الصمم
بين "الأصقه" اللهجية و"الأسك" المعجمية
(
قراءة وتحليل)
بقلم الأستاذ تركي الغنّامي
قال
ابن فارس في المقاييس: "(سكَّ) السين والكاف أَصل مطرد، يدل على
ضيق وانضمام وصِغر" وقال ابن منظور في اللسان : " والاستكاك:
الصمم وذهاب السمع. وسَكَّ الشيء يسكُّه سَكّا فاسْتَكَّ: سدَّه فانسدَّ. وطريق سُكُّ:
ضيِّق منسد" وجاء تحت هذه المادة في عامة المعاجم كلمات تدور في مجملها حول الضيق
والانسداد والانضمام والصغر إلا أن مما يلفت النظر أن الكلمات التي تحمل معنى
الانسداد من هذا الجذر قد توارت من الاستعمال واختفت على الأقل في عامة البيئة
الجزرية فنحن لا نعرف في استعمالنا سَكَّ الباب بمعنى أغلقه ولا سَكَّ الطريق أي
سده، فسَكَّ بمعنى سد وأغلق لم تعد – فيما أعلم - مستعملة في لهجاتنا بهذه الصيغة،
إلا أننا نجد مما يستعمل في اللهجات ويعبر عن هذا المعنى "صَكَّ"
و"سَكَّر" فيقال : صَكَّ الباب وسَكَّر الطريق، وتتناوب الكلمتان
وتعطيان معنى "سَكَّ" المعجمية، ولن يغيب عن الناظر أن صَكَّ هي ذاتها
سَكَّ قلبت سينها صادا، وأن سَكَّر هي أيضا "سَكَّ" إلا أنه زيد عليها
حرف الراء .
ومن
الكلمات التي تعني الانسداد في هذا الجذر كلمة "أسَكّ" بمعنى أصم والتي
اختفى منها معنى الصمم وانسداد السمع المنصوص عليه في المعاجم إلا أنها بقيت رسما
وبقي أحد معانيها المعجمية، فالأسك في المعجم وفي اللهجة هو الذي ليس له أذنان أو
صغير الأذنين ملتصقهما.
والسؤال
الذي لا أجد له إجابة - وليست الإجابة عليه مما يعنيني هنا - لماذا تهرب لهجتنا من
معنى الانسداد في هذا الجذر فتبدل بعض حروفه، أو تزيد على أصلها حتى لا يبقى على
صيغته؟
والسؤال
التالي والذي أرجو أن أجد إجابته : إذا كان الفعلان اللهجيان "صك"
و"سكر" بمعنى سد وأغلق حلا محل "سك" الفصيح، فأين ذهب الوصف
"الأسك" بمعنى الأصم وهل اختفى كما هو ظاهر؟! أم أن هناك وصفا قد حل
محله أيضا؟
سأحاول
الإجابة على هذا السؤال ما وسعني، فأقول مستعينا بالله سائلا إياه السداد والتوفيق
:
إن
التبادل بين الحروف ظاهرة مشهورة وقد ثبت بالنقل الذي أصبح قاعدة يقاس عليها أن
هناك حروفا في العربية تتناوب والأمثلة على ذلك كثيرة متعددة فيصح في لغتنا أن
تبدل السين صادا والهاء همزة والهمزة عينا والقاف كافا والجيم ياء .. إلى غير ذلك
من الإبدالات، وإذا أردنا أن ننطلق من هذه القاعدة في تعاملنا مع كلمة
"أسك" بمعنى أصم والتي يخيَّل إلينا أنها قد اختفت من لهجاتنا، فيجب
علينا أن نفحص المرادفات لها في هذه اللهجات وخاصة التي لا نجدها حاملة معنى الصمم
في المعاجم أو التي لم تثبتها المعاجم أصلا.
