من ذكرياتي في جامعة المؤسس (1)
في
أيام ذروة الصراع بين المحافظين والحداثيين كنت طالبا في جامعة الملك عبدالعزيز
بجدة، وكنا نرى - أنا وزملائي- لهيب المعركة وشررها يسقط تحت أقدامنا لقربنا من ساحتها،
فقد كانت كلية الآداب من ساحاتها المفضلة، بالإضافة إلى الصحف والكتب والأندية
الأدبية، وكان يقود تلك المعارك الدكتور عبدالله الغذامي ومريدوه من جدة ومحمد
المليباري ومريدوه من مكة، ولكل فريق أتباعٌ في كل مكان، واختلط الحابل بالنابل،
فثمة أساتذة لا ندري مع من هم، وثمة طلاب لا ندري إلى من يميلون؟ ورأينا فريقا
ثالثا يتشكّل بصمت يميل إلى الوسطية، ويأخذ من الفريقين أحسن ما عندهما، وكان قسم
اللغة العربية في ذروة جذوته العلمية حين كنتُ طالبا فيه (1404 -1408ه/ 1984-
1988مـ) ففيه نخبة من الأساتذة وصفوة من طلاب العلم الجادّين، وكان من أساتذتنا آنذاك
الأساتذة الدكاترة: محمد يعقوب تركستاني، وعبدالله المعطاني، وعبدالمحسن فراج
القحطاني، وخليل عمايرة – رحمه الله- وعبدالله الغذامي، وعبدالهادي الفضلي، وعاصم
حمدان، وأحمد النعمي –رحمه الله- وعمر الطيب الساسي، وبكري شيخ أمين، والسعيد
الورقي، وفوزي عيسى، وحسين الذواد، وضيف الله هلال العتيبي، وعلي البطل – رحمه
الله.
وكان
من أكثرهم تاثيرا في تكوني العلمي وتوجّهاتي فيما بعد أستاذي الدكتور محمد يعقوب تركستاني،
فقد تعلمت منه حبّ العربية وتراثها ومصادرها، وكان قدوة لنا في كل شيء، في علمه وانضباطه
ودقته، وتمكنه من علوم العربية، وحبه للتراث وأهله، وجزالة لغته وسلامتها من اللحن،
فمن النادر جدا أن يسمع طلابه في دروسه لحنا،
مع انسيابه في الكلام وقدرته العجيبة على الإبانة عما يريد أن يتحدث عنه.. وفوق هذا
كانت له هيبة وإجلال في نفوسنا لحضوره القوي وشخصيته الجاذبة الأنيقة، على الرغم من
بساطته وتواضعه، وقد درسنا عليه فقه اللغة ومقرر دراسات لغوية في القراءات القرانية،
وأفدتُ منه كثيرا، وكان الدكتور عبدالله الغذامي يحاول أن يحتوي النخبة من طلابه، فلما
رأى توجّهي التراثي وصلتي بالدكتور محمد يعقوب وظهور بعض مقالاتي في ملحق التراث بهذه
الجريدة في عام 1408هـ حين كنت في المستوى الأخير بالجامعة قال لي: أخذك التركستاني!
والحقيقة
أن الدكتور عبدالله الغذامي آية في حسن التعامل واحترام الرأي، وتشجيع طلابة على
تكوين شخصيتهم العلمية الخاصة والبعد عن التبعية والتقليد، وقد استفدت من علمه
وطريقته في مقررَي الأسلوب والنصوص الأدبية، وجئتُه مرة في مكتبه بالقسم بعد أن
درست الأسلوب عنده، فقلت له: أنا لست راضيا عن أدائي العلمي في هذه المادة، فاعتدل
في جلسته وأقبل علي وقال حين لا ترضى عن نفسك فأنت على الطريق الصحيح! ودرسنا عليه
أيضا مادة النصوص الأدبية، فجذبنا بجمال أسلوبه وعمقه في تحليل أبيات المتنبي، ولم
أفاجأ حين حصلت عنده على العلامة الكاملة؛ لأنني أحببت المادة وأعطيتها وقتي وتذوّقتها
بفضل الطريقة الجميلة التي يتميز بها في التدريس والتحليل الأدبي ونقد النصوص
واستبطانها واستخراج مكنوناتها، ولبعض ما تعرض له الدكتور الغذامي من مضايقات بسبب
أزمة الحداثة فضّل الانتقال إلى جامعة الملك سعود، وأذكر أننا زرناه في مكتبه ونحن
على أبواب التخرج، نرجوه أن يبقى في القسم، فقال لنا هي سنة واحدة وسأعود.. ولكنه
ذهب ولم يعد.
