الرد على الرد
(وقفات مع الدكتور بهاء عبدالرحمن في مسالة القيف)
الجزء الرابع
أقول:
بل المستقبح سوء الفهم وسوء الظن، والمستهجن
الجمود الفكري وعدم التمييز بين حاجة الباحث وحاجة معلّم الصبيان، فالمعلم لا
يحتاج إلى القيف قطعاً، بخلاف الباحث اللغوي الذي يحتاج إلى معرفة أدقّ الدقائق في
أصوات اللغة أصليّها وفرعيّها، وفُصحاها وفَصيحها وحسنها ومستقبحها، فحين يعرض
باحثٌ إلى صوتٍ لهجيٍّ واسع الانتشار مثل صوت القيف ويريد وصفه فإنه محتاج إلى
معرفة وصف هذا الصوت ومصطلحه العلمي (اسمه) ورسمه الذي يقرّبه إلى القارئ. ومعلوم
أن علماء اللغة واللهجات يستعينيون بالرموز الكتابية الخاصة ويقترحون ما نقص منها،
وفي تاريخنا اللغوي الكثير من هذا، فمن الظلم والتقصير إهمال ظاهرة صوتية كبيرة
شائعة في قبائل العرب منذ القدم ومنعها من الدرس والتحليل.
وما واجبات الأكاديمي اللغوي؟ ألا يفرق الدكتور
بهاء بين المعيار والوصف؟ وهل يدير الباحث اللغوي الوصفي ظهره لصوت أو ظاهرة لغوية
شائعة بحجة واهية وهي أنه صوت مستقبح؟ وهل يمتنع البحث اللغوي في الأصوات
المستقبحة؟ ألم يدرسه القدامى؟ ألم يدرسه المعاصرون؟ ألم يطلع على مناهج مجامع
اللغة منذ أكثر من 60 عاما؟ ألم يطلع على قرارتها؟ ألم يطلع على أبحاث العلماء
اللغويين الكبار المعاصرين الذين تعرضوا لهذا الصوت ووصفوه ورسموه؟ ألا يعرف جهود
خليل عساكر وإبراهيم أنيس وعبدالعزيز مطر وتمام حسان وكمال بشر في العناية بأصوات
العربية في جميع مستوياتها الفصحى والأقل فصاحة والعامية أيضا؟ ألم يبلغه قرار
مجمع القاهرة في اللهجات المعاصرة وحثّه الباحثين ليدرسوها؟
ثم ألا يعلم أن حماية الفصحى تتطلب معرفة ما
يضادُّها مما يرد على ألسنة أبنائها؟ وهل يظن أن تجاهل الفصيحة أو العاميات يخدم
الفصحى؟ إن كان يظن ذلك فهو ينزوي أكثر فأكثر في زاوية معلم الصبيان الذي لا شأن
له بالبحث العلمي الأكاديمي.
26-
قال بهاء: ((بقي أن أذكر أمراً مهماً يتعلق بالقاف المعقودة التي ذكرها أبو حيان
في ارتشاف الضرب، ولا أعلم من استعمل صفة العقد للقاف قبل أبي حيان إلا ابن عربي
في الفتوحات المكية، ولا يعني هذا أن ابن عربي أول من استعمل هذه الصفة مع أن كلام
أبي حيان يوهم أن السيرافي استعملها، لكني لم أجدها في كلام السيرافي في شرحه
للكتاب ذاك الذي نقله أبو حيان
ومفهوم
العقد عند ابن عربي على النقيض مما ذكره أبو حيان، فالقاف المعقودة عنده هي
الفصيحة، والقاف غير المعقودة هي التي بين القاف والكاف، وقد ذكر ذلك مستوفى صاحب
المطالع النصرية، وذكر أيضا خطأ كلام محشّي القاموس عند حديثه عن الجلنار))
ثم
قال بهاء: ((قلت: ربما انتشر المفهوم المخطئ للقاف المعقودة بسبب قراءة مخطئة
لعبارة ابن عربي: (وأما القاف التي هى غير معقودة فهي حرف بين حرفين: بين الكاف
