الرد على الرد
(وقفات مع الدكتور بهاء عبدالرحمن في مسالة
القيف)
قرأت ردّ الدكتور بهاء عبدالرحمن في مسألة صوت
القيف وظاهرة القفقفة اللهجية فوجدته متمسّكاً برأيه السابق مضيفاً إليه أوهاماً
جديدة، وتذكّرت قول شهاب الدين المقّريّ في فاتحة نفح الطيب من غصن الأندلس
الرطيب:
سبحانَ مَن قسَمَ
الحُظُو ظَ فلا عِتابَ ولا مَلامَهْ
أعمـى وأعشــى ثمّ ذو
بَصَـرٍ وزرقــاءُ اليمــامَهْ
وقد حصرتُ أبرز ملحوظاتي على ردّ الدكتور بهاء في
نقاط؛ أوجزها فيما يأتي:
أ- إصراره على بعض أخطائه السابقة، والدفاع
عنها استكباراً أو تقصيراً في فقه بعض النصوص.
ب- ادّعاؤه بأن سيبويه لم يذكر القفقفة
وصوت القيف، وأن هذا الصوت وُجد بعده بنحو قرنين، والأمر خلاف ما ادعاه، وسيأتي..
ت- استخفافه بنصّ ابن قتيبة، وخَفاء دلالته الصوتية عليه، مع
أنها في غاية الوضوح. وسيأتي بيان ذلك.
ث- تهرّبه من النصوص الصريحة بالتجاهل والسكوت
عنها، وهي جزء من المسألة، وبعضها في لبّ المسألة.
ج- اضطرابه في التفريق بين وظيفة الباحث اللغوي
الوصفي ووظيفة المعلم الذي يكتفي بتعليم الطلاب قواعد الفصحى المعيارية العامّة.
ح- تمسكه بحجّة واهية يكرّرها مع بعض العامّة الذين سبقوه، ويقول
معهم: إن القيف صوت مذموم مستقبح، وإن هذا
يكفي –بزعمه- لردّه ومنع دراسته ووصفه؛ فإن كان هذا القول لا يستغرب من العامّة
فإنه مستنكر ومستقبح حين يصدر من باحث أكاديمي؛ لا يدرك أن أصول البحث اللغوي ومناهجه
تتيح للباحث اللغوي أن يتناول الظواهر اللغوية اللهجية بالدراسة الوصفية، وأن استقباح
الظاهرة اللغوية لا يمنع دراستها ووصفها، ولو كان ذلك مانعا لمنع اللغويين من قبلُ
من دراسة تلك الظواهر المستقبحة واللهجات المذمومة ووصفها.
خ- أخذه بالآراء الشاذة ومنها أن (القاف المعقودة) هي القاف
الفصحى، وميله إلى إنكار أن يكون المراد بهذا المصطلح هذه القاف اللهجية التي نسميها
القيف، معتمداً في هذا على رأي شاذ ضعيف جدا، وجده عند ابن عربي الصوفي في الفتوحات
المكّيّة، ولو وعاه وتأمّله وحلّله لأدرك تهافته. وسيأتي ذلك مفصلا.
د- تقصيره في معرفة تأريخ مصطلح (القاف المعقودة) وعدم اطلاعه
على نحو ثلاثين إشارة أو نصاً صريحا في دلالة هذا المصطلح، الذي ذكره أبو حيان في
الارتشاف، مما يؤكّد صحته وتبيين تاريخه قبله وبعده، ولو عرفها لتبرّأ من رأي ابن
عربي، وفرّ منه فرار الصحيح من المجذوب. وسيأتي ذلك مفصلا.
ذ- ادعاؤه أن صوت القيف مأخوذ أصلا من الأعاجم وأنه غير عربي في
الأصل، وتعليله ذلك بالصلة بين تميم والفرس! وسيأتي إيضاح هذا والردّ عليه.
ر- استخفافه بدراسة اللهجات وبدارسيها، كما يظهر في بعض تغريداته
وفي ردوده، وبدا كأنّه لا يميز اللهجة الفصيحة من العاميات، ولا يدرك مقدار
التداخل بينهما، ومعلوم أن لهجاتنا جزء من لغتنا، وأن عامّيها لا يلغي فصيحها، وهو
الأكثر، وأن القراءات العشر بها نزلت، وبها تفسّر الأحرف السبعة، وأن من يحارب لهجات
العرب يخالف نهج القرآن ويطعن فيه من حيث لا يدري، ويخالف نهج اللغويين من لدن
الخليل وسيبويه، ويخالف نهج صناع المعاجم الذين احتفوا باللهجات؛ لأنهم أدركوا
قيمتها وصلتها بالفصحى، وأنها رافد من روافد العربية، وأنها مع اختلافها حُجّة،
حتى عقد لها ابن جني باباً في خصائصه سماه (اختلاف اللغات وكلّها حجّة) وهو يقصد
باللغات لهجات العرب المختلفة المتفاوتة، وينصّ على جواز الاحتجاج بها جميعًا، ولو
كانت خصائص بعضها أكثر شيوعًا من خصائص بعضها الآخر, ونراه يقول: إن الناطق على
قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه. ومعلوم
عند أهل النظر واللغة أن اللهجات متفاوته في درجات الصواب والفصاحة، ولكنّ
الاحتفاء بفصيحها ليس مانعاً من وصف ضعيفها ودرسِهِ، كما فعل شيخنا الأكبر سيبويه
بلغات شاذة أو ضعيفة أو مستقبحة.
ومن هنا تجد العنايةَ
باللهجات والحفاوة بها سمةً بارزة لدى بعض اللغويين القدامى والمعاصرين، وتجد أقسام
اللغة العربية في جملتها حريصة على دراسة اللهجات الفصيحة وفهمها، ومن قبلها ترى مجامع
اللغة -وعلى رأسها مجمع القاهرة- تدعو اللغويين والباحثين إلى دراسة اللهجات
وتأصيلها وتهذيبها، خدمة للفصحى وإثراء لمعجمها.
وهذا الدكتور صبحي
الصالح في كتابه (دراسات في فقه اللغة) يشير - بعد حديثه عن أهمية اللهجات العربية
الشمالية أو لهجات العربية الباقية- إلى الثروة اللغوية المهمة للهجات، ويقول:
((وإن كنا نعتقد أن التوسّع في دراسة سائر اللهجات العربية يزيد لغتنا ثروة،
ويمنحها قوة، ويفسر كثيرًا من خصائصها التي لم تنفرد بها لهجة, بل أسهمت في
تكوينها هذه اللهجات قاطبة))
إن غاية دارسي اللهجات ربطُها بالفصحى والكشف عما طرأ عليها من
تغيير، وقد نص قانون مجمع القاهرة على أنه يقوم (( بتنظيم دراسة علمية للهجات
العربية المعاصرة)) وعلّق الأديب الكبير عباس محمود العقاد على هذا القانون
المجمعي بقوله: إنّ ((من أغراض المجمع دراسة اللهجات العامّيّة في مصر، وسائر
الأقطار العربية، ونحسب أنه من أنفع أغراض المجمع في خدمة اللغة الفصحى)) (مجلة
مجمع القاهرة 10/ 107)
ومعلوم أنّ الذين يدرسون اللهجات المعاصرة في جزيرة العرب يتناولون
طَرَفا من العامّيّة، لأنها مختلطة بها، ولكن العامّيّة عندهم ليست هدفاً في
ذاتها، بل الهدف البحث عن الفصيح والتأصيل والتهذيب والكشف عن التطور الصحيح
لإبرازهن والتطور الملحون لإصلاحه والتحذير منه.
وهذا الأديب السعودي الكبير (عضو مجمع القاهرة) الأستاذ عبدالله
بن خميس يقول في بحث قدمه لمجمع اللغة العربية بالقاهرة ألقاه في مؤتمر المجمع عام
1977م: ((إن اللهجات في قلب الجزيرة تمتّ
إلى العربية الفصحى بأقوى الأسباب، بخلاف اللهجات الأخرى المنتشرة في مختلف
الأقطار العربية... ففي استعمال اللهجات في قلب جزيرة العرب أو محاولة التقريب
بينها وتنميتها محافظة على اللغة العربية وخدمة لها)) (ينظر: اللهجات العربية:
بحوث ودراسات 483)
فهل يعي الدكتور بهاء ذلك؟ وهل يعرف أن العربية واسعة وأن
خدمتها ليست مقصورة على باب من أبوابها أو فن من فنونها، وأن مناهجها متعددة، وأنها
في مجموعها تصبُّ في نهر اللغة العظيم؟ ثم ألا يعلم أنّ التثبيط والتسفيه واتهام
علماء العربية بالتخليط ليس من مصلحة العربية في شيء ولا يبعث الروح فيها؟ وإنما
يؤدّي بها وبأبنائها إلى القعود وهجر البحث العلمي اللغوي والاكتفاء بما وجدوه
قبلهم مقرراً، فيفضي بهم الأمر إلى الاكتفاء باستهلاك العلم دون محاولة المشاركة
فيه وإنتاجه، وهذا خلاف المنهج اللغوي السديد الذي سار عليه سلفنا وخلفنا ممن يُقتدى
بهم في العلم والعمل.
ز- أن الدكتور بهاء حين يسعى إلى الهدم والتقليل من عمل المجمع لم
يأت ببديل، فلم يخبرنا ما الذي يقترحه مصطلحا لهذه الظاهرة التي نسميها (القفقفة)
ولم يذكر لنا اختياره في تسمية حرفها المقفقف من القاف الذي نسميه (القيف) أو
حرفها المقفقف من الجيم أو الكاف، مما أشرنا إلى وجوب تسميته لاحقا، وكذلك لم
يحدثنا عن مقترحه في رسم الحرف المقفقف من القاف ولا الحرف المقفقف من الجيم حين
يحتاج إليهما الباحث اللهجي الوصفي، مما ذكرنا أنه جدير بالرسم لمعرفة أصل الحرف
المقفقف من رسمه، منعا للخلط والتخليط، وهما الصورتان الأشهر من صور القفقفة
الثلاث، بخلاف الصورة الثالثة النادرة، ولعل أبلغ رد عليه هو أنّ لعلماء العربية على
مرّ العصور اجتهاداتِهم المعتبرةَ في وصف هذه الظاهرة اللهجية على ما تقتضيه مناهج
اللغة.
