تحليل معجمي لألفاظ وردت في لهجاتنا من جذر (طرش)
بقلم أ. تركي الغنّامي
بالرغم
من شح الجذر (طرش) في المعاجم إلا أننا يمكن أن نجد في العصور المتقدمة بعض التصريفات
لهذا الجذر والتي تجاهلتها المعاجم، أو كان ذلك مما فاتها عن غير قصد، وغياب هذه الكلمات
عن المعاجم جعل تفسيرها أمرا شاقا على الشراح؛ لذلك انسحب عمل المعجميين على الشراح
فتجاوزوها، أو شرحوها شرحا غامضا لا يضيف شيئا، ومن هذه التصريفات "طرَّاش"
التي جاءت على لسان جعفر بن دواس في هجائه لابن الفرات وهو من شعراء القرن الخامس ووردت
في قوله :
كالغصن ماس لحاه كي يقشِره * دهر ولكن لعمري
غصن طرّاش
ولم
أجد من تعرض لهذه اللفظة بشرح، ومنها كذلك كلمة "مطراش" في القصيدة الساسانية
للينبوعي وهو من شعراء القرن الرابع وجاءت في قوله:
ومنا كلّ مِطراش * من المكلوذة البتر
وقد
علق الثعالبي على هذا البيت في اليتيمة عند شرحه للقصيدة فقال :" المطراش الذي
معه يده يكدى عليها ويقال اليَد المقطوعة المكلوذة "! على أن الذي يقرأ الأبيات
قبل هذا البيت وهي تتكلم جميعا عن الرحلة والتنقل وطول السفر ويربطه بما عُرف من حال
الشاعر الذي وُصف بالرحالة لكثرة سفره وتنقله يفهم من كلمة "مطراش" شيئا
آخر تماما.
وليُتنبه إلى أنني لا أورد هذين البيتين استدلالا
على فصاحة الألفاظ المذكورة وإنما أوردها إثباتا لوجود هذه الصيغ من الجذر (طرش) في
هذا العصر أما الكلام عن فصاحتها فهو بحث آخر.
ومن التصريفات والاستعمالات القديمة لهذا الجذر ما
جاء في وصف الخيل في قول العرب "فرس طَرُوش" والتي لم أجد لها شرحا ولم أجدها
في المعاجم بينما نقلتها بعض الكتب المعنية بالخيل. ومن التصريفات التي لم توردها المعاجم
برغم قدمها "طارش" وهو اسم علم وهو جد قبيلة من كلب ذكره الكلبي في نسب معدّ
واليمن الكبير. والعجيب أن هذه التصريفات التي ثبت استعمال بعضها قبل المعاجم والأخرى
أثناء كتابتها لا تزال مستخدمة إلى اليوم في جزيرة العرب ومعانيها واضحة الدلالة لا
لبس فيها فـ (مطراش، وطرَّاش، وطارش، وطروش) كلها مستخدمة، علما أن اسم "طارش"
مستخدم إلى اليوم واشتقاقه واضح أتم الوضوح لدى مستعمليه وقد استخدموه مصغرا أيضا فسموا
"طويرش".
بقي
أن ننظر هل من الممكن أن يكون في هذا الجذر وبالتالي في تقليباته شيء من المعنى الذي
لا يزال مستخدما بيننا وهو معنى الانتقال والارتحال والحركة؟ لم أجد في المعاجم ما
يمكن أن يكون إيماءة إلى معنى الحركة في هذا الجذر إلا ما جاء في المقاييس في وصف المريض
في أول شفائه إذا استطاع الحركة قياما وقعودا، قال ابن فارس: "وقال أبو عمرو:
تَطَرَّشَ النَّاقِهُ من المرض، إِذا قام وقعد" وهذا النقل من ابن فارس فأل خير
يمكن أن يبنى عليه بحيث تمد هذه الحركة لتكون أفقية لا عمودية فقط،إلا أننا لن نعدم
معارضا يقول شتان بين الحركتين! ولذلك سنكتفي بقبول أن مجرد الحركة داخلة في معاني
طرش من غير أن ندخل في صفة هذه الحركة. وإذا خطونا خطوة أخرى مع معجمي آخر وهو صاحب
المحيط وهو معاصر لابن فارس والذي ذكر ما ذكره ابن فارس وزاد عليه ليجعل الحركة الأفقية
داخلة أيضا في معنى طرش فنجده يقول : " وتَطَرَّشَ بالبَهْمِ: إذا اخْتَلَفَ بها"
وهذا النص من ابن عباد صريح لا مراء فيه، فحركة الراعي ذهابا وجيئة تسمى تطرشا وهو
عين المعنى الذي تستخدم له هذه الكلمة اليوم في عامة اللهجات في جزيرة العرب، واستخدام
تطرّش بمعنى طرش وارد، فالتبادل بين فَعَلَ وتَفَعَّلَ كثير في اللغة، كقولهم: وقف
وتوقَّف وكتم وتكتَّم وبدى وتبدَّى ورَجا وترجَّا، وهذا النص المهم والصريح يعلي بناء
فصاحة اللفظة وتصريفاتها وصحة المعنى الذي تستعمل له اليوم وهو الانتقال والارتحال
بنية العودة وعلى ما تقدم نلاحظ أن كثيرا من تصريفات الجذر (طرش) موجودة منذ أكثر من
ألف سنة وبعضها معروف منذ عصر الاحتجاج، ومعنى التنقل والارتحال والحركة معروف ومنصوص
عليه في المعاجم القديمة، فهل بقي شك في فصاحة هذه الكلمة وفي أنها من الفوائت القطعية
التي فات أهل المعاجم تدوينها وإثباتها ؟!!
هذا والله جل وعلا أعلم وأحكم.