والقاف المعقودة، ما هى كافٌ خالصة، ولا قافٌ خالصة) فربما قرئت خطأ بالابتداء
بقوله: (والقاف المعقودة ما هي كاف خالصة ولا قاف خالصة) أي باقتطاع المعطوف عن
المعطوف إليه، فانعكس المعنى))
أقول: الدكتور بهاء كعادته يأخذ بالشاذ والأضعف، والعلة في ذلك أنه
مضطر إلى هذا؛ لأنه يبحث عما يخالفنا ويأخذ به أيّاً كان، فلم يجد إلا المرجوح
والضعيف والشاذ والمتروك، ولو سكت في أحوال الضعف وانقطاع الحجة لكان أكرم له، وأنت
هنا ترى أن رأي جمهور العلماء على أن القاف المعقودة هي ما نسميه القيف، أي القاف
التي بين القاف والكاف، التي وصفها ابن دريد، ولكنَّ لابن عربي الصوفي في الفتوحات
المكية رأياً شاذاً مخالفاً في مدلول القاف المعقودة، ينفرد به، ولا يصحّ، وينقله
عنه صاحب المطالع النصرية، فوجد للدكتور بهاء فيه فائدة عظيمة وفرصة للرد علينا
وتسفيه رأينا وبيان أننا على خطأ حتى في المصطلح (ولذا وصفه بأنه أمر مهم) وأخذ
به، ثم رتّب عليه حكما وهو خطؤهم في مفهوم القاف المعقودة، مع أن مسألة هذا المصطلح
(القاف المعقودة) ليست مهمة في جوهر الخلاف، وليس هذا المصطلح ذا قيمة عندنا في
المجمع، ولذا تركناه إلى ما هو أحسن منه في نظرنا، وهو مصطلح (القيف) وكون هذه
القيف قافا معقودة أو غير معقودة لا يغير في حقيقة هذه اللهجة شيئا، بل إن الدكتور
بهاء (لو تدبّر في أمر المصطلح) لأيّدنا حين حصل له التشويش في مدلول القاف
المعقودة ولرجّح ما رجّحناه من أن هذه اللهجة تحتاج إلى مصطلح واضح لا لبس فيه،
وهو ما فعلناه حين اخترنا القيف وتركنا مصطلح القاف المعقودة
والقاف المترددة والقاف اليابسة وغيرها، بحثا عن الأفضل والأيسر، وقد اهتدينا إلى
ذلك بتوفيق الله.
ودعونا الآن نقرأ كلام ابن عربي ونحلّله ثم نردّ عليه، ونبيّن
للدكتور بهاء أنه تعلّق بقشّة، وأنه كما قيل: ضَلَّ دُرَيصٌ نَفَقَهُ!
قال ابن عربي (ت 638هـ) في الفتوحات المكّيّة وهو يتحدّث عن
الحروف: ((ثم القاف المعقودة ثم الكاف، وأما القاف التي هي غير معقودة فهي حرف بين
حرفين بين الكاف والقاف المعقودة ما هي كاف خالصة ولا قاف خالصة ولهذا ينكرها أهل
اللسان، فأما شيوخنا في القراءة فإنهم لا يعقدون القاف ويزعمون أنهم هكذا أخذوها
عن شيوخهم وشيوخهم عن شيوخهم في الأداء إلى أن وصلوا إلى العرب أهل ذلك اللسان وهم
الصحابة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك أداء، وأما العرب الذين لقيناهم
ممن بقي على لسانه ما تغير - كبنى فهم - فإني رأيتهم يعقدون القاف، وهكذا جميع
العرب، فما أدري من أين دخل على أصحابنا ببلاد المغرب ترك عقدها في القرآن؟!))
ويستفاد من هذا النص
فوائد:
الفائدة الأولى: أن ابن عربي يرى أن
القاف الفصحى هي القاف المعقودة، وأما القاف غير المعقودة فهي حرف بين الكاف
والقاف المعقودة؛ ليست كافا خالصة ولا قافا خالصة، وهي القيف، وهذا خطأ بيّن، كما
سيأتي..
