تُقدّم
أقسام اللغويّات في جامعاتنا السعودية خدمة جليلة للغتنا العربيّة، في حقلَي التدريس
الجامعيّ والبحث العلميّ اللغويّ، وتعدّ هذه الأقسام الحارسَ الأوّل للسان العرب، وهي
المخطِّط لمستقبله والراعي لأبحاثه العلميّة، وهي محطّ الأنظار لعشّاق اللغة وآدابها،
يطمحون في رؤيتها في المكانة التي يرتجونها، ولأنّنا نطمح إلى المزيد ونتطلّع إلى الأفضل
والأكمل، فإن النقد الهادف محمود، وبخاصة فيما يتّصل بالرسائل العلمية والبحث العلميّ
في أقسامنا، وهي أقلّ من المأمول، وهذا همٌّ يؤرّق كل الأقسام العلمية والنظرية في
جامعاتنا، ويؤرّقنا نحن أعضاء مجالس تلك الأقسام.
والأمر واسع ومتشعّب، ولكنني سآخذ منه بطرف، وهو
موضوعات الرسائل، فأرى أنها مصابة بالجمود مثقلة بالتكرار والحشو، وكأنّ اللغة ليست
كائناً حياً ينمو ويتطور ويواكب مستجدات الحياة التي لا تتوقّف عجلتها الدائرة، وكأنّ
علوم اللغة هي ما انتجته لنا القرون المفضّلة فحسب، فهل يكفي أن نردّد في بعض أقسامنا
ما جاء في تراثنا القديم وحده، ونغلق الأبواب على أنفسنا، ولا نبحث عن الجديد الذي
يفيد لغتنا على ضوء علم اللغة الحديث الذي يقدّر اللهجات ويحتفي بها بوصفها فرعاً مهماً
من فروع اللغة ويقدّر لغة الناس ويفتح المجال لدرسها على ضوء منهجَي الوصفية والمعياريّة؟
لقد
قدم الخليل وسيبويه وابن جني وابن فارس وغيرهم من سلف الأمة الكثير للعربية وعلومها،
وفضلهم يُطوّق أعناقنا، وهم أساتذة الأجيال في كل الأزمان، لكن من حقّ لغتنا علينا
ومن البرّ بها ألا نبقى مستهلكين مرددين مكتفين بجهود السلف، فيجب علينا في أقسامنا
أن نصنع المعرفة اللغوية المتجددة ونعدّ المناهج والبرامج التي تحقّق لنا ذلك، وأنْ
نربّيَ لدى طلابنا ملكاتِ النقد والبحث الأصيل الجادّ وبناءَ الشخصية العلمية الحرة
التي تأخذ وتردّ وتوجّه وتبتكر، فالتجدّد في لغتنا وأبحاثنا ورسائل طلابنا حياة ونماء
والرتابة والسكون موت بطيء، ومن الخطأ أن يبقى البحث العلمي الذي توجّهه الأقسام مقصوراً
على القديم دون الجديد.
إنّ
لغتنا تحتاج إلى أبحاث ترعى تطورها ونموها وازدهارها في ألفاظها ودلالاتها، وترعى مولّد
الألفاظ الذي يجري على سنن كلام العرب، وتعالج ما يصيبها من أمراض اللسان، والتلوّث
اللغويّ المتفشّي، والكشف عن أسبابه وطرائق معالجته، وإنّ التعامل معها في صحتها ومرضها
من واجبات الأقسام اللغوية، فإن تجاهلتها تلك الأقسام وانصرفت عنها فمن لها؟
لقد
أوصى المؤتمر الدولي الأول للغة العربية ومواكبة العصر الذي عقد في رحاب الجامعة الإسلامية
في عام 1433هـ بأنْ توجِّهَ أقسام اللغة العربية في جامعاتنا بعض بحوثها الأكاديمية
إلى اللهجات العربية المعاصرة، لدرسها وتهذيبها وردِّها إلى أصولها الفصيحة، فآن الأون
لتفعيل تلك التوصية.
وإننا نتطلع إلى رؤية أقسام اللغة العربية وهي تنفّذ تلك التوصية المهمة، وأن تراعي التوازن في تسجيل الموضوعات لرسائل الماجستير والدكتوراه بين القديم والجديد، وأن تراعي رغبات طلابها وترعاها وتوجهها، فمن يُظهر رغبة في خدمة لهجاتنا المعاصرة ولدية القدرة على التحليل والتأصيل ينبغي أن يؤخذ بيده ويعان ويوجّه، ومن لديه رغبة في دراسة الدلالة في المعاجم المعاصرة كذلك يعان، ومن غير المعقول أن توجه أكثر أبحاثنا إلى النحو والتصريف، بمنهج ثابت لا يقبل التطوير ولا التغيير، حتى أصبح طلابنا كالآلات في جمع المادة ونقل الأقوال وقصّها ولزقها، برتابة مملّة وتكرار مخلّ، مما شجّع على رواج سوق الورّاقين المأجورين؛ لأنّ بعض البحوث لا فكر فيها ولا تجديد، فهو عمل رتيب يقوم به كل من لديه أدنى معرفة بالعربية، ويُحسن الرجوع إلى المصادر القديمة المتاحة للجميع ويعرف كيف يجمع النظائر ويحشدها وكيف يستخرج النصوص من المصادر القديمة المشاعة، ويترجم للأعلام المطروحة على الطريق، لتخرج أبحاث باردة رتيبة مُستهلِكة لا تصنع المعرفة ولا تنتج علما، فتزداد رسائلنا المكدسة على أرفف مكتبات الكليات، وتبقى ساكنة لا تنفع ولا تضرّ كجثث محنطة لا حياة فيها.
وهنالك ما يتصل بمناهج التحقيق وآلياته وأدبيّاته،
وهو شأن آخر يطول الحديث فيه.. وأسأل الله أن يعين أقسامنا على تأدية رسالتها على الوجه
الأكمل.
أ.د.
عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
جريدة المدينة ملحق الأربعاء
1434/11/12 هـ 2013/09/18 م العدد: 18410
http://www.al-madina.com/node/479052