من
ذكرياتي في جامعة المؤسس (9)
عبدالرزاق
بن فراج الصاعدي*
1-
وبعد تخرّجنا جاء للقسم عددٌ من الأساتذة،
جدّدوا فيه الدماء، منهم على سبيل المثال لا الحصر: الدكتور عبدالعزيز السبيّل، والدكتور
سالم الخمّاش، والدكتور جميل المغربي، والدكتور منذر العياشي، والدكتور حسن النعمي،
والدكتور سعود أبو تاكي، وكان في القسم مجموعة من الطلاب المميزين التحقوا به بعد دفعتنا
تلك، كان لهم شأن فيما بعد، ومنهم: يحيى الحكمي (عميد كلية الآداب بجامعة جازان حاليا)
وفهد الشريف (المشرف على هذا الملحق) ونوح الشهري ومجدي بامخرمة ومروان قمّاش أعضاء
القسم حاليا، ومحمد المنقري ناقد، وغيرهم كثر.
2-وربما
كان ما يميّز جيلنا في تلك الحقبة الذهبية التعطشُ الثقافي والمعرفي والقراءة
الواعية، وهو أمر رأيته ولمسته لدى كلّ الزملاء تقريبا، لكنّ ثلاثة من زملائي
لفتوا نظري بسعة اطلاعهم، وشغفهم بالكتاب والقراءة، وهم: حسين بافقيه وأحمد سعيد
قشاش وناجي محمدو عبدالجليل حين، ولكلٍّ منهم شخصيته الثقافية الخاصة..
3-
وحين أذكر "ناجي حين" أذكر حبه للمعرفة ونهمه للثقافة في شتى أنواعها،
وأتذكّر الآن أمراً، وهو أني سمعته مرة في محاضرة - عند الدكتور علي البطل ذات
مساء - يسأل عن (الأثرم) من علماء اللغة القدامى الذين يروون عن أبي عبيدة وعن
هشام بن السائب الكلبي.. ولفت نظري السؤال ولا أتذكّر التفاصيل، لكن علق في ذهني
اسم الأثرم، وتعجّبت كيف عرفه ناجي وتسلّط عليه من بين اللغويين حين كنا مأخوذين بالخليل
وسيبويه؟! ومنذ ذلك اليوم لا أرى اسم الأثرم اللغويّ في مصدر إلا أتذكر زميلي
الدكتور ناجي حين، ولعله نسي الأمر لكونه سؤالاً عابراً، لكنْ ثمة أحداثٌ صغيرة "تنحفر"
في الذاكرة لأمرٍ ما فلا تنسى.. ومن صفات ناجي (الدكتور فيما بعد) غير سعة الاطلاع
والنباهة أنه حلو المعشر عذب الكلمة حاضر النكتة والطرفة، يُؤنس بقربه وبمجلسه، لا
يُملّ حديثه.
4-
أما حسين بافقيه فربما كان أيقونة دفعتنا، له حضور كرائحة البخور، يتغلغل في
المكان، وينثر الأسئلة أينما حلّ، عرفته عاشقا للكتاب والثقافة واسعَ الاطلاع
كناجي، صاحب حظّ وافر من الذكاء والفطنة، كلمته عذبة أنيقة جذابة.. أسّس نواة
مكتبته قبل الجامعة، وكان يذكر لنا شخصيّات أدبية زارها حين كان طالبا في الثانوية
العامة، منهم الأديب السعودي الكبير محمد حسين زيدان.. كان حسين بافقيه شغوفا
بالأدب والنقد خاصة، والثقافة الأصيلة، مأخوذا بفكر العوّاد والنابهين من الروّاد،
فأصبح أديباً ناقدا وباحثا في التاريخ
الثقافي.. وأخرج فيما بعد مؤلفات تدل على علمه وأدبه، ومن أجمل ما قرأته له كتابه
(ذاكرة الرواق وحلم المطبعة) يؤرّخ لأصول الثقافة الحديثة في مكة المكرمة، ويعدّ
مرجعا مهما لمن يريد الاطلاع على تاريخنا الثقافي بعامة وتاريخ مكة بخاصة في القرن
الماضي، وكذلك كتابه (إطلالة على المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية) وكتاباته
المتنوعة عن عبدالله عبدالجبّار.. ومن سمات حسين بافقيه أنه صاحب قلم أدبي سيّال، وهبه
الله صبر الباحثين وجلدهم، وأراه يكتب ليستمتع أولاً، فالكتابة عنده متعة وتذوّق.