الفائدة الثانية: أن شيوخ أبن عربي (ت
638هـ) في قراءة القرآن وشيوخ شيوخهم لايعقدون القاف (أي يقرؤون بالقاف اللهجية:
القيف) ويزعمون أنهم هكذا أخذوها عن شيوخهم، وشيوخهم أخذوها عن شيوخهم في القراءة
إلى أن وصلوا إلى العرب أهل ذلك اللسان، وهم الصحابة، إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، كل ذلك أداء (يعني أن للقيف سنداً متصلا عند شيوخ ابن عربي لا نعرف من أين
يبدأ ولكنه قديم حسب كلامه) وهذه مسألة مهمة لم ينتبه لها الدكتور بهاء، أو رآها
فتعامى عنها، لأنها تعضّد قول القائلين بقدم هذا الصوت (القيف) وتلتقي مع رأي ابن
خلدون ورأي فقهاء الشافعية في اليمن.
الفائدة الثالثة: هي أنّ من العرب من
بقي على لسانه في القاف الفصحى فلم يتغير كبنى فهم فإنه (أي ابن عربي) رآهم يعقدون
القاف (أي بالفصحى بحسب مفهمومه للمصطلح)
الفائدة الرابعة: أن ابن عربي لا يدري
من أين دخل على قومه ببلاد المغرب ترك عقد القاف في القرآن؟ (أي ترك القاف الفصحى
والتلاوة بالقيف، هذا معنى كلامه) فنفهم من هذا أن المغاربة يقرؤون بالقيف،
وينقلون ذلك عن أشياخهم جيلا بعد جيل، وفي هذا ما يفيد شيوع القيف في بلاد المغرب
وشمال أفريقيا، وهو يؤكّد كلام ابن خلدون الذي جاء بعد ابن عربي بنحو قرنين، فمن
المرجّح أن هذه القيف انتقلت مع المهاجرين والقبائل النازحة من جزيرة العرب من بني
سليم وبني هلال والقيسيين وغيرهم من قبائل العرب من الحجاز ونجد واليمن.
الفائدة الخامسة: أنه يسمي هذه القاف
اللهجية حرفا لا صوتا، على منهج القدامى في مصطلح الحرف، وكذلك يوافقهم في أن
مخرجها بين القاف والكاف، في قوله: ((وأما القاف التي هي غير معقودة فهي حرف بين
حرفين بين الكاف والقاف المعقودة))
والذي يعنيني في هذا
الموضع من الردّ على الدكتور بهاء أمران:
أحدهما: بيان حقيقة مصطلح القاف المعقودة وبيان خطأ ابن عربي فيه.
والآخر: تاريخ هذا المصطلح، وسنرى أن هناك تسعة من العلماء في قرون
مختلفة سبقوا أبا حيان وعرفوا القاف المعقودة.
ففي الأمر الأول أقول: إن الحقيقة الناصعة أن مصطلح (القاف
المعقودة) عند الجمهور هو ما يطابق القاف التميمية التي وصفها ابن دريد، (أي
القيف) خلافا لما زعمه ابن عربي في الفتوحات المكية، وأن ابن عربي قد أخطأ وعكس
المصطلح، وإليكم الأدلة على خطأ ابن عربي، ويتبعها ما يؤكد شيوع المصطلح (بمعنى
القيف) قبل أبي حيان، بل قبل ابن عربي، ثم شيوعه بعد أبي حيان:
أولا: زعمُ ابنِ عربي أن القاف المعقودة هي القاف الفصحى يخالف علّة
المصطلح، فالقاف الفصحى لا تحتاح إلى وصف؛ لأنها الأصل، فهي كسائر الحروف الفصحى،
ومنذ القرون الأولى يسميها العلماء (القاف) ولا يصفونها بأنها معقودة أو غير
معقودة، بل يذكرون الحرف باسمه مجردا، فإن أرادوا حرفا فرعيا أو صفة طرأت عليه
وصفوه بصفة تقيّده وتحدده، فانظر إلى اللام والراء والضاد، فإنهم إن أرادو الفصحى
الشائعة قالوا (اللام والراء والضاد) وإن أرادوا غيرها قالوا (اللام المفخّمة) أو (الراء
المرقّقة) أو (الضاد الضعيفة) فهذه أوصاف وقيود تخرجها عن الأصل المعروف وتخصّصها
باستعمال أو لهجة، فالذي يخرج عن أصله هو الذي يحتاج إلى وصف يقيّده، ولذا قالوا (القاف
المعقودة) تمييزا لها من القاف، أي الفصحي، وبعضهم قال القاف المترددة وقال بعضهم
القاف البدوية أو القاف التميمية أو القاف اليابسة إلى آخر
الأوصاف، وهذا واضح.