س- وحين تراه يستخف باجتهادات المجمع في خدمة اللغة في التصويب
والتعريب وجمع الفوائت بنوعيها وتهذيب اللهجات وتمييز الفصيح من العامّي تحار في
أمره ولا تدري أيجهل حقا واجبات اللغوي الأكاديمي وتنوّع المجالات البحثية اللغوية
أمامه وما يُنتظر منه من إضافة وإثراء واجتهاد حسب طاقته أم ترجّح أن دوافع
الاستخفاف غير علمية؟
هذه الخلاصة العامة
لما يؤخذ على الدكتور بهاء عبدالرحمن في الأصول والفروع مما ظهر لي في ردّه في
مسألة القيف. وفيما يأتي سأعلّق على بعض المواضع من كلامه، أضعها بنصّها بين
أقواس، كما كتبها هو بأسلوبه، وأبين ما فيها من خلل وزلل وما فيها من أوهام
ومغالطات، وسأضعها في نقاط مرقّمة، وأنبه على أن جميع ما أرسمه برسم القيف (القاف
المنقوطة باثنتين من تحت) يصلح رسمه بالگاف الفارسية على مذهب القدامى في رسم هذا
الصوت، فكل ما أرسمه بالقيف العربية ارسموه في مخيلتكم بالكاف الفارسية إن شئتم، وإن
اكتفيتم برسم القيف فهو حسبكم، حتى نحرّر رسم الجيم اليمنية كما قلنا في تاريخ 13
شعبان 1435هـ كما سيأتي بيانه، وإليكم الآن الملحوظات المفصّلة على ردّ الدكتور
بهاء وبيان ما فيها من خلل
ومغالطات:
1— قال بهاء: ((وذكرت أن سيبويه لم يذكر هذا الصوت في كتابه)) وقال
في أكثر من موضع من ردّه أنه لم يزل مصرّا على أن سيبويه لم يذكر صوت القيف، وقال:
((إن هذا الصوت الذي ذكره ابن دريد وغيره يختلف عن الصوت الذي ذكره سيبويه بين
الكاف والجيم أو بين الجيم والكاف)) وقال: ((أنت تخلط بين صوتين أشار إليهما
القدماء وهما الصوت الذي بين القاف والكاف، والصوت الذي بين الجيم والكاف أو الكاف
والجيم، فهما صوتان مختلفان في المخرج وفي الصفة))
أقول: القفقفة ظاهرة صوتية فريدة تحدث بين ثلاثة أحرف (الجيم والقاف
والكاف) فينشأ منها ثلاثة أوجه، قفقفة الجيم وقفقفة القاف وقفقفة الكاف، وسيبويه ذكر
صوت القيف في وجهين من وجوهه وهما قفقفة الجيم وقفقفة الكاف وهما شيء واحد، أي أنّ
الصوت واحد عند القفقفة، كما قال السيرافي. وأحد الوجهين يسمّى الجيم اليمنية كما
قال ابن دريد وشرّاح الكتاب، وليس للوجه الآخر اسمٌ لقلّته في الاستعمال، والفرق
بين الوجهين هو الأصل الذي نشأت منه القفقفة، أما الوجه الثالث الذي يأتي منه هذا
الصوت الفريد، وهو ما يسمى بالقاف التميمية، وهو قفقفة القاف، فقد أهمله سيبويه، وهو
معدود في فوائت الكتاب، كغيره من المسائل الفائتة، كما سيأتي في الفقرة رقم 2، وقفقفة
القاف هي الأكثر والأشهر عند العرب، وهي عين ما نعنيه بمصطلح القيف عند الإطلاق، والقفقفة
تشمل الصور الثلاث المشار إليها، وقد بيّنت للدكتور ذلك سابقا وأريته كلام السيرافي
والرضي وفهمهما لكلام سيبويه، ولا أريد أن أعيده، ولكني هنا سأناقشه بالأمثلة التي
تقرّب له الأمر:
أولا: قفقفة الجيم (ذكرها سيبويه ولم يمثل لها) ومثالها: (رَݠَعَ يرݠع)
ثانيا: قفقفة الكاف (ذكرها سيبويه ولم يمثل لها) ومثالها (رَݠَعَ يرݠع)أيضا !!
ثالثاً: قفقفة القاف (وهذه لم يذكرها سيبويه) ومثالها: (رَݠَعَ يرݠع) أيضا!!! (وهنا زادت علامات التعجب؛ لأني كررت المثال نفسه في
الحلات الثلاث!) وبيان ذلك أن نطق الألفاظ الثلاثة واحد، وهو صوت القيف، فلا فرق
بينهن في النطق ألبتة، ولكن الأصل يختلف، فأصل الأولى قبل القفقفة (رَجَعَ يرجع) وأصل
الثانية (رَكَعَ يركع) وأصل الثالثة
(رَقَعَ يرقع) وهذه الصورة الثالثة هي الصورة التي لم يذكرها سيبويه.
وأوضحها بصورة أخرى لعلها تكون أسهل؛ فأقول: إذا أردت قفقفة (الجَرْش
والكَرْش والقَرْش) فإنك تقول: (الݠَرْش)
كلمة واحدة ونطق واحد للكلمات الثلاث، وهنّ مختلفات في الأصل.
وقفقفة: أكبر وأجبر وأقبر: (أݠَبر) كلمة واحدة ونطق واحد
للثلاث.
وقفقفة: كَرَفَ وجَرَفَ وقَرَفَ (ݠَرَفَ) كلمة واحدة ونطق واحد
للثلاث
وقفقفة: كَرَعَه وجَرَعَه وقَرَعَه (ݠَرَعَه) كلمة واحدة ونطق واحد للثلاث
وقفقفة: فَرَكَه وفَرَجَه وفَرَقَه (فَرَݠَه) كلمة واحدة ونطق واحد للثلاث.
وقفقفة: حَكَرَه وحَجَرَه وحَقَرَه (حَݠَرَه) كلمة واحدة ونطق واحد للثلاث.
ومن هنا نعلم كيف يكون الصوت بين ثلاثة أحرف، وتظهر أيضا دقة
كلام ابن فارس حين قال: ((الحرف الذي بين القاف والكاف والجيم)) يقصد أنه صوت واحد
يُقفقف من هذه الأحرف الثلاثة فيكون وسيطا بينها.
والصورة الأولى
والثانية عند سيبويه شيء واحد قطعا، قال السيرافي: ((الگاف التي بين الجيم والكاف...
والجيم التي كالكاف، هي كذلك، وهما جميعا شيء واحد، إلا أن أصل أحدهما الجيم وأصل
الآخر الكاف، ثم يقلبونه إلى هذا الحرف الذي بينهما)) (شرح الكتاب: 5/ 389، 390)
وقال: ((والدليل على أنهما شيء واحد أنك إذا عددت ما بعد الخمسة والثلاثين فهو
سبعة بعدها واحد، وثمانية بعدها اثنان))
وقال الرضي في (شرح الشافية 3/ 257) ((... وهما جميعا شيء واحد
إلا أن أصل أحدهما الجيم وأصل الآخر الكاف))
وقال ركن الدين الأستراباذي في (شرح شافية ابن الحاجب 2/ 922):
((وأما الجيم التي كالكاف -وهي عكس الكاف التي كالجيم- فلا يتحقق أنها غير الكاف
التي كالجيم، بل هما شيء واحد))
فهذا يؤكّد للدكتور بهاء أن قفقفة الجيم كقفقفة الكاف بنص
العلماء، وبالسماع عن العرب والأمثلة السابقة، لكن هنا أدوّن ملحوظة وهي أن فقفقفة
الكاف قليلة وقد مثل لها ركن الدين الأستراباذي بأن من العرب من يأتي في موضع
الكاف من نحو:كسب ووكد بحرف بين الكاف والجيم (شرح الشافية 2/ 923)
قلت: والشائع قفقفة الجيم وهي يمنية حضرمية، وقفقفة القاف وهي
أكثر شيوعا (وعزاها ابن دريد لتميم) والحقيقة أنها لكثير من قبائل العرب، وهي
غالبة في بادية العرب، منذ عشرة قرون متتابعة على الأقل، وهي أوسع أنواع القفقفة
انتشارا. وقد مثّل القدامى لقفقفة الجيم بـ (ݠَمَل) و(رَݠُل) في جمل ورجُل،
ويسمونها الجيم اليمنية.
وليعلم الدكتور بهاء أن قفقفة القاف هي في الصوت كـقفقفة الجيم،
تماما، وهي (أي قفقفة القاف) هي الصورة التي لم يذكرها سيبويه، وسأعود مرة أخرى
لأمثل للجيم اليمنية والقاف التميمية (القيف) للمقارنة بينهما ولأثبت له ما خفي
عنه من لهجاتنا التي لا يعرفها ولا يرويها:
فإن قلت (المَݠَرّ) فإنك
لا تدري من غير سياق أهو المجرّ أو المقرّ
وإن قلت (الݠُرْعة) فإنك
لا تدري من غير سياق أهو الجُرْعة أو القُرْعة.
وإن قلت (المَݠال) فإنك
لا تدري من غير سياق أهو المجال أو المقال.