إن
مما شاع وذاع في لهجاتنا معبرا عن الأصم - وهو غير موجود في المعاجم- كلمة
"أصقَهْ" فالأصقه في كثير من لهجات الجزيرة مرادف للأصم، فهل يمكن أن
تكون هذه الكلمة الشائعة والقديمة في اللهجة دخيلة أو وافدة من لغة أخرى؟ أم أنها
محرفة عن كلمة أصيلة؟ أم أنها وقع فيها الإبدال الذي جرت عليه طبيعة لغة العرب
وقوانينها ؟
فنحن
إذن بين كلمتين كلاهما تعنيان الأصم، الأولى فصيحة أصيلة اختفت من الاستعمال وبقيت
في المعاجم فقط، والثانية مستعملة منتشرة في جزيرة العرب وهي غير موجودة في
المعاجم، فأين ذهبت الأولى؟ ومن أين أتت الثانية؟ وهل من الممكن أن تكون الثانية
هي الأولى مع بعض التبديل ؟
فلننظر إذن للكلمتين ولنخضعهما لقوانين الإبدال
ولنرى هل تنطبق عليهما هذه القوانين ؟ وبناء عليه هل من الممكن أن تكون كلمة أصقه
اللهجية هي أسك المعجمية ؟
إن
أول ما نلاحظه هو توافق الكلمتين في عدد الحروف فكلاهما تتكونان من أربعة أحرف (أ
س ك ك) و ( أ ص ق هـ) ثم لو نظرنا إلى هذه الأحرف وفق مواضعها في الكلمتين وجدنا
أن الهمزة تقابل الهمزة والصاد تقابل السين والقاف تقابل الكاف والهاء تقابل الكاف
الأخيرة .
وإذا
نظرنا إلى طبيعة الإبدال في العربية وجدنا أن السين يصح أن تقلب صادا والكاف يصح
أن تقلب قافا كما يصح أن تقلب همزة أيضا .
وإذا
أردنا تطبيق هذه القوانين على كلمة "أسك" وقمنا بتتبع مراحل الإبدال
فيها يمكن لنا أن نقول أن الكاف الأولى أبدلت قافا على لغة (قشطت) في كُشطت، مما
تسبب في فك التضعيف فأصبحت الكلمة (أسْقَك) ولا يخفى ما في الكلمة من ثقل من تتابع
القاف المفتوحة والكاف فأبدلت الكاف همزة على لغة (هاكَ) وهاءَ بمعنى خذ، فأصبحت
الكلمة (أسقأ) ولأن السين هنا متبوعة بالقاف فقد جاز قلبها صادا على لغة (سَقَر)
وصَقَر فأصبحت الكلمة (أصقأ) ، ولأن عامة لهجات الجزيرة لا تنطق الهمز فقد حدث
إبدال في الحرف الأخير من الكلمة فبدلت هذه الهمزة في أكثر اللهجات هاء على لغة
(هرقت) في أرقت الماء، لتصبح الكلمة (أصقه) وبدلت في بعض لهجات جنوب شرق الجزيرة
عينا وفقا للغة المنقولة (أعن) في أإن و(معتلي) في مؤتلي لتصبح الكلمة (أصقع) .
ويمكن
أن نقول في تسلسل الإبدالات غير ذلك وإن كان لا يتوافق في بعض مراحله مع قوانين
الإبدال المعروفة بين أهل الاختصاص ولكنه ربما وجد في اللهجة ما يعضده، فقد تكون
سين "أسك" بدلت صادا لتصبح "أصكَّ" إلا أنها بذلك أوهمت كلمة
أخرى وهي الأصكَّ بمعنى الشخص الذي تصطك رجلاه وركبتاه عند العدو، فقلبت حينئذ
الكاف الأولى قافا فأصبحت الكلمة "أصقك" ثم أبدلت الكاف همزة ثم الهمزة
هاء في لهجة وعينا في أخرى، فبرزت كلمة أصقه وأصقع بمعنى أصم .
ولأن
أصقع كلمة معجمية ولها دلالتها – التي ليس الأصم منها - وهي موجودة أيضا في أكثر
لهجات الجزيرة وموافقة للمعنى المعجمي وزائدة عليه في بعض ظلال معانيها فلم يكتب
لاستخدامها في معنى الأصم انتشار كانتشار كلمة أصقه التي تختص بمعنى الصمم فقط .
وعلى
ما تقدم فإنني أرى أن كلمة أصقه بمعنى أصم صحيحة موافقة لمقاييس الإبدال اللغوي
وليست نشازا ولا خارجة عن قوانين العربية، وهو حالها وحال الكثير من الكلمات
الجزرية التي نقدم سوء الظن في تعاملنا معها قبل الدراسة العلمية والتحليل المنهجي
الذي على ضوئه تتحدد صحتها أو فسادها وعاميتها.