ثانيا: أنهم يصفون بالعقد الحروف الثلاثة القاف والجيم والكاف في حال
القفقفة، فترى المصطلحات الثلاثة: القاف المعقودة والكاف المعقودة والجيم
المعقودة، وكلها لصوت القفقفة، وهذا واضح الدلالة في أن الأحرف الثلاثة تقفقف،
ويكون الصوت واحدا حينئذ.
فممن قال الكاف
المعقودة: أحمد بن الأمين الشّنْقِيطي (المتوفى: 1331هـ) قال في (الوسيط في تراجم
أدباء شنقيط): ((ويسمونها (عگل) يُنطق بها بالكاف المعقودة)) ومنهم عبدالحيّ الكتّاني؛ إذ استخدم
مصطلح القاف المعقودة في فهرس الفهارس، قال: ((گنون: بالكاف المعقودة، هو شيخ
الجماعة بفاس)) واستخدمها خير الدين الزركلي في الأعلام، وقال في إحدى تراجمه: ((من
أهل " گرسيف " بالكاف المعقودة)) وقال شهاب الدين أبو العباس أحمد بن
خالد بن محمد الناصري الدرعي الجعفري السلاوي (المتوفى: 1315هـ) في الاستقصا
لأخبار دول المغرب الأقصى، قال: ((وهو النَّاصر الملقب بالگديد بالكاف المعقودة))
ومنهم الدكتور أسعد محمد علي النجار في كتابه (المحيط في أصول ألفاظ اللهجة
الحلية) يقول: ((لزگ بالگاف المعقودة: لزق الشيء بالشيء علق به واستمسك بمادة
غرائية ولزق الشيء ألزقه وهي كذلك في اللهجة مع قلب القاف كافاً معقودة)) وقال:
((النقرة : الحفرة الصغيرة المستديرة في الأرض ونحوها وفي اللهجة يبدلون من القاف
كافاً معقودة: نگرة)) وهو في كتابه هذا لا يستخدم إلا الكاف المعقودة.
وممن استخدم الجيم المعقودة عبد الحي الحسني الطالبي (ت 1341هـ)
قال في (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر): ((... الشيخ العالم الصالح چندن-
بفتح الجيم المعقودة وسكون النون)) واستخدمها الأب أنستاس ماري الكرملي في بحث له
في مجلة الرسالة، قال: ((وأما قولهم اليوم (ألياچيم) بالجيم المعقودة...))
أما القاف المعقودة فكثيرٌ مَن استخدامها، وسيأتي الكلام عليها
مستفيضاً في الفقرة (ثالثا) ليتم بها الدليل القاطع على بطلان كلام ابن عربي وهذا
أيضا -أعني صفة العقد في الأحرف الثلاثة- مما يؤكد ما ذهبت إليه في أمر القفقفة، وأنها
صوت واحد.
ثالثا: أن مصطلح (القاف المعقودة) بمعنى القاف اللهجية (القيف) شائع
قبل أبي حيان، وأن الذين ذكروه أرادوا به القاف اللهجية (القيف) وليس القاف الفصحى
كما يزعم ابن عربي، وهذه أمثله من هذا المصطلح:
1/1: أجاز نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود المقدسي
الشافعي (ت490هـ) الصلاة بالقاف المعقودة بمعنى القيف، في كتابه (المقصود في فروع
الشافعية) ونقل ذلك الأسنوي في الكوكب الدري.
2/1: عبدالواحد بن إسماعيل بن أحمد الروياني الشافعي المتوفى سنة
(502هـ) في كتابه حلية المؤمن واختيار الموقن في الفروع، وأجاز أيضا الصلاة بالقاف
المعقودة (القيف) ونقل هذا عنه الأسنوي في الكوكب الدري.
3/1: أبو القاسم عبد الكريم الرافعي القزويني (623هـ) مال إِلى
بطلان القراءة بالقاف المعقودة، لكن رأى أن اللّحن الذي في الفاتحة (الصراط المستݠيم) لا
يمنع الصِّحّة إِذا كان لا يختل المعنى،
كما نقله الأسنوي في الكوكب الدري.