وبهذا يتبين أن سبب الخفاء في هذه الألفاظ هو أن الصوت واحد، من
مخرج واحد، ينشأ في صوت القفقفة، وسيبويه ذكر صورتين من صور القفقفة ولم يذكر
الثالثة، كما قلت، ومما أوقع الدكتور بهاء في الاضطراب الذي وقع فيه، أنه إلى اليوم
لا يدرك أن الجيم اليمنية مطابقة تماما للقاف التميمية في النطق؛ لأن الجيم عند
قفقفتها تنزاح إلى جهة الكاف فتكون في المخرج نفسه الذي تنزاح إليه القاف عند
قفقفتها، وأن هذا المخرج الوسيط مخرج واحد تلتقي فيه هذه الأحرف الثلاثة عند
قفقفتها، وأن كلام ابن دريد وابن فارس وابن خلدون يؤكّد هذا، ويدلّ على فهم عميق منهم
لطبيعة هذا الصوت الفريد.
ومما يدلّك على أنّ هذه الأصوات الثلاثة هي في النطق شيء واحد
وإنِ اختلفت في الأصل أنهم يرسمونها جميعا بالگاف الفارسية، فهي رسم القاف التميمية
والجيم اليمنية والكاف المقفقفة، وفي هذا إشارة قوية لم يلتقطها الدكتور بهاء ولم
يفطن إليها!
2- قال بهاء: ((ولو سلمنا أنه هو فلا يصح إلحاقه بأصوات العربية
لا المستحسنة منها ولا المستقبحة، لأنه لم يذكره سيبويه))
أقول: هكذا –كما ترون- يقطع الدكتور بهاء ويجزم بأنه لا يصح
إلحاق هذا الصوت بأصوات العربية بنوعيها؛ لأن سيبويه لم يذكره!! فيا للعجب !! كيف
يصنَّف هذا الزعم ما لم يصنف في بابٍ من غرائب بعض الأكاديميين؟! إن (لو) تفتح
الباب لـ (لو) فلو سايرناه في فهمه ووهمه وزعمه أن سيبويه لم يذكر هذا الصوت
الوسطي بين الأحرف الثلاثة الجيم والقاف والكاف، وأنه ((لا يصح إلحاقه بأصوات
العربية لا المستحسنة منها ولا المستقبحة، لأنه لم يذكره سيبويه)) لرُدّ الكثير من
علم العربية، وهذا من أفسد ما علمتُ من الرأي وأضلّه، فكيف لأستاذ جامعي أكاديمي أن
يقول مثل هذا وألا يقبل مسألة أو رأياً ذكره علماء أجلّاء بعد سيبويه، وكيف له أن
يحتجّ بمعيار فاسد كهذا في القبول أو الردّ؟! إذن يلزمه أن يردّ كل الأبنية التي
لم يذكرها سيبويه مما استدركه عليه المستدركون كالزبيدي في (الاستدراك على سيبويه
في كتاب الأبنية) وهي كثيرة.
ولا يخفى عليه أنهم استدركوا على سيبويه في الأصوات والنحو
والأبنية واللغات والقراءات والأساليب؟ وأنهم ردوا عليه وصححوا له، وأنهم لم
يرفعوه إلى درجة التنزيه والكمال كما يفعل هو، وأنهم لم يردوا لهجة معروفة بحجّة سكوت
سيبويه عنها، وقد استدرك ابنُ السراج على سيبويه في الأبنية وزاد 22 مثالًا،
واستدرك عليه أبو عُمر الجَرميّ أمثلة، وزاد ابن خالويه أمثلة، وزاد أبو بكر الزُّبيدي
أكثر من ثمانين بناء في كتابه الاستدراك.
ويعلم الدكتور بهاء أن ابن جني عقد بابا في الخصائص سماه (باب
القول على فوائت الكتاب) (الخصائص 3/ 185 – 218) ذكر فيه عدداً من الأبنية فاتت
سيبويه؛ منها: تِلِقّامة وتِلِعّابة، وفِرناس، وفُرانس، وتَنُوفَى، وتَرْجُمان، وشحمٌ
أُمْهُج، ومُهْوَأَنّ، وعُياهِم، وتُرامِز، وتُماضر، ويَنابعات، ودِحِندِح، وعِفِرّين،
وتِرعاية، والصِّنَّبِر، وزَيتون، ومَيْسُون، وكُذُبْذُب، وكُذُّبْذُب، وهَزَنبَزان،
وعَفَزّران، وهَدَيكُر، وهُنْدَلع، ودُرْداقِس، وخُزْرانق، وشَمَنْصِير، ومُؤْقٍ، ومَأْقٍ،
وجَبَرُوّة، ومَسْكِين، ومَنديل، وحَوْريت، وتَرْقُؤة، وخَلْبُوت، وحَيُّوت، وسَمَرْطُول،
وقَرَعْبَلانة، وعُقْرُبان، ومَألُك، وإصْرِّي، وإِزِلْزِل، وإِصْبُع، وخِرْفُع، وزِئْبُر،
وخُرُنْباش، وزَرْنُوق، وصَعْفُوق، وكُنادِر، والماطِرون، وخَزْعال وقسطال، وفِرْنَوس،
وسُراوِع، وضَهْيَد، والحُبْلِيل، والأُرْبُعاوَى، ومُقْبَئنّ، ويَرْنَأ،
وتَعَفْرَت.. وتعجّب ابن جني وغيره كيف فات سيبويه بناءُ (فَعْلُون) وهو قرآنيّ
وعلى طرف اللسان؟! قال: ((وأما زيتون فأمره واضح، وأنه فَعُلون، ومثال فائت.
والعجب أنه في القرآن، وعلى أفواه الناس للاستعمال)) (الخصائص 3/ 203)
قلت: سبحان الذي لا ينسى ولا يفوته شيء.. والدكتور بهاء يرفض صوت
القيف بحجة واهية وهي أن سيبويه لم يذكره، ثم لا يلتفت لمن ذكره من علماء العربية
الذين جاءوا بعد سيبويه على الرغم من كثرتهم ومكانتهم في العلم والعربية، وهذا موقف
غير علمي من أكاديمي. ولو قرأ شروح الكتاب بتدبّر كشرح السيرافي وشرح الرماني وشرح
الأعلم وشرح الصفار وشرح المجريطي وشرح ابن خروف لوجد أنهم يستدركون عليه أشياء مختلفة،
ويكملون نقصه.
ونعود مع الدكتور بهاء في الاستدراك في الأصوات نفسها فسيبويه
ذكر من الحروف (الأصوات) الأصلية والفرعية اثنين وأربعين حرفا فاستدركوا عليه، فزاد
بعضهم أربعة أحرف (البديع 2/609) ثم زادوا أربعة، لتصل إلى خمسين حرفا (صوتا)
فالأصوات وعددها وصفاتها ليست حكرا على سيبويه، وإن كان هو الركن الركين في علم
العربية، ولكن العلم بعده لم ينقطع، وعجلة العربية تدور، والعلماء في الأمصار يستدركون،
واستدراكهم معتبر ومقدّر علميا، وها نحن اليوم نرى المعاصرين يستدركون على سيبويه في
الأصوات ومخارجها وصفاتها.
وحين نقدّر سيبويه حق قدره وننزّله المنزلة اللائقة به لا نلغي
سماع غيره وروايته، فالعمدة في إلحاق صوت فرعي شائع بأصوات العربية هو السماع
وتواتر نقل الرواة الصادقين، فحين يكون القيف مشهورا شائعا، ونجد جمهرةَ من أهل
اللغة يرون أن النطق به لغة أكثر العرب كما رأينا في كلام أبي حيّان والأسنوي وابن
خلدون وغيرهم، بل نرى من هو أقدم من هؤلاء ممن جاء بعد ابن دريد بقرن واحد، فينص
على أنها لغة أكثر العرب، في كتاب (المباني لنظم المعاني) لمؤلف مغربي شرع في
تأليفه سنة 425هـ في قوله: ((أكثر العرب يجعلون القاف تقارب الكاف في السماع))
(ينظر: مقدمتان في علوم القرآن ص 221 تحقيق آرثر جفري) ونرى من المحدثين من
المعاصرين (وهو الأستاذ عبدالستار أحمد فراج) من لا يستثني من العرب الذين ينطقون
بهذه القاف اللهجية إلا قريشا (ينظر القبائل والقراءات، الرسالة العدد 812 ص
112ولغة قريش 45) وهذا يؤيد أن المراد بتميم في نص ابن دريد القبائل النجدية بعامة
كما يقول الدكتور مختار الغوث (لغة قريش 45) فحين يكون الأمر كذلك فليس لنا إلا
الاعتراف بحقيقة هذا الصوت، وأن نصفه كما وُصِف لنا، وكما سمعناه في البيئات
البدوية، وليس لنا أن نرده بحجّة غير علمية!
وبهذا يظهر أن حجة الدكتور بهاء في رد القيف بأن سيبويه لم يذكره باطلة، ومنقوضة
بما سبق، وقولي هذا ردٌّ على افتراض صحّة زعمه أن سيبويه لم يذكر ذلك الصوت الوسطي
(القيف) ومعلوم أن سيبويه ذكر القفقفة في صورتين من صورها ولم يذكر الثالثة،
واستدركها ابن دريد والسيرافي وابن فارس كما استدركوا عليه في الأبنية.
3- وقال بهاء: ((وأنّ في وصف ابن دريد اضطرابا لا يصح عنه)) وقال
سابقاً: ((هذا النص لو صح عن ابن دريد دلّ عندي على تخليط من أثر الشراب الذي كان
يلازمه على ما حكاه الأزهري)) وقال ((كلام ابن دريد على هذا الوجه فيه تخليط))
أقول: ادّعى الدكتور بهاء أن ابن دريد مخلّط في حديثه عن هذا الصوت (القيف)
(لو صح عنه) كما يقول! فما قول ابن دريد؟ قال: ((ومثل الحرف الذي بين القاف والكاف
والجيم والكاف)) فيلحظ أنه جعل القفقفة حرفاً (صوتاً) واحدا بين هذه الأحرف
الثلاثة، وهذا ما أزعج الدكتور بهاء؛ لأن قوله هذا يعدّ حجّة ضدّه، فاتهم ابن دريد
بالتخليط، ولكنه تورّط حين وجد ابن فارس يؤكد كلام ابن دريد ويزيده إيضاحاً حين
قال في الصاحبي (ص 36، 37 ): ((ومثل الحرف الذي بين القاف والكاف والجيم)) فهذا اختصار لطيف لكلام ابن دريد، واختصار جيّد لصوت القفقفة،
الذي يكون من مخرج وسيط بين هذه الأحرف الثلاثة المتقاربة، ومثل هذا نراه عند ابن
خلدون، فهل كان الثلاثة ابن دريد وابن فارس وابن خلدون مخلّطين؟!!
