من
ذكرياتي في جامعة المؤسس (10)
عبدالرزاق
بن فراج الصاعدي*
1-
في تلك الحقبة (النصف الثاني من الثمانينات الميلادية) كنا محظوظين في قسمنا بالزخم
الأدبي والحراك النقدي والنشاط العلمي المتوهّج بسبب التكوينات والتحوّلات والصراع
المحتدم حول الحداثة، وقد وصل الزخم إلى الجامعة وكلية الآداب والعلوم الإنسانية،
وبخاصة قسمنا (قسم اللغة العربية) واستقطبت بعضُ الأقسام في الجامعة شخصياتٍ علميةً
ودعتهم إلى إلقاء محاضرات عامة.. ووصل الزخم أيضاً إلى نادي جدة الأدبي، فكان
مورداً عذباً لطلاب كلية الآداب بمحاضراته المنبرية ومطبوعاته..
2-
وأذكر حدثين؛ الأول أن كلية الآداب استقطبت العلامة التركي (فؤاد سزكين) لإلقاء محاضرة
عن تجربته في خدمة التراث العربي وتحقيق المخطوطات.. ألقى الدكتور سزكين محاضرته
في المبنى القديم لكلية الآداب، وكعادة المتكلم يقلل من شأن نفسه تواضعاً، فذكر أنه
شارك في خدمة تراث العربية بقدر طاقته، وبعد أن فرغ من كلمته دارت تعليقات ومناقشات
وأولها مداخلة لأستاذ مصري فاضل من قسم الدراسات الإسلامية (نسيت اسمه الآن مع أن
هيئته وصورته باقية في ذاكرتي) وأراد الأستاذ الفاضل أن يعلّق على كلام الدكتور سزكين
وأن يثني على جهوده فذكر أنّ للأستاذ سزكين (سهماً) في خدمة التراث.. وكأنّ
المداخلة لم تُرضِ ما في نفس الضيف المحاضر، فثارت ثائرته، وقال منفعلاً: بل لي (سهمان)
في خدمة التراث فعلت وفعلت وفعلت.. وماذا فعلتم؟ (كأنّه يقول في نفسه: أيها العرب!)
والحقّ أن الدكتور المداخل لم يخطئ في شيء، لكن يبدو أن المحاضر الكريم كان ينتظر منه
ثناء أكبر مما سمعه في المداخلة.. ولعل له الحق في انتظار التقدير والثناء الأكمل كفاء
ما قدمه للتراث الإسلامي، ويكفيه فخراً موسوعته (تاريخ التراث العربي) التي طبعت
في جامعة الإمام محمد بن سعود.
3-
أما الحدث الثاني فكان لقاؤنا نحن طلاب قسم اللغة العربية بالناقد المصري الكبير
الدكتور صلاح فضل بترتيب وتدبير من أستاذنا الدكتور عبدالله الغذامي، على هامش
استضافة النادي الأدبي للدكتور صلاح لإلقاء محاضرة بتاريخ 1 رجب 1407هـ بعنوان: ((إشكالية
المنهج في النقد الحديث)) وفي اليوم التالي دعاه أستاذنا الغذامي ليكون ضيفا في محاضرته
لنا، ويكون لقاء مفتوحا مع الطلاب، فجمع طلابه في مقرري (الأسلوب) و(النصوص
الأدبية) وكنت أنا في النصوص، وطلب منا أن نثري اللقاء بالأسئلة والحوار، فكان لقاء
جميلا مفيدا جلس فيه الأستاذان متجاورين أمامنا في مدرج كبير في مبنى كلية الآداب الجديد..
وهذه واحدة من حسنات الدكتور الغذامي الكثيرة ومن مظاهر اهتمامه بطلابه في تلك الحقبة
الذهبية قبل أن يتغيّر لاحقاً..
4-
وفي أيامنا كان النادي الأدبي بجدة في أوج نشاطه المنبري الأدبي والثقافي، يرأسه الأديب
الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين، وكانت محاضراته في فندق العطاس بالبغدادية بجدة، ولطلاب
قسمنا حضور ملفت لمحاضرات النادي، وبعض أساتذتنا من أعمدته كالدكتور عبدالله الغذامي
نائب الرئيس والدكتور عبدالمحسن القحطاني والدكتور عبدالله المعطاني، في العضوية، وكنا
نجد منهم الدعوة والتأييد والتشجيع لحضور الأنشطة الثقافية العامة للنادي، فكانت المحاضرات
بفندق العطاس زاداً ثقافياً يضاف إلى تحصيلنا في الجامعة.