5-
وأذكر أنه كان يخبرنا عمّا يقف عليه من نفائس الكتب في المكتبات التجارية بجدة
ومكة، وكنا نفعل الشيء ذاته معه ومع سائر الزملاء، فالكتاب كان همّنا جميعا،
وسلوتنا ومتعتنا وأنيسنا في خلوتنا، وكان أساتذتنا يرشدوننا إلى أفضل الطبعات،
ويعجبون من حماستنا وتسابقنا إلى اقتناء الكتب.. وأذكر أن حسيناً بافقيه ذكر لي
يوماً أنه رأى الطبعة التونسية من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني في مكتبة
الشروق بكيلو 3 للوراق الأديب الأستاذ محسن باروم، فكنت أتقلقل في محاضرة الأدب
الأندلسي عند الدكتور أحمد النعمي –رحمه الله- فلما انتهت المحاضرة كنت آخذاً
طريقي إلى مكتبة الشروق بصحبة بخيت سعد، فلا تسأل عن فرحتي وسعادتي وأنا أبتاع نسختي من الأغاني في 25 مجلداً، وهي
طبعة في غاية النفاسة، وكلما أفتحها اليوم أذكر مكتبة الشروق وحسين بافقيه.. ولحسن
الحظ رأيت في المكتبة نسخة خطية مصورة على هيئتها، في مجلدين، كُتب عليها (معجم
الروحة في الضاد والظاء للجرباذقاني) قال لي البائع: ثمنها 500 ريال، كان المبلغ
كبيرا على ميزانية طالب، ولكنني لم أستطع مقاومة الرغبة في اقتنائها، فدفعت المبلغ
بعد تردد، ثم شغلت عنها بالدراسة فلم أقرأها ونسيتها بين كتبي ولم أفطن لأهميتها
البالغة حتى كان عام 1418هـ كنت حينئذ أبحث عن مخطوط مناسب لأحققه ضمن أبحاث
الترقية إلى أستاذ مشارك، فتناولت مخطوطة الروحة، فاكتشفت أنها كنز لغوي نفيس جدا،
كنز لغوي في مكتبتي غفلت عنه، إذ كتبها الجرباذقاني بخطة سنة 374هـ فحققت منها باب
العين، وأعطيت الباقي بعض طلابي فانتفعوا بها في رسائل ماجستير وأبحاث ترقية،
وحلّت فيها بركة، وبعض المخطوطات مباركة.
6-
أما أحمد سعيد قشاش فشهادتي فيه مجروحة، الصديق الخاص، المميّز، لم أرَ له مثيلا
في الجدّيّة والحزم في شتّى أموره، فهو جادٌّ حتى إن الجدّ يستحي منه، وهو ذكي
ومنظم وصبور، يتصرّف بعفويّة محبّبة إلى النفوس، فتراه أبعد الناس من التكلّف،
وأبعدهم من الغرور، وأقربهم إلى لطف التعامل وسهولته، وكان من أكثرنا رغبة في
استثمار الوقت وتحصيل العلم.. أعدّه من أقرب زملائي إلى نفسي، وبيننا طبائع
مشتركة، وكنا في القسم ننسق جدولينا لنكون في قاعة واحدة.. تخرّج بعدي بسنة فلحق
بنا في الجامعة الإسلامية وعُيّن معيدا في كلية اللغة العربية، وكنا نسكن متجاورين
في العزيزية بالمدينة لمدة تسع سنوات.. ثم انتقل مؤخّرا إلى جامعة الباحة فرع
بلجرشي، ويعدّ انتقاله خسارة كبيرة لقسم
اللغويّات بالجامعة الإسلامية.. ولا يذكر الدكتور أحمد قشاش دون أن تذكر موسوعته
النفيسة (النبات في جبال الحجاز والسراة) في مجلدين كبيرين أنيقين، وهي من أفضل ما
كتب عن النبات في هذه المنطقة، وكان عمله ثمرة سنوات من البحث الميداني المضني
والتتبع والسفر والتصوير الشخصي، فأخرج كتابا نفيسا نافعا، ولم يزل يواصل البحث
والعمل في موسوعة النبات وأعمال أخرى متنوعة تميز بها عن غيره.
(للحديث صلة)
*
الجامعة الإسلامية - تويتر / مجمع اللغة
الافتراضي @almajma3
جريدة المدينة، ملحق الأربعاء
الجمعة 1435/3/2 هـ 2014/01/03 م العدد : 18517
al-madina.com/node/498940