إنّ بعض التخليط الذي يشير إليه الدكتور بهاء هو أن ابن دريد
ذكر الحرف ((الذي بين القاف والكاف والجيم والكاف)) فكيف يكون حرفا واحدا أو صوتا
واحدا من مخرجين؟ هكذا يتوهم الدكتور بهاء أنه من مخرجين!! والأمر خلاف ذلك، ولا
يخفى هذا الخفاء، فهذا الصوت الذي يقع بين ثلاثة أحرف، هي الجيم والقاف والكاف، هو
صوت واحد من مخرج واحد، وهو ما أوضحته في كلامي السابق حين قلت: تقريب الجيم إلى الكاف، وتقريب الكاف إلى الجيم
، وتقريب القاف إلى الكاف.. فيأتي الحرف المقرّب في هذا المخرج وينتج عن التقريب
هذا الصوت اللهجي الفريد، الذي يسمونه الگاف الفارسية، وهذا الصوت أكثر شيوعا في
اللهجات البدوية من الخليج إلى المحيط، وهو يمثل ما نسميه: ظاهرة القفقفة (وهذا
مصطلح جديد نقترحه لهذه الظاهرة ولم يسبقنا إليه أحد فيما نعلم وكذلك مصطلح القيف)
فابن دريد لم يخلّط، بل كان أكثر وضوحا؛ لأنه أضاف الصورة الثالثة، التي لم يذكرها
سيبويه في طريقة نشأة هذا الصوت الفريد، واختصر صورتي سيبويه في لفظ واحد، وقد
أفاد من كلامه تلميذُه أبو سعيد السيرافي، وفي ظني أن ابن دريد هو الذي فتح
للسيرافي الطريق ليقول كلمته التي جلّت كلام سيبويه، وهي قوله عن الصوتين اللذين
ذكرهما سيبويه: ((وهما جميعا شيء واحد، إلا أن أصل أحدهما الجيم وأصل الآخر الكاف،
ثم يقلبونه إلى هذا الحرف الذي بينهما)) وكذلك الصوت الذي بين القاف والكاف يكون
من ذلك المخرج نفسه، والأمثلة التي ذكرتها من القفقفة تشهد، وهو مُؤيّد بكلام ابن
فارس وكلام ابن خلدون، فقد تابعا ابن دريد وجعلا صوت القفقفة متوسّطا بصورةٍ ما بين
الجيم والقاف والكاف.
وزيادة على ذلك فإن سائر علماء العربية القدامى لم يفرّقوا في
الرسم بالكاف الفارسية بين قفقفة القاف وقفقفة الجيم فهم يرسمون: رگل وگمل (رجل
وجمل) بالكاف الفارسية، كما يرسمون الگوم والگدر (القوم والقدر) بالكاف الفارسية
أيضا، والمثالان الأولان لقفقفة الجيم والآخران لقفقفة القاف، فدلّ ذلك على أن
الصوت عندهم واحد فرسموه برمز واحد، وهذا واضح الدلالة، والجدل فيه عقيم.
4- قال بهاء: في حديثه عن ابن دريد: ((فأنت ترى أنه جعل أحد
الصوتين بين الكاف والجيم وأصله الجيم، وجعل الثاني بين الكاف والقاف وأصله القاف. والثاني أن ابن فارس الذي نقل عن ابن دريد وإن كان نقله يختلف
قليلا عما في الجمهرة فرق بين الصوتين كما فعل ابن دريد، فالجيم في (جمل) في اللغة
اليمنية التي أشار إليها ابن دريد تنطق بين الكاف والجيم، أما القاف التميمية
فتكون بين القاف والكاف))
أقول وأكرر: نطق الصوت الذي بين الجيم والكاف هو نفسه الذي بين
القاف والكاف، والفرق بينهما أن هذا مقفقف من الجيم والآخر مقفقف من القاف، وأعجب
ألا يُدرك الدكتور بهاء هذا، وسأعطيه أمثلة:
نأتي برجلين يمنيٍّ
وتميميٍّ:
المثال الأول: الفعل (ݠَبَعَه)
(اليمني –صاحب لهجة الجيم اليمنية- يسمعه ويظنه مقفقفا من: جَبَعَه، بمعنى قطعه،
والتميمي يظنه من قَبَعَه قبعا، والصوت واحد والنطق واحد، والقفقفة عند اليمني من
الجيم وعند التميمي من القاف، ولو اختلف الصوت ما التبس اللفظ.
المثال الثاني: الاسم (الݠَدْر) (اليمني يحسبه الجَدْر بمعنى الجدار والتميمي يظنه القَدْر
بمعنى المقدار)
المثال الثالث: الاسم (الݠَرْم)
اليمني يحسبها: الجَرْم، والتميمي يحسبها: القَرْم واحد القروم.
ومثل هذا كلّ ما يقفقف
من هذين الحرفين، ولو كان الصوت منهما مختلفا لما التبس على السامعَين اليمنيي
والتميمي، فهو صوت واحد في اللفظين، وهذا معنى كلام السيرافي، في قوله: ((ورأينا
من يتكلم بالقاف بين القاف والكاف فيأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف،
والجيم التي كالكاف)) فالصوت واحد، والمخرج واحد، خلافا لما ييتوهمه الدكتور بهاء،
فهما قد زالا عن مخجريهما الأصليين وانتقلا إلى مخرج جديد فالتقيا فيه، ولو كانا
صوتين من مخرجين لكانا مختلفين، كما تختلف الحروف لاختلاف المخارج، فلا معنى حيئذ
لكلام السيرافي، فالقيف صوت واحد من مخرج واحد نشأ وسيطا بين تلك الأحرف الثلاثة،
أو كما سماه ابن فارس ((الحرف الذي بين القاف والكاف والجيم)) وكما وصفه ابن خلدون
بأنه ((بين القاف والكاف والجيم)) وسبق أن ذكرتُ له هذا مفسّرا، وهو ظاهر.
5- قال بهاء: ((عجبت ممن يستقيم في منطقه الجمع بين المتناقضات
كيف يجرؤ على عرضها على الملأ !
سبق أن بينت أنك لم تفهم تغريدتي، ولأنك لم تفهمها نسبت إلي ما
لم أقله، فلم أقل إن هذا تخليط من ابن دريد وإنما علقت ذلك بـ(لو صح هذا عنه) وشرط
(لو) ممتنع كما ذكرت)) وقال: ((فالمقصود أنه لا يصح هذا عن ابن دريد))
أقول: سبق أن وصف الدكتور بهاء ابنَ دريد في أكثر من موضع
بالتخليط، وتارة يعلّق ذلك بـ (لو) صح عنه، وتارة يجزم به، وهذا دليل تردّد
واضطراب وعدم ثقة بفهمه، فأما تعليقه بـ (لو) فمما لا فائدة فيه،؛ لأنّ نصُّ ابن
دريد لم يأتنا في عرض قولٍ مروي عنه في كتاب ليس له، حتى نقول إن صحّ عنه! بل جاء
في كتابه هو (الجمهرة) المتداول بين أهل العلم منذ أكثر من ألف سنة، وقد اطلع عليه
علماء العربية ومعجميون محققون كبار كالقالي والفارابي والأزهري والصاحب وابن فارس
والجوهري والصغاني وابن سيده وابن برّي وابن منظور والفيروزآبادي والمرتضى
الزَّبيدي، وكذلك اطلع عليه محققا الجمهرة في طبعتها الأولى الشيخ محمد السورتي
والمستشرق الألماني كرنكو (سالم الكرنكوي) ومحققها الثاني الدكتور رمزي منير
بعلبكي في طبعتها العلمية الأخيرة، وحُققت الطبعتان على عدد من النسخ أحدها نسخة
قرئت على ابن خالويه وعلى أبي العلاء المعري، ولهما تعليقات عليهما، ونسخة أخرى
جاءت برواية أبي علي القالي وهو تلميذ ابن دريد، فهؤلاء العلماء القدامى
والمعاصرون لم يعترضوا على نصّ ابن دريد في القيف أو في الأصوات الفرعية، مع أنهم
انتقدوا مواضع في كتابه في غير هذا الموضع. وقد اطلع على الجمهرة ابن جني وشيخه
الفارسي، وهما ممن يترصّد لابن دريد ويكشف عن أخطائه؛ لأنه كوفي، فلم يأخذا عليه
شيئا في وصفه للأصوات. فما فائدة التعليق بـ (لو) وليس هذا من مواضعها المناسبة؟!
6-قال بهاء: ((كلام ابن دريد على هذا الوجه فيه تخليط، ونقل ابن
فارس عنه (بين القاف والكاف والجيم) أيضا لا يصح، ووصف ابن خلدون للكاف الفارسية
أيضا (بين القاف والكاف والجيم)
أقول: يكرر الدكتور بهاء دعوى التخليط المزعوم عند ابن دريد، وترون
كيف يكيل بمكيالين، فالثلاثة عنده مخطئون ولكن الحكم مختلف، فابن دريد مخلّط وابن
فارس وابن خلدون لا يصح قولهما فحسب وليسا
مخلّطَين؛ والحقيقة أن كلام الثلاثة صحيح واضح لا خلط فيه ولا غلط إلا عند من لم
يفهم قولهم.