أما
الدكتور عبدالله المعطاني فمن حسن الطالع أننا درسنا عليه مقرر المصادر الأدبية واللغوية
- من كتاب عزّ الدين إسماعيل- في المستويات الدراسية الأولى، والدكتور المعطاني
أديب وناقد وشاعر يمتلىء بالأصالة والتراث، فانتفعنا منه ومن جزالة أسلوبه في مادة
النقد القديم، وحبب إلينا مصادر العلم في الأدب واللغة، ووكان يرشد طلابه إلى أحسن
طبعات المصادر، وأذكر أنني أتيته بنسخة تجارية من (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام،
فلامني عليها، وقال لي: هذه لا تغني عن تحقيق محمود شاكر، فتعلّمنا منه ألا نقتني
كتاباً محققاً إلا بعد سؤال أساتذتنا، ثم أخذتْه منا الإدارة حين تم تعيينه وكيلا
لكلّيّة الآداب في عام 1407هـ، ولكنه كان حريصا جدا على تطوير القسم وإثرائه
بالحراك الثقافي.
أما
الدكتور عبدالمحسن فراج القحطاني فهو من أساتذتنا المحبّبين إلى نفوسنا، لعلمه
وأدبه ودماثة خلقه وأصالته وشهامته وقربه من طلابه، وأفدنا منه كثيرا على الرغم من
انشغالة بالإدارة، (كان عميدا لشؤون الطلاب) وعنه أخذنا علم العروض، وبطريقته فَكّكَ
لنا هذا العلم اللغوي الرياضي المعقّد، ويسّره لنا، وبدأ من أصغر التفعيلات، وركز
على تدريب الأذن الموسيقية عند طلابه؛ لخلق مَلَكةٍ تُعين على تمييز التفعيلات
صوتياً، وكان يتنقّل بنا من الأسهل إلى الأصعب، إذ بدأ بتفعيلة (فاعلن) من بحر
المتدراك ثم (فعولن) من بحر المتقارب، وهما من الدائرة الخامسة، وانتهى بنا إلى
التفعيلات السباعية والدوائر الأكثر تعقيداً، فكانت مادة العروض من أجمل ما
تعلمناه في الجامعة، فأحببناها، وانتفعنا من أستاذنا كثيرا على الرغم من انشغاله بالعمادة،
وهي من أصعب العمادات، ولكنه كان يعطي المادة حقها، ويعامل طلابه بخلق أصيل، وأذكر
أننا في الاختبارات الشفوية نأتيه إلى مكتبه لإجراء اختبار شفوي، وكان معي زميلي
(الناقد والأديب فيما بعد) حسين بافقيه، وهو من النخبة المميزة في دفعتنا.. وكان
بعض زملائي يستثقل العروض، ولا يطيقه، وأنا اليوم أحزن على من يحرم نفسه من لذّة علم
العروض وإتقانه، فهذا العلم طَرِبَتْ لتفعيلاته الإبِلُ في الحداء، فكيف لا يطرب له الناس؟
(للحديث صلة عن بقية أساتذتي وبعض زملائي في
الجامعة، في المقالات القادمة إن شاء الله)
أ.د. عبدالرزاق بن فراج الصاعدي*
*
الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة
تويتر
/ مجمع اللغة الافتراضي @almajma3