4/1: المبارك بن أحمد بن المستوفى الإربلي (ت637هـ) ذكر في كتابه
تاريخ إربل (1/ 141) في ترجمة أبي الربيع سليمان المكي أنه ((يعقِدُ القافَ إذا
تكلّم))
5/1: ابن العديم (المتوفى: 660هـ) قال في بغية الطلب في تاريخ حلب
(9/ 4062) في ترجمة زيد الحوراني: ((وكان يترنم ويقول لنا ونحن صبيان يا زيد
الدقيق، بالقاف المعقودة))
6/1: شرف الدين النووي (676هـ) في شرح المهذّب؛ نقل جواز القراءة
بالقاف المعقودة عن الروياني، وهي عنده حرام لا تصح، كما جاء في نص الأسنوي في
الكوكب الدري.
7/1: المحب الطبري المكّي الشافعي (694هـ) في شرح التّنبيه؛ مال إِلى
بطلان القراءة بالقاف المعقودة، لكن رأى أن اللّحن الذي في الفاتحة (الصراط المستݠيم) لا يمنع الصِّحّة
إِذا كان لا يختل المعنى ،كما جاء في نص الأسنوي في الكوكب الدري.
8/1: أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة (ت710 هـ) في كفاية
النبيه في شرح التنبيه، كما جاء في نص الأسنوي في الكوكب الدري.
9/1: كمال الدين عبد الرزاق بن أحمد الشيباني، مؤرخ العراق، المعروف
بابن الفوطي (ت 723 أو 724 هـ) يروي في
كتابه (تلخيص مجمع الآداب) أن الشاعر علي ابن المقرّب المتوفى سنة 617 هـ كان يعقد
القاف كافاً))
فهؤلاء تسعة كلهم سبقوا أبا حيان، وفي نصوصهم وإشاراتهم ما يثبت
أن القاف المعقودة عندهم جميعا بمعنى (القيف) أي القاف اللهجية التميمية، لأنهم
يتحدثون عن الخلاف في أمر الصلاة والتلاوة بها بين الصحّة والبطلان، ولا يمكن أن
تكون القاف الفصحى، لأنها ليست موضع خلاف، وهذا يضاف إلى ما سبق في الردّ على ابن
عربي في زعمه. ولمعرفتي بعناد صاحبي وأنه قد يرى الشمس ويسمّيها فَحْمَةً أو شحمة،
رأيت أن أذكر له هنا مزيدا من أقوال العلماء في هذا المصطلح تثبت ما قلته، وتقطع
بأن ما ادعاه ابن عربي فاسد ولا يصح ألبتة، وهي:
الأول: أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ) في قوله في الارتشاف: ((وأما
القاف المعقودة فقال السيرافي: رأينا من يتكلم بالقاف بينها وبين الكاف. انتهى.
وهي الآن غالبة على لسان من يوجد في البوادي من العرب، حتى لا يكاد عربي ينطق إلا
بالقاف المعقودة، لا بالقاف الخالصة الموصوفة في كتب النحويين والمنقولة عن وصفها
الخالص على ألسنة أهل الأداء من أهل القرآن))
الثاني: الإمام الذهبي (ت748هـ) إذ قال في ترجمة الشاعر العباسي الحَيْص
بَيْص (574هـ): إنه كان ((يتبادى فِي لفْظه، ويعقد القاف. وكان أفصح مَن رَأَيْت))
الثالث: خليل بن أيبك الصفدي (ت 764هـ) قال في ترجمة شيخه أبي حيان في
نكت الهميان: ((عبارته فصيحة، يعقد القاف قريبا من الكاف، كلغة الأندلس، على أنه
ينطق بها في القرآن فصيحة))
الرابع: عبدالرحيم الأسنوي (ت772ه) قال في الكوكب الدّرّي: ((وأما
الثّاني فمن فروعه إِذا قرأ المُستقيم بالقاف المعقودة المشبهة للكاف وهي قاف
العرب أي الّتي ينطقون بها فَإِنّها تصح أَيضا كما ذكره الشّيخ نصر المقدسيي في
كتابه المُسمّى بالمقصود والرّويانيّ في الحِلية وجزم به ابن الرّفْعَة في الكِفاية
ونقله النّووِيّ في شرح المُهَذّب عن الرَّوْيَانيّ))
الخامس: القلقشندي (821هـ) في صبح الأعشى، في قوله: ((ويأتون بقاف بين
القاف والكاف المعقودة، قاله أبو سعيد (يقصد السيرافي) عن سماعه من العرب؛ ولا
يكاد يوجد منهم من ينطق بها على أصلها الموصوف في كتب النحويين)) يقصد القاف
الفصحى، والنص منقول عن أبي حيان، وفيه شيء يسير من التغيير أو الاضطراب، ولعل
صواب النص: ويأتون بقاف بين القاف والكاف ]وهي القاف[ المعقودة،
فإن كان النص على ظاهره فيلحق بالقائلين بالكاف المعقودة.