7-
وقال بهاء: ((وأن ابن فارس ذكره في باب اللغات المذمومة))
أقول: لم يكن خلافنا في القيف في هذه المسألة، أي في حال القيف
في الصحّة والفصاحة وكونه لهجة مذمومة أو غير مذمومة؟ ألم يرَ كلامي الذي كرّرته
مرارا؟ وهو أنني لا أتعدّى وصف الظاهرة كما جاءت عن العرب؟ وأنني في هذا الأمر
أقتدي بابن فارس نفسه الذي ذكر هذه الظاهرة المذمومة، وذكر غيرها في باب مستقلّ في
الصاحبي في فقه اللغة، وذكر سيبويه لغاتٍ مذمومةً، ووصفها وحلّلها، وعقد السيوطي
في المزهر بابا لمعرفة الرديء المذموم من اللغات، ومثل هذا نراه منتشراً في كتب
اللغويين، أفإن جاز لهم أن يصفوا لهجاتٍ مذمومةً ألا يجوز لنا أن نفعل مثل ما
فعلوا؟! وحين كانوا في ذلك وصفيين كنا مثلهم وصفيين في القيف، نمارس حقنا اللغوي
العلمي في الوصف، ونجتهد مثلهم.. وهذا من المسلّمات، والجدل فيه عقيم مستقبح.
8- وقال بهاء: ((وأنّ ابن خلدون حار في أمره وأمر القاف الفصيحة))
أقول: قول
ابن خلدون واضح في القيف وصريح وجريء، ولم يحر فيه إلا الزاعم المضطرب، فابن خلدون
يصف القيف كما وصفها ابن دريد ووصفُه مطابق لما نعلمه اليوم من حال القيف في
لهجاتنا التي نتكلم بها في حديثنا اللهجي اليومي، ونعرفها معرفة يقينية، وقد جعل
ابن خلدون مخرج القفقفة بين الأحرف الثلاثة، قال: إنهم ((يجيئون بها متوسّطة بين
الكاف والقاف)) وأنه صوت ((متوسّط بين الكاف والجيم أو القاف)) وهذا يوافق كلام
ابن دريد وابن فارس.
9- قال بهاء: ((لذلك لا يمكن القطع بأن ذلك الصوت نفسه هو القاف
في بعض العامّيّات الحالية))
أقول: الأصل في الظاهرة اللغوية أن تبقى وتستمرّ في بيئتها
وخاصة في البيئات البدوية المنغلقة، كما بقيت اللغات الملقّبة، كالعنعنة والشنشنة
والكسكسة والكشكشة والعجعجة والطمطمانية وغيرها، وبقيت على حالها منذ العصر
الجاهلي، ووصلت إلينا كما وصفها علماء العربية القدامى، فعلى أي أساس لغوي علمي يفترض
أن القفقفة التي نسمعها في القاف والجيم ليست هي ما وصفه القدامى؟ ولماذا تبقى
اللغات الملقبة كلها وتتغير القفقفة؟ وما الدليل على تغيّرها؟ وأليس البيت المقفقف
في شاهد الشاعر التميمي الذي رواه ابن دريد وابن فارس ورسموه بالكاف الفارسية:
ولا أگولُ لگدر الگوم گد غليت
ولا أگول لباب الدار مگفول
باقيا على حاله في نطقنا اليوم؟ وأنه من المخرج نفسه الذي وصفه
القدامى وذكروا أنه بين القاف والكاف؟ وأليست القفقفة من الجيم نحو گمل ورگل في
الجيم اليمنية هي هي كما كانت في سابق أيامها؟ وأليست الباء هي الباء والسين هي
السين والعين هي العين والخاء هي الخاء؟ لقد عرفنا ذلك في أصواتنا بالمشافهة
والتوارث جيلا عن جيل، ووجدنا لهجتنا فيه مطابقة لوصف القدامى له. وليس للدكتور
بهاء إلا أن يفترض ما يريده هو دون أن يأتي بدليل أو بديل يستوعب دراسة هذه
الظاهرة الصوتية، وهذا خلاف البحث العلمي، وخلاف المسموع المتواتر وينافي أقوال
جمهور العلماء التي تبطل زعمه وتردّ قوله.
10- قال بهاء: ((فلا يعتد بما ذكروه لأن
ذكرهم له كان تسجيلا لصوت عامّيّ في عصرهم))
أقول: لِـمَ لا يُعتدُّ بقولهم في وصف ظاهرة لهجية يعرفونها؟
فإذا كان لا يعتد بأقوال علماء العربية عبر عصورها المختلفة فبقول من يعتدّ؟
أيريدنا بهاء أن نعتدّ بقوله هو وهو لا يحسن كيف تنطق هذه اللهجة؟ وهو لا يعرف من
لهجاتنا إلا ما يقرأه قراءة ولا يحسنه نطقا؟ إن الأجدر به أن يلتزم بكلام العلماء القدامى
والمعاصرين في هذه الظاهرة، أو يترك القول لغيره ممن يعرف اللهجة ويرويها سماعا كما
نطقها أهلها الذين توارثوها جيلا بعد جيل.
ثم إني ذكرتُ له غير
مرّة أن البحث اللهجي وصفي ولا يعنينا أن تكون القيف والقفقفة فصيحة أو صوتاً
عامّياً يصفونه في أزمانهم كما يقول، فهذا الصوت ممتد منذ عصور الفصاحة تتوارثه
الأجيال، وعلى الباحث اللغوي الوصفي في لهجات العربية أن يرصد الظاهرة ويصفها
ويحرر مصطلحاتها وما تحتاج إليه من رموز كتابية تعين الباحثين اللهجيين الخائضين
فيها، وهذه نقطة خلاف كبيرة بيني وبين الدكتور بهاء.
11- قال بهاء: في سياق
من السخرية: ((وقد
أثارت هذه التغريدات ثائرة رئيس (ما يسمى) بمجمع اللغة الافتراضي الدكتور عبد
الرزاق الصاعدي الذي (اخترع) للقاف العامية اسم القيف))
أقول: الحكم على مصطلح
القيف متروك لأهل العلم، ومعلوم أنّ لمجمع اللغة الافتراضي فيه قرارين: العاشر في
المصطلح والحادي عشر في الرسم، وجهدنا فيه موصول بجهود من سبقنا، ومحاولتنا موصولة
بمحاولات عديدة قبلنا للقدامى والمعاصرين، والمجمع يمارس حقه في العلم والبحث
اللغوي وخدمة العربية ولهجاتها وأصواتها ومصطلحاتها وألفاظها ومعجمها، ولا أظن أحداً
يستطيع أن يغرينا بأن نقعد بجواره مع القاعدين المتواكلين، فهذا لا نرضاه لأنفسنا إن
رضيه غيرنا لنفسه، ليبقى مستهلكا للمعرفة، ولن تثنينا أو تثبطنا مثل هذه الخرفشة
والأحكام المستخفّة المستهجنة، وما كلماتٌ مثل (ما يُسمّى) و(اخترع) التي يتفوّه
بها استخفافا بنا إلا دليل إلا على الجمود وضيق الأفق ومحدودية الاطلاع على تراث
العربية وتاريخها، ومن المرجّح أنه لا يعلم أن لهذا الصوت عدة مصطلحات ومحاولات عبر
القرون في تاريخ العربية؛ لأنه لو عرف هذا لعدّ محاولة المجمع محاولةً كغيرها من
المحاولات معلّلة بعللها ومسبّبة بأسبابها فقد تنجح ويؤخذ بها أو يطويها الزمن كما
طوى غيرها، على ما تقضي به سنن العلم والتاريخ، والمجمع لم يأتِ بمنكر يستحق
النكير عليه، ولم يتجاوز أن مارس حقه، ومن تلك المصطلحات لصوت القيف التي وجدناها
عند علمائنا: (القاف المعقودة) و(الكاف المعقودة) و(الجيم المعقودة) و(قاف العرب) و(القاف
التميمية) و(قاف الحجاز) و(القاف المغلظة) و(القاف اليابسة) و(القاف المترددة) و(القاف
الصماء) و(قاف الجماعة) و(القاف الطبقية) و(القاف
الصعيدية) و(القيف) و(القفقفة) والأخيران تسميتنا. فهل تسمح له أدبيات العلم بأن
ينكر على متقدمٍ أو معاصر من أصحاب هذه المصطلحات اجتهادَه سواء كان مصيبا أو
مخطئا؟ وهل تسمح له الأدبيات بأن يستهجن اجتهاد مجتهدٍ منهم ويستخفَّ به بعبارت
مثل (ما يسمّى) فلان (اخترع) كذا؟!! إنّ هذه اللغة المستهجنة لا تصدر من أهل العلم،
والعالم لا يستخفّ بمحاولات غيره وبخاصة حين تكون ملتزمة بمنهج معروف من مناهج
اللغة.
12-
قال بهاء: ((ذكر سيبويه الحرف الفرعي الذي بين الكاف والجيم ولم يذكر الصوت الذي
بين القاف والكاف. فإن
كان الصوتان في نظرك صوتا واحدا فهو خطأ منك، فلا تنسب إلى سيبويه شيئا لم يقله في
الحقيقة، فلا يجوز في المنهج العلمي الخلط بين ما هو حقيقة وواقع وما هو مجرد خيال
في ذهن صاحبه))
أقول:
أوضحت له ما خفي عليه، وذكرت له الأمثلة التي يتضح منها أن الجيم المقفقفة والقاف
المقفقفة والكاف المقفقفة تنطق بصوت واحد وسيط بينها، وأوردت الأمثلة التي تؤكد
ذلك، وما ذكرته يكفي لمن هدفه البحث العلمي المجرد، وذكرت له أن القدامى رسموا
الجيم اليمنية بالكاف الفارسية ورسموا القاف التميمية بالكاف الفارسية أيضا، وسموا
النطق بالصوتين المختلفين في الأصل المتفقين بعد القفقفة گافاً فارسية، لأنهما
جاءا من مخرج واحد، ومثلهما الصورة الثالثة أعني قفقفة الكاف، وفي هذا دلالة تؤكد
التحليل اللفظي الذي ذكرته فيما سبق في الفقرة رقم (1) فليرجع إليه.
