من
ذكرياتي في جامعة المؤسس (8)
عبدالرزاق
بن فراج الصاعدي*
1-
وفي عام 1408هــ كنا ندرس مقرر (دراسات لغويّة في القراءات القرآنية) على الدكتور
محمد يعقوب تركستاني، كان موعد المحاضرة الساعة الثامنة صباحاً، وللدكتور محمد
يعقوب هيبة وإجلال، وتكتنف محاضراته سكينة ويعلوها وقار قلّ مثيله، فمن النادر أن
تسمع صوتاً أو تشويشاً، فكاّنَّ الوقار ينتقل إلينا من أستاذنا أو ينزل علينا نزولاً
من سقف القاعة، وحتى أشد الطلاب حيويّة ومشاغبة ومداعبة ومرحاً وصخباً وطيبة قلب (عطيّة
الزهراني) تعتريه السكينة المفاجئة في محاضرات الدكتور، فالكل بلا استثناء يلتزم الهدوء
والوقار بعقد غير مكتوب ولا منطوق، وكنت -ولم أزل- من أكثر الطلاب إجلالاً وتأثّراً
بأستاذي، أستحيي منه وأقتبس من علمه وفوائده وحكمته، حتى إن الدكتور عمر الطيّب
الساسي لاحظ تأثّري بأستاذي التركستاني فقال لي في مداعبة عابرة ذات يومٍ في مكتبه
الجديد: (أنت عبدالرزاق فراج الحربي نسباً، التركستاني ولاءً!) قالها على طريقة
أصحاب التراجم!
2-
وفي يوم من أيام تلك المحاضرة، تأخّرتُ عشر دقائق، إذ غلبني النوم، فجئت إلى القاعة
مسرعاً مرتبكاً، فليس من عادتي التأخّر ولا الغياب، فاستأذنت ودخلت، وكان مقعدي
أمامه فارغاً، فقادتني قدمايَ إلى آخر القاعة وجلست في الصفّ الأخير وتركت مقعدي..
لا أدري لماذا فعلتُ ذلك؟ لعله الحياء من الدكتور إذ جئتُ بعده متأخراً، ولعله
معاقبة لنفسي على التأخّر، فلا أذكر أنني غبت محاضرة واحدة طيلة أربع سنوات مدة
دراستي في الجامعة سوى هذه الدقائق العشر، ولذا بقيت محفورة في ذاكرتي لا أنساها.
3-
وفي نهاية الفصل الدراسي حصل موقف عفويٌّ منّي أغضب جميع زملائي، وخلاصته أن أستاذنا
التركستاني كان يكلّفنا بتحضيرات كثيرة، لكلّ محاضرة، ويطلب منا تدوينها ومناقشتها
في مستهلّ الدرس، وحتى يضمن الجدية قال لنا: اجمعوا تحضيراتكم وتعليقاتكم في نهاية
الفصل وقدِّموها لي مصوّرة مع البحث الذي ستكلّفون به، لتكون جزءا من درجة أعمال
الفصل، فأخذت الأمر على محمل الجدّ،
فلما كانت المحاضرة الأخيرة جئتُ بملزمة كبيرة في نحو 100 صفحة هي تحضيراتي
للمقرر والفوائد التي دونتها مما أسمعه منه في أثناء المحاضرة، وقدّمتها له بعفوية
أمام زملائي، فتذكر الدكتور وكان ناسياً
ويبدو أن زملائي نَسُوا ذلك أيضا أو تناسوه ولا يريدون أن يتذكّر الدكتور أو يُذكّر،
فسألهم عن تحضيراتهم، وطلب منهم أن يأتوا بها مع البحث إلى مكتبه قبل
الاختبار.. كانت صدمة!! ويبدو أن أكثرهم لم يكن جاهزاً ولا مستعداً، أما أنا فأسفت
واعتراني حَرَجٌ شديد، فلما خرجنا من المحاضرة انهال عليّ اللوم من زملائي،
وعاتبني عدد منهم، وسكت بعضهم، وكان أكثرهم عتاباً حسين الأسمري، قال لي: يا أخي حرام
عليك!! الدكتور كان ناسياً الأمر تماماً وتأتي أنت لتذكره وتورّطنا؟ فاعتذرت لهم
بأنني تصرّفت بحسن نيّة وعفوية مطلقة، وظننت أن تحضيراتكم جاهزة ومعدّة وقدّرتُ أن
الدكتور سيطلبها منا لا محالة.. والحقيقة أنني في عرف الطلاب أخطأت، وكم بين
الطّلّاب من أدبيّات يجب أن تحترم!!