السادس: السخاوي (902هـ) وذكر القاف المعقودة في (الضوء اللامع) بقوله
في إحدى تراجمه: ((وهو يعقد في كلامه القاف على طريقتهم، فقال له ألا تخلصها قافا
فنصره بقوله: لو قال في الفاتحة المستقيم بالقاف المعقودة مع القدرة على خلاصها صحّ))
السابع: السيوطي (ت911هـ) في الحاوي قال: ((ولو قال: أَنتِ طالِقٌ،
بالقاف المعقودة قريبة من الكاف كما يلفظ بها العرب، فلا شكّ في الوُقُوع، فلو
أبدلها كافًا صَرِحَةً، فقالَ طالكٌ، فيمكنُ أن يكون كما لو قال: تالقٌ، بالتّاء،
إلَا أنّه ينحطُّ عنه بعدم الشُّهرة على الألسنة))
الثامن: ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج، ونقل نص السيوطي في الحاوي،
المشار إليه آنفا.
التاسع: أحمد بن قاسم العبادي (992هـ) في حاشيته على تحفة المحتاج لابن
حجر الهيتمي، ونقل نص السيوطي في الحاوي، المشار إليه.
العاشر: - نور الدين الشبراملسي
(1087هـ) في حاشيته على نهاية المحتاج
للشهاب الرملي، نقل نص السيوطي في الحاوي.
الحادي
عشر: نور الدين الحسن بن مسعود اليوسي (المتوفى: 1102هـ) في كتابه
المحاضرات في اللغة والأدب قال: ((حدثني الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد بن
المرابط الدلائي قال: كنت مع والدي رحمه الله، وأظنه قال في درب الحجاز نزولاً،
فإذا بعجوز أعرابية مرت بنا وقد رفعت عقيرتها وهي تقول:
حج
الحجيج وناكتي معكولة يا رب يا مولاي حل
عكالها
بقاف معقودة على ما هو لغة العرب اليوم))
ويلاحظ أن القيف كتبت بالكاف الخالصة المحرّفة من الگاف الفارسية
فانحرفت لغة البيت وفسدت، والصواب:
حجّ الحجيج وناݠتي معݠولة
يا رب يا مولاي حِلّ عݠالها
الثاني عشر: الطيب بن محمد بن
موسى الفاسي، والد اللغوي ابن الطيب الفاسي، من علماء القرنين الحادي عشر والثاني
عشر، له رسالة في القاف المعقودة، نقل صاحب التاج في مادة (جلنار) عن شيخه ابن
الطيب الفاسي قوله: ((رأَيتُ فِيها رسالة جيِّدةً بخطِّ الوالد، قَدَّسَ اللهُ
رُوحَه، ولا أَدرِي هل كانت له أو لغيره)) قلت: فإن لم تكن له فهي لأحد معاصريه أو
من سبقهم.
الثالث عشر: ابن الطيب الفاسي (ت1170هـ)
نقل عنه الزبيدي في مادة جلنار قوله: ((قال شيخُنا: وهي القافُ التي يقال لها : المعقودَةُ
، لغةٌ مشهورةٌ لأَهل اليمنِ ، وقد سأَل الحافظُ ابنُ حَجَر شيخَه المصنِّف رحمها اللّهُ
تعالى عن هذه القاف ووقُوعها في كلامهم ، فقال : إنها لغةٌ صحيحةٌ، ثم قال شيخنا:
وقد ذَكرها العلّامة ابنُ خلدون في تاريخه، وأطال فيها الكلام، وقال: إِنها لغةٌ
مُضَرِيَّةٌ، بل بالغ بعضُ أَهل البيت فقال: لا تَصِحُّ القراءَةُ في الصّلاة
إِلّا بها، ورأَيتُ فيها رسالةً جَيِّدَةً بخطِّ الوالِدِ، قَدَّسَ اللّهُ رُوحَه،
ولا أَدْرِي هل كانت له أَو لغيره ))
الرابع عشر: مرتضى الزبيدي
(1205هـ) صاحب التاج في نقله السابق (في الفقرة السابقة) عن شيخه في مادة جلنار.