13-
قال بهاء: ((إذا كان السيرافي قد استدركه فهذا يعني أن سيبويه لم يذكره، وقد سبق
أن ذكرتَ أن سيبويه ذكره، لذلك يجب أن تحرر عبارتك فتقول: الصوت الذي بين القاف
والكاف لم يذكره سيبويه واستدركه السيرافي))
أقول: لقد قرأ قولي بعد
العبارة السابقة، وهو: ((لقد ذكر سيبويه صوت القيف في كلامه عن الحروف الفرعية في
باب الإدغام، واكتفى بصورتين، الأولى نطق الصوت بين الكاف والجيم، والثانية نطق
الصوت بين الجيم والكاف، وذكر ابن دريد وتلميذه السيرافي ثلاث صور ينتجع عنها صوت
القيف)) ثم نقلت كلام السيرافي وما فيه من استدراك الصورة الثالثة التي لم يذكرها
سيبويه وقلت عقبها: ((فهذه هي الصورة الثالثة التي لم يذكرها سيبويه، وكلام
السيرافي واضح وصريح، وهو خير من يفهم نصوص سيبويه، ولذا تابعه الرضي وأبو حيان)) فعبارتي
واضحة ومفهومة، وليس بعد هذا، فإن كان يطالبني بتحرير عبارتي فأنا أطالبه بتحرير
فهمه!
14-
قال بهاء: معقّبا على قول السيرافي: ورأينا من يتكلم بالقاف بين القاف والكاف،
فيأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف: ((ومعنى هذا أن
هذا الصوت الذي بين القاف والكاف يشبه الكاف التي بين الكاف والجيم، أو الجيم التي
كالكاف، لأن تقدير كلامه: فيأتي بلفظ مثل لفظ كذا، ولم يقل: إنهما صوت واحد، لأنه
يستحيل أن يتطابق الصوتان مع اختلاف مخرجيهما، ولو أراد أن يجعلهما صوتا واحدا
لقال: ورأينا من يتكلم بالقاف بين القاف والكاف، فيأتي بالكاف التي بين الجيم
والكاف))
أقول:
هذا تمحّل والتواء، ومعنى كلام السيرافي واضح، وقوله ((ورأينا من يتكلم بالقاف بين
القاف والكاف، فيأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف))
يؤكد ما شرحته سابقا بالأمثلة حين ذكرت أن قفقفة الجيم تلتبس بقفقفة القاف، وتنطق
بالنطق نفسه تماما، وقلت: إن السامع حين يسمع (المَݠَرّ) مقفقفا لا يدري - من
غير سياق- ما مراد المتكلم، أهو: المجرّ أو المقرّ، وحين يسمع الفعل المقفقف (ݠَرَعَ) فإنه لا يدري من
غير سياق أهو جَرَع أو قَرَع؟ وحين يسمع (نَݠَرَ) فإنه لا يدري من غير
سياق أهو نَجَرَ أو نَقَرَ؟ لأن هذا من ذاك، فصوت الجيم المقفقفة عند اليمني مثل
صوت القاف المقفقفة عند التميمي وعامة العرب، يعني أنه مطابق له؛ لأنه من مخرج واحد
وليس من مخرجين.
15-
قال بهاء: ((فقيفك المخترع هو الصوت الواقع بين القاف والكاف، وأن أصله القاف،
وليس في قرار مجمعك أن القيف هو الصوت الواقع بين الكاف والجيم الذي أصله الجيم أو
أصله الكاف لذلك عليك أن تحرر وصف قيفك المخترع بدقة))
أقول: لعل الدكتور بهاء
يعلم أننا في المجمع بدأنا بالوجه الأشهر في هذه الظاهرة، وهي قفقفة القاف مما
نتداوله في لهجاتنا على نحو ما هو شائع في جزيرة العرب وغيرها، ويعلم أننا أشرنا
في عدة تغريدات إلى قفقفة الجيم (وهي وجه من وجوه القفقفة) وإلى رسمها، ووعدنا بأن
نتناولها في قرار قادم، وأننا سنأتي عليها بالبحث والمداولة لنصل في اسمها ورسمها
إلى قرار، وألمحنا إلى أننا قد نأخذ بمصطلح خاص ورسم خاص فيها (ربما الجاف-
والقرار للجنة العلمية) وأذكّر الدكتور بهاء بأصل اعتراضه علينا، وهو إنكاره أن
يكون القدامى ذكروا صوت القيف وأن من ذكره كان مخلّطا، وأن المتأخرين لا يقصدون
بما ورد عندهم هذا الصوت الذي سميناه القيف، فأثبتُّ له أنه صوت قديم وأن سيبويه
ذكره في وجهين من وجوه القفقفة وأن ابن قتيبة ذكره وكذلك ابن دريد الذي وصف قفقفة
القاف بأنها لغة معروفة في بني تميم في جزيرة العرب، وذكرت له أننا نصف ظاهرة قديمة
مشهورة، ولم تزل باقية، وأننا لا نبحث في مستواها في الفصاحة، لأن القرار موجّه للباحثين
وليس للعامّة، فهذا ما يخصّ المجمع، والمجمع أعرف بسياسته وبما يتخذه من خطط علمية
وقرارات، ولا نحتاج إلى نصيحة مَن لا يعرف تاريخ لغته ولهجاتها ولا يحسن فهم
نصوصها القديمة.
وسأبين للقراء أنه أخذ فكرة اعتراضه هذا من تغريداتي التي
نشرتها قبل أن ينشر مقاله بنحو أسبوعين، فقد كتبت في 13 شعبان 1435هـ الموافق 11/
6/ 2014م ثلاث تغريدات عن الجيم اليمنية، أنقلها بصوصها، وهي: قولي عن الجيم
اليمنية: ((هي نطقاً بصوت القيف، ولكنْ رسماً الأحسن التغيير حتى لا يتلبس (ݠمل) بـ (ݠمل) الأول قمل والثانية
جمل فالأحسن التفريق: ݠمل وچمل))
وقولي ((في الرسم يحسن التفريق، أما في المصطلح فلا يلزم (لأن
النطق بالقيف) مع أنني أفضّل التفريق.. وسنترك هذا إلى ما بعد رمضان.))
وقولي: ((نعم سيكون خاصا بما يسمى الجيم المصرية أو الجيم
اليمنية.. وهي في النطق قيف.. لكن الدقة في تمييز المصطلحات وفي الرسم خاصة مطلب))
وكتبت تغريدتين في 18 شعبان 1435هـ الموافق
16 / 6/ 2014م:
قلت في إحداهما: ((بحول الله سننتهي من ترميز الجيم اليمنية
(المصرية) وتحدثت عنها الآن من أجل التحضير لها، ولتختمر في العقول وسيكون حديثنا
فيها بعد رمضان))
وقلت في الأخرى: ((الجاف هي الجيم اليمنية أو المصرية مثل: رﭼل
وﭼمل، والقيف هي القاف المعقودة مثل مݠبل و ݠوݠل،
ونطقُ الجاف والقيف واحد))
وكل ذلك قبل أن ينشر الدكتور بهاء مقاله بنحو أسبوعين، فمقاله
نشر في 29 شعبان الموافق 27 /6 / 2014م وبهذا يتبين أنه يأخذ منا البضاعة ويعيدها
إلينا في صورة اعتراضات، وهذا ينافي آداب العلم في الأخذ والعزو، وهو لا يستطيع أن
ينكر أخذه؛ لأن هذا موثق بالتاريخ الذي لا يحابي أحدا.
16-
قال بهاء: ((الوقفة الثانية: أنه يستحيل عقلا أن يكون للصوت الواحد مخرجان
مختلفان، كما يستحيل ذلك أداء ونطقا))
أقول: هذا القول مبني على وهم يتكرر في كلام الدكتور بهاء، وهو لم
يزل مصرا على أن قفقفة الجيم من مخرج وقفقفة القاف من مخرج مختلف، وهذا توهّم
يخالف واقع القفقفة، فهي من مخرج واحد ينتقل إليه الحرف المقفقف، كما ينتقل حرف من
مخرج إلى مخرج آخر عند الإبدال، فالجيم والقاف والكاف تنتقل إلى مخرج واحد عند
القفقفة، ولذا يتّفق الصوت في (رݠع) حين قفقفة
الأحرف الثلاثة في (رجع ورقع وركع) وذكر الخليل أن مَخْرَج
الجيم والقاف والكاف فمن بين عكدة اللّسان وبين اللَّهاة في أقصى الفَم (العين 1/
52) فنشأ هذا الصوت اللهجي الفريد في ظاهرة القفقفة في مخرج واحد تلتقي فيه
الأصوات الثلاثة حين تُقفقف، فمخرج القفقفة واحد ينزاح إليه كلٌّ من الأصوات
الثلاثة، على نحو ما تقدم، وكذلك يتفق الصوتان (الجيم والقاف) عند قفقفتهما في
كلمتي المجرّ والمقرّ فينطقان نطقا واحدا هو: (المݠرّ) على نحو ما تقدّم فالصوت
المقفقف في الكلمتين يكون من مخرج واحد، فجاء النطق واحدا، ويرسمهما القدامى برسم
واحد هو (المگرّ)
لأن الصوت واحد، ولا يُفرّق بينهما إلا بالسياق أو الحال.
17-
قال بهاء: ((إن السيرافي الذي استدرك على سيبويه الصوت الذي بين القاف والكاف فرّق
بينه وبين الجيم التي بين الكاف والجيم عندما قال:(ورأينا
من يتكلم بالقاف بين القاف والكاف فيأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف،
والجيم التي كالكاف) فالصوتان
متشابهان لكنهما ليسا صوتا واحدا))
أقول: أجبت عن هذا مرارا، وقول السيرافي (...يأتي بمثل لفظ
الكاف التي بين الجيم والكاف...) يعني أن نطقهما واحد وإن اختلف الأصل، ولأن
المخرج واحد فلا بد أن يكون الصوت واحدا، ولذا قال السيرافي (فيأتي بمثل..) وكلامه
صريح صحيح، وهو مطابق لواقع الصوت المقفقف من الحرفين القاف والجيم.