5-
ومن أمسيات الشعر التي يقيمها النادي أمسية شعرية لا تنسى لثلاثة من الشعراء الشباب
ممن يكتبون في شعر التفعيلة والشعر الحر، وهم محمد الثبيتي –رحمه الله - ومحمد جبر
الحربي وعبدالله الصيخان، فألقى الصيخان قصيدته (فضة) وألقى بعده محمد جبر الحربي
قصيدته (خديجة) أما محمد الثبيتي فقد أبهر الحضور وأمتعهم بقصائد من ديوان
التضاريس، استهلّها بترتيلة البدء: (جئتُ عرّافاً لهذا الرملِ.. استقصي احتمالات السوادْ.!!)
وكانت قصيدته (تغريدة القوافل والمطر) هي أيقونة التضاريس، وواسطة عقد الأمسية، كانت
قصيدة مُشجية مثيرة للأسئلة، ومثيرة للنقاش والاختلاف، لم يتفق عليها الناس، ولهم
فيها مذاهب، ومما قاله منها: (أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ.. صُبَّ لنا وطناً في الكُؤُوسْ..
يُدِيرُ الرُّؤُوسْ.. وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ..)
وفي القصيدة مزيج من الرمز والخيال والتصوير والمفردات والتراكيب المكتنزة
بالدلالة والإيحاء مما قد يعجز عن قول مثله كثير من الشعراء، على الرغم من سهولتها
بادئ النظر، ومنها قوله (مَرُّوا خِفافاً على الرملِ.. يَنْتَعِلُونَ الوَجَى..
أسفرُوا عن وجوهٍ مِنَ الآلِ.. واكتَحلُوا بالدُّجَى) وقوله: (إنَّا سلكنا الغمامَ
وسَالَتْ بنا الأرضُ) وقوله: (أيا مُورِقاً بالصبايا.. ويا مُترَعاً بلهيبِ المواويلِ..
أَشعلْتَ أغنيةَ العيسِ فاتَّسعَ الحُلم في رِئَتَيكْ!!) وقوله: (يا كاهنَ الحيِّ..
طالَ النوى.. كلَّما هَلَّ نجمٌ ثَنَينَا رقابَ المَطيِّ.. لِتَقْرأَ يا كاهنَ الحيِّ..
فَرَتِّلْ عَلَينَا هَزِيعاً مِنَ اللَّيلِ..) ومن قصيدة (البابلي) قال: (مسَّهُ الضُّـرُّ..
هذا البعيدُ القريبُ المُسَجَّى بأَجنحةِ الطيرِ.. شَاخَتْ على ساعديهِ الطحالب..
والنملُ يأكلُ أجفانَه!!) لقد كان الثبيتي في تلك الأمسية مثيرا للخيال والأسئلة، تفاعل
معه الحضور، وأكرمه مدير الأمسية الدكتور الغذامي بالثناء الأوفر على شاعريته.
6-
وفي محاضرةٍ تالية في النادي حين اشتدّ الصراع على الحداثة أذكر أن الدكتور منير ندا
(وهو أستاذ فاضل من أساتذة كلية الآداب) أُعطي فرصة للمداخلة في محاضرة -لا أتذكّر
عنوانها- فأخذ ينتقد منهج الحداثة ومنهج الدكتور الغذامي نفسه، وكان الدكتور منير
كثير الاعتراض على الحداثيين في محاضرات النادي، يناكفهم في بعض المناسبات
وينتقدهم ولكنه لا يخرج عن أدبيات الحوار، ويبدو أنه أثقل عليهم فلم يتحمّله الغذامي
في ذلك المساء، ورد عليه بعنف وحقّره بكلمات جارحة صدمت مسامع الحاضرين وأدهشتهم، فسكت
الدكتور منير وخرج من القاعة، ولم أره في محاضرات النادي فيما بعد.
(للحديث
صلة)
*
الجامعة الإسلامية - تويتر / مجمع اللغة الافتراضي
@almajma3
جريدة المدينة، ملحق الأربعاء: الجمعة 1435/3/2 هـ 2014/01/03 م العدد : 18517
al-madina.com/node/500479