الخامس عشر: مصطفى صادق الرافعي
(ت1356هـ) في تحت راية القرآن: معلقا على شاهد الجمهرة المقفقف بقوله: ((وهي القاف
المعقودة التي ينطقونها بين القاف والكاف، وكانت شائعة في العرب، وهي غير القاف
الخالصة التي يُقرأ بها القرآن)) تحت راية القرآن 148، 149.
السادس عشر: عبد الحميد محمد بن
باديس الصنهاجي (المتوفى: 1359هـ) قال في مجالس التذكير من حديث البشير النذير:
((تنقلب: ترجع إلى بيتها، يقلبها: يردها ويمشي معها. وما يزال هذا الفعل قلب بمعنى
رد مستعملا في اللغة الدارجة بالقاف المعقودة))
السابع عشر: عبدالحي الكتّاني
(1382هـ) له رسالة عنوانها: ((الدلائل المشهودة لدى الناطق بالقاف المعقودة)) وقال
في (فهرس الفهارس) في ترجمته للسيد عبد الله بن أحمد بلفكيه الباعلوي اليمني : ((وبلفكيه
المعروف أنه بفتح الباء وسكون اللام وفتح الفاء وكسر القاف المعقودة))
الثامن عشر: خير الدين الزركلي (ت
1396هـ) قال في ترجمة محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي: ((والشنقيطي
بالقاف المعقودة)) وقال في ترجمة أخرى: ((... الودغيري الملقب بالبگراوي بالقاف
المعقودة))
التاسع عشر: الدكتور عبدالمجيد
عابدين في كتابه من
"أصول اللهجات العربية في السودان" عرض للقاف
المعقودة بمعناها اللهجي بين القاف والكاف.
العشرون: الدكتور ضاحي عبدالباقي الذي درس لغة تميم، وسمى لغتهم في
القاف (القاف المعقودة) ورمز لها في الكتابة بالكاف الفارسية (لغة تميم 11)
الحادي والعشرون: الشاعر الجزائري محمد
العيد آل خليفة (ت 1399هـ) وهو يسميها في ديوانه: القاف المعقودة.
فهذه نصوص وإشارات صريحة لثلاثين عالماً؛ وهم تسعة قبل أبي حيان
وواحد وعشرون نصا أو إشارة بعد أبي حيان، نثبت بها بطلان ما ادعاه ابن عربي في معنى
مصطلح القاف المعقودة، وجميع هذه النصوص والإشارات لا يمكن صرف واحد منها إلى أن
المراد القاف الفصحى، بل جميعها تدل على أن المراد صوت القيف أو القاف التميمية أو
قاف العرب كما يسميها بعضهم، وبهذا يبطل كلام ابن عربي، ويبطل الاحتجاج به.
هذا ما ظهر لي من ملحوظات وأخطاء في ردّ الدكتور بهاء في مسألة
هذا الصوت اللهجي الفريد (القيف) وظاهرة (القفقفة) وقد قلت ما عندي، وهذا حسبي ولن
أكتب شيئا بعد هذا الرد المفصّل، فإن رأيته كتب ما يفيد مما يستحق أن يوقف عنده
بتأييد أو تعليق أو إيضاح أو ردّ فعلت، وأبديت رأيي، أما إن رأيته يتمادى في
أخطائه وأوهامه السابقة ويصر عليها فإنني لن أردّ عليه، وسأكتفي بما سبق ولن أدور
معه في دائرة مفرغة.
وفي الختام أسأل الله عز وجلّ أن يلهمنا صوابنا ورشدنا ويهدينا ويعيننا
على خدمة لغتنا على النهج الأمثل والأكمل.
انتهى الجزء الرابع وبه يكتمل الرد
أ.د عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
المدينة المنورة
السبت 16 شوال 1435هـ
الموافق 12 أغسطس 2014م
الموافق 12 أغسطس 2014م