أما لو كان الصوت من
مخرجين لاختلف الصوتان وانتفى التماثل، فالتماثل هنا بمعنى التطابق، والأمثلة التي
كررتها تشهد بذلك، وكلام السيرافي حجّة على الدكتور بهاء لا له كما يتوهم، وهو يحاول
أن يصرف كلام السيرافي عن معناه ولن يستطيع.
18-
قال بهاء: ((أنه لو سلمنا أن الصوت الذي اخترعتَ تسميته فدعوته (القيف) هو نفسه
القاف التي بين القاف والكاف ، وهو نفسه الجيم التي بين الكاف والجيم، وهو نفسه
الكاف التي بين الكاف والجيم، لو سلمنا بهذا التناقض وهذه الاستحالة فكيف تجعل
للحروف الثلاثة رمزا كتابيا واحدا هو ذاك الرمز المخترع العجيب؟ إن ذلك لا يصح إلا
إذا جعلته رمزا كتابيا خاصا بك وببحوثك الصوتية))
أقول: هذا الاعتراض أيضا مستوحى من تغريداتي التي ذكرتها بتواريخها
في الفقرة رقم (15) وما قلته هناك يغني، وعليه أن يلتزم بآداب البحث العلمي، وأزيد
هنا قائلا:
ينبغي أن يدرك الدكتور بهاء ثلاثة أمور في غاية الأهمية، وهي:
الأول: يتصل بالصوت المنقول عن أصله؛ فأن هذا الصوت في القفقفة
واحد؛ لأن المخرج الصوتي للقفقفة واحد.
الثاني: يتصل بالصوت في أصله، فأن أصل القفقفة من الحروف
الثلاثة مختلف، فإن نظرنا إلى الحال وهو الصوت المقفقف ترجّح توحيد المصطلح وإن
نظرنا إلى الأصل فالحروف (الأصوات) الثلاثة مختلفة، فترجّح التفريق في التسمية،
وقد ألمحت إلى ذلك في عدة تغريدات قبل أن يكتب مقاله، وقد استقى ملحوظته هذه من
تغريداتي المشار إليها في الفقرة رقم (15)
والثالث: يتصل بالرسم فإن نظرنا إلى الحال الذي آل إليه الصوت
جاز أن يكون برسم واحد هو القاف المنقوطة من تحت في الحالات الثلاث، وفي هذا نوافق
علماءنا الذين وحدوا بين حالات القفقفة في الرسم فرسموا القفقفة من الأصوات
الثلاثة بالگاف الفارسية؛ لأنهم راعوا الصوت المقفقف، وهو صوت واحد من مخرج واحد، وفي
هذا دليل على وحدة الصوت، وفي مذهبهم هذا ما يكفي للرد عليه لو تدبّر وتأمل صنيعهم،
ولكن المكابرة تعمي وتصمي، أما إن نظرنا إلى الأصل، واعتددنا بخوف اللبس في
الكتابة فإنه يحسن أن ترسم القفقفة من الجيم برسم مخالف للقفقفة من القاف وكذلك
القفقفة من القاف، وقد قلت هذا في تغريدات قبل أن يكتب كلامه بنحو أسبوعين، وذكرت أنني أميل إلى
رسم القفقفة من الجيم بالجيم المثلثة كما فعل باحثون مصريون، ((حتى لا يتلبس (ݠمل) بــ
(ݠمل) الأول قمل والثانية
جمل فالأحسن التفريق: ݠمل وچمل)) وكذلك المݠر والمچر، فنطق
الصوت المقفقف في هذه الأمثلة واحد والأصل مختلف، وهذا الأمر عندنا متضح، والحلول
موجودة، وسنعرض ذلك على المجمع –كما وعدنا سابقا قبل أن يكتب مقالته-
وننظر في الأمر بعد عرضه على اللجنة لاتخاذ قرار خاص بهذا، وما الدكتور بهاء في
هذا الموضع والموضع السابق في الفقرة 15 إلا مقتبس مما ذكرته في التغريدات ومعيد
لصياغتها في أشكال اعتراضات، وليته حين يأخذ يراعي أمانة البحث العلمية.
19- قال بهاء: ((إنك لو فهمت معنى قول ابن قتيبة لرميت بقيفك
في عرض البحر وتبرأت من الدعوة إلى إدخاله في أصوات العربية، فهو يرى أن الحرف
الذي بين القاف والكاف ليس من حروف العربية، وإنما هو من حروف الأعاجم))
أقول: كعادته لا يفهم المراد مع وضوحه، وأظنه يعلم
أن مرادي هو إثبات أن ابن قتيبة ذكر صوت القيف، ووصفه بأنه الحرف الذي بين القاف
والكاف، وأن هذا الصوت الذي ذكره ابن قتيبة هو القيف عينه، سواء نطقت به العرب أو
نطقت به العجم، والنص في كتابه (تأويل المشكل) يفيد بأن ابن قتيبة عرف هذا الصوت،
وهو أول من حدد مخرجه بين القاف والكاف كتحديد ابن دريد، فنحن نتحدث عن وصف صوتٍ
وعن مخرجه وعن أقدم من ذكره قبل ابن دريد، ولم نناقش ابن قتيبة في مسألة كونه
عربيا أو أعجميا، فهذه قضية أخرى، وإثبات عربيته إن شئنا في غاية اليسر، وحديثي كما
يعلم صاحبي هو عن هذا الحرف المقفقف الذي يكون بين القاف والكاف وعن البحث عن أقدم
من ذكره وحدد مخرجه، وابن قتيبة أولهم فيما نعلم، وكلامه يفيدنا في إثبات هذا الصوت
الذي نتحدث عنه، وهو تحديد مخرجه بين القاف والكاف، وكأنَّ ابن دريد اقتفى أثره، وهو
صوتٌ عربي وافق لغة الفرس وبعض أصوات الأمم الأخرى؛ لأن الأصوات محدودة معدودة،
فلا بد فيها من التوافق، في كثير منها، وثبوته في لهجات العربية لا ينكر ولا يدفع،
تشهد له النصوص والأقوال القديمة والحديثة ويثبت عربيته بقاؤه واستمراره في لهجات
العديد من قبائلنا وبيئاتنا منقولا عن أجدادنا وأهلنا الذين نسمعهم اليوم يتكلمون
به، وقد توارثوه كما توارثوا الكسكسة والعنعنة والشنشنة والعجعجة والفحفحة وغيرها
من الظواهر، واشتهر هذا الصوت عند البدو بخلاف الحضر في زمن ابن خلدون حتى صار
لعرب شمال أفريقيا كالعلامة عليهم كما قال ابن خلدون، وبلغ بهم أن من يريد
التّقرّب إليهم والدّخول فيهم يحاكيهم في النّطق بالقيف، وعندهم أنّه إنّما يتميّز
العربيّ الصّريح من الدّخيل في العروبيّة بالنّطق بهذا الصوت، وذكر ابن خلدون أن هذه
اللّغة المقفقفةلم يبتدعها ذلك الجيل في زمانه بل هي متوارثة فيهم متعاقبة ورجّح
أنها من لغة الجيل الأول من سلفهم من مضر، فما الذي جاء بلغة الفرس في شمال
أفريقيا؟! فإن كان ابن قتيبة يرى أن القيف من لغة العجم دون العرب فإننا لا نقرّه
أبداً؛ لأن حقيقة الظاهرة تثبت عربيتها كما قلنا أعلاه ولا ينفي عربيتها وجودُها
في لغة الفرس؛ لأن التوافق بين أصوات الأمم أمر محتوم، على ما يقضي به علم اللغة
العام، وبعض الأصوات عالمي إنساني لطبيعة مخرجه وصفاته، كصوت القيف الذي نجده في
لهجات العربية وفي اللغات الهندية السنسكريتية وغيرها وفي الفارسية والصينية
والإنجليزية والأسبانية وغيرها وكذلك في بعض اللغات السامية واللغات اليمنية
القديمة، فهو صوت عالمي إنساني شائع، فلا حق للفارسية فيه دون غيرها، ولكننا نقرّ
ابن قتيبة ونؤيّده في وصف هذا الصوت المقفقف من القاف في أنه (بين القاف والكاف)
كما قال فأجاد الوصف وأفاد، وهذا حسبنا منه، فهو أول من صرح بقفقفة القاف وحدّد
مخرجها فيما وصل إلينا من نصوص، وبهذا يظهر لصاحبي أن كلامي ونقلي عن ابن قتيبة صحيح،
ودلالته صريحه في تحديد المخرج.
ولو
فكر أهل اللغة بمنطق الدكتور بهاء وأخذوا بدعوته لرمي القيف ((في عرض البحر)) بسبب
التوافق لرُميتْ حروف كثيرة في البحار!! لموافقتها حروف الفرس والأمم الأخرى، ولما
بقي لنا إلا الظاء وربما الضاد والحاء!!
20-
قال بهاء: ((والذي يدقق في صفة الجيم اليمانية ويوازنها بالقاف في اللهجة العامية
في نجد يلحظ الفرق فأثر الجيم واضح في اليمانية وأثر الجيم معدوم في القاف العامية))
أقول:
كلامه لا يصح، ولا يقوله من يعرف الجيم اليمنية والقاف البدوية في جزيرة العرب في
نجد وغيرها، فالجيم اليمنية والقاف التميمية البدوية تنطقان
عند القفقفة نطقا واحدا من مخرج واحد، وهو الصوت المطابق للحرف (g) وهذا
يعلمه سائر اللغويين، فـ (گمل ورگل=جمل ورجل) هو صوت القيف بعينه في (الگدر والگوم=القدر
والقوم) وقد ذكرت له أمثلة عديدة سابقا منها: (المݠرّ =
المجرّ ، المقرّ) ثم إننا خالطنا عدداً من اليمنيين والحضارم
وسمعنا نطقهم للجيم ورويناها عنهم ووجدناها مطابقة لنطقنا للقاف، تمام المطابقة، وهذا
التوافق بين قفقفة الجيم وقفقفة القاف قديم، ولذا رسموه بالكاف الفارسية في
الحالتين كما أشرت سابقا.
