحيفة المدينة، ملحق الرسالة الجمعة 1434/10/30هـ 2013/09/06 م العدد: 18398
أ.د.عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة
تويتر/  sa2626sa@