4-
واستمرت صلتي بالدكتور محمد يعقوب، بعد تخرجي، فعملت معه مدة قصيرة في ملحق
التراث، بجريدة المدينة بشارع الصحافة بجوار نادي الاتحاد، كان هو يوشك أن يعود
إلى الجامعة الإسلامية لانتهاء مدة الإعارة، وأنا على وشك التخرج، وكنت موعوداً أو
شبه موعود بوظيفة معيد في قسمي الذي أحببته، في جامعة المؤسس، وكأنّ الدكتور محمداً
أراد أن أساعده في الإشراف على ملحق التراث حين يذهب هو إلى المدينة، فعايشته في
الجريدة عدة أسابيع، وعرفتُ طريقته في الإشراف على الملحق، وكيف يجمع المادة
ويصنفها ويهيئها، وكيف يصنع (بروفة) العدد ويضع كل مادة في مكانها، بوضع ما يسمّى
بالسُّلَخ في أماكنها، بغَراءٍ خاص، ثم يراجعها، ويضع عليها لمساته الأخيرة،
وكثيرا ما كان يضبط بقلمه الخاص ضبطاً مُتقناً يظنّه القارئ من أصل النصّ المطبوع،
لقد كان إعداد العدد أمراً شاقاً، ليس كاليوم، إذ كانت جميع المقالات تصل ورقية،
وتصفّ في الجريدة، وكان من أدواري المراجعة، وكنت أتململ وأنا مَلُول، وفي أستاذنا
جلد وصبر وثبات، فكان درساً أخر أتعلمه منه خارج الجامعة: الدّقّة والصّبر والثّبات.
5-
وشاء الله أن أتخرّج ويرجع أستاذي محمد يعقوب إلى المدينة، لجامعته الإسلامية، بعد
انتهاء مدة إعارته، أما أنا فكنت حائراً وأمامي مفترق طرق، وكنت موعوداً في قسمي
بوظيفة معيد، وكان ممن ألمح إلى ذلك رئيس القسم الدكتور حسين الذواد وبعض رجالات
القسم الكبار ممن درستُ عليهم، ولكنْ حدث أمرٌ غيّر اتجاه البوصلة، فقد كان
الدكتور محمد يعقوب في الإجازة في دورة لتعليم اللغة العربية خارج المملكة، في
ماليزيا، وكان معه الدكتور علي بن ناصر فقيهي وكيل الجامعة الإسلامية للدراسات
العليا والبحث العلمي آنذاك (في عام 1408هـ وما بعدها) فطلب الدكتور فقيهي من
أستاذنا التركستاني أن يرشح لقسم اللغويات بالجامعة الإسلامية معيدِين، ممن يثق
بهم، وكان رئيس القسم في كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية حينئذ، الدكتور علي
بن سلطان الحكمي، رحمه الله، والعميد الدكتور محمد بن حمود الدعجاني، فلما عاد
الدكتور محمد يعقوب هاتفني وأخبرني بالأمر، وطلب مني أن أتوجه للجامعة الإسلامية، إن
كان عندي رغبة، وقال لي لما رأى تردّدي: جرّبْ، ولعل الله يكتب لك خيراً هناك، في
المدينة، مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم.. وقد كان.
(للحديث
صلة)
جريدة المدينة، ملحق الأربعاء، الجمعة 1435/3/2 هـ 2014/01/03 م العدد : 18517