21-
قال بهاء: ((أما أن يكون الصوتان صوتا واحدا فمحال))
أقول:
صححت له مفهومه الخاطئ في هذه المسألة، وأنه يفترض صوتين ومخرجين، والحقيقة أن
مخرج القفقفة واحد بين تلك الأحرف الثلاثة، كما قال ابن فارس وابن خلدون، ولذا جاء
الصوت واحدا لا صوتين كما يتوهّم.
22- قال بهاء: ((ثم أطال الدكتور عبد الرزاق في
إيراد أقوال من ذكروا القاف التي بين القاف والكاف. ولا اعتداد بما ذكره المتأخرون
فإنهم كانوا يصفون صوتا لهجيا في عصرهم))
أقول: هذا من العجائب! كيف لا يعتدّ بقول
المتأخرين في وصفهم ظاهرة لغوية لهجية يعرفونها؟ كيف لا يعتد بقول ابن الحاجب وابن
يعيش والرضي والخضر اليزدي والأسنوي وأبي حيان وابن خلدون والقلقشندي والسيوطي وابن
الطيب الفاسي والزَّبيدي؟ وهم من هم في العلم والمعرفة بالعربية، ثم أليس الدكتور
بهاء من المتأخرين؟ فكيف يعتدّ بإنكاره وقوله في صوت القيف اللهجي وكيف يسمع جداله
فيه ولا يعتدّ بقولهم؟ أيرى نفسه فوقهم؟!! أليسوا أقرب إلى زمان الفصحى منه؟ ألا
يؤخذ منهم وصف ظاهرة لهجية امتدّت إلى زمانهم ويقبل تحديدهم لمخرجها؟ وهل وجد في
كلامهم ما ينافي وصف مخرج القيف عند ابن دريد وابن فارس؟ ألا يعلم أن وصفهم مطابق
لوصف ابن دريد ومطابق لما نسمعه في لهجاتنا بعدهم بعدة قرون؟ وهل ينكر استمراية
الظاهرة اللهجية حين يرى غيرها باقيا على حاله في زماننا كما قالته العرب في عصورها
الأولى؟ كيف يغمض عينيه عن قول ابن خلدون في لغة القيف بأنها لغة قديمة لم يبتدعها
الجيل في زمانه بل هي متوارثة فيهم متعاقبة؟ وعن ترجيحه أنها من لغة الجيل الأول
من سلفهم من مضر؟
وقد علّق إبراهيم أنيس (في كتابه الأصوات
اللغوية 85،86) على كلام ابن خلدون قائلا: ((ويظهر أن القبائل البدوية التي عاشت
في المغرب أيام ابن خلدون كانت من القبائل الحجازية التي هاجرت في القرن الخامس
الهجري، إلى تلك البلاد وجاءت معها بهذا النطق الخاص للقاف، ولذلك نرجح أن نطق
القاف كالجيم القاهرية قديم، وربما كان شائعا بين بعض القبائل الحجازية أيام النبي
-صلى الله عليه وسلم- أما موقف القرشيين بصفة عامة والنبي وأصحابه بصفة خاصة من
هذا النطق فأمر يحتاج إلى تحقيق))
قلت: وأنا أرى أن تلك القاف وصلت إلى شمال
أفريقيا مع العرب الأوائل الذين وصلوا إلى هناك مع طلائع الفتوحات الإسلامية في زمن
بني أمية، ثم تلتها موجات الهجرة من قبائل بني سليم وبني عامر وبني هلال وغيرهم.
23- يدّعي الدكتور بهاء أن هذه اللهجة التميمية في القاف مأخوذة
أصلا من الأعاجم وأن هذا الصوت (القيف) غير عربي في الأصل، ويعزو ذلك إلى الصلة
بين تميم والفرس، ويستشهد بنصٍّ لأبي عبيد البكري في فصل المقال، وبعض الأحداث
الفردية العارضة كقصة رهن حاجب بن زرارة قوسه لدى كسرى ليأذن لبني تميم دخول ريف
العراق.
فأقول: كيف لا يعلم الدكتور بهاء أن هذه اللهجة ليست خاصة بتميم؟ ولا يعلم
أنها لغة مشهورة في عموم العرب في الجزيرة، في أغلب بيئاتها النجدية والحجازية وفي
أغلب قبائلها، وفي مناطق الفصاحة منها كالعالية في نجد والحجاز؟! وفي عرب شمال
أفريقيا، أفإن كانت تميم على صلة ما بالفرس لأغراض التجارة ووقع في لغتها ألفاظ كما
وقع في لغة قريش وغيرها أيكون ذلك دليلا على أن ظاهرة صوتية عامة كالقفقفة تكون مأخوذة
من الفرس؟ أليست هذه الظاهرة في غير تميم؟ وألم تكن تميم من أنقى قبائل العرب
وبيئاتها في الفصاحة؟ وألم تكن مقصد اللغويين في زمن رواية اللغة؟ حتى كان أبو زيد
الأنصاري يطوف في قبائل تميم وفروعها إذا حزبه أمر لغوي، فلا يسأل إلا هذا الحيّ
من العرب، ولقد طاف مدة يسألهم عن باب فعل يفعل ليعرف ما كان منه بالضم أولى وما
كان منه بالكسر أولى!
ولقد ذُكرت تميمٌ في القبائل التي اعتَمد عليها الرواة في مادة
اللغة ((وعنهم أكثر ما أُخذ ومعظمه وعليهم اتّكل في الغريب، وفي الإعراب
والتصريف)) وذكر ابن عطية أن تميماً من القبائل التي نزل القرآن بلغتها، وذكر أبو
عمرو بن العلاء أن أفصح الناس عليا تميم.. وفي رواية: سفلى تميم.
وأكثر علماء اللغة الذين تناولوا هذه الظاهرة الصوتية قديما
وحديثا لم ينكروا عربيتها وإن صنفوها ضمن الأصوات غير المستحسنة، وقد
رصدت نحو ثلاثين عالما تناولوا القيف (القاف المعقودة) لم يذكر أحد منهم أنها غير
عربية أو حتى في إشارة إلى شيء من ذلك، بل هم يرون عربيتها فابن دريد والسيرافي
وابن فارس يرون أنها لغة تميم، ولو كانت لغة فارسية لنصوا على ذلك،
فهي عند ابن دريد وابن فارس لغة تميم، ووصفها ابن
الحاجب (ت 646هـ) بأن أكثر العرب ينطقون بها في زمانه وكانت القيف في القرن الثامن
كانت ((غالبة على لسان من يوجد في البوادي من العرب)) كما قال أبو حيان (ت 745هـ)
أو أنها (قاف العرب) كما قال الأسنوي (ت772هـ) والسيوطي في الحاوي، وأن بعض العرب
يقرؤون بها القرآن، كما يقول ابن خلدون (808هـ) وأنهم ((لم يستحدثوها وإنّما
تناقلوها من لدن سلفهم، وكان أكثرهم من مضر لمّا نزلوا الأمصار من لدن الفتح)) فهي
((متوارثة فيهم متعاقبة عن أسلافهم)) وهي ((لغة مضر الأوّلين)) حتى قال ابن خلدون:
((ولعلّها لغة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم)) لأن القبائل القيسية التي تنطق بها
هي ((أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجّح فيما يوجد من اللّغة
لديهم أنّه من لغة سلفهم)) كما يقول ابن خلدون، ويمكن القول في الجملة: إن القفقفة
من القاف لغة شائعة سائرة في العرب، كما يقول الرافعي.. فهل هؤلاء جميعا أخذوها من
الفرس؟ فإن كانت موجودة في لغة الفرس فهي أيضا في لغة العرب، وهذا صوت عالمي
إنساني كما وصفته، وله وجود في كثير من اللغات العالمية القديمة والحديثة في شرق
الأرض وغرب، والأصوات محدودة ولا بد أن يقع فيها التوافق، وأكثر أصوات العربية
الفصحى واقع في الفارسية وغيرها، فهل يزعم أنها فارسية لمجرد التوافق؟!
ولذا أقول: إن القفقفة ظاهرة صوتية لهجية عربية قديمة، يؤكد ذلك
فصاحة تميم وشيوع القفقفة في قبائل متعددة غيرها لا تقل عنها فصاحة في نجد والحجاز
وأقوال أكثر العلماء ولا ينفي عربيتها أنها في لغة الفرس، فهذا محمول على التوافق؛
لأن هذا الصوت صوت إنساني عالمي واسع الانتشار، وما أكثر التوافق في الأصوات بين
اللغات والأمم!
24-
قال بهاء: ((وقال السيرافي أيضا بعد أن ذكر الجيم التي تلفظ بين الكاف والجيم عند
أهل اليمن وبغداد قال: وهي عند أهل المعرفة منهم معيبة مرذولة، فكيف تدعو يا دكتور
عبد الرزاق لتأصيل ما هو معيب مرذول؟))
أقول: جوابي
من ثلاثة وجوه:
الأول: أين
وجدني الدكتور بهاء أدعو إلى تأصيل ما هو معيب مرذول من لهجاتنا؟ وهل رآني أدعو
إلى ترك القاف الفصحى والتكلم بالقيف؟ أو هل رآني أضع القيف في درجة القاف الفصحى؟
هل وجد شيئا من هذا في تغريداتي أو في قرار المجمع؟ إن وجده فليأت به ليكون حجة له
ودليلا على صدقه!
الثاني: ما
معنى قول المجمع في قراره ((...كما يرى المجمع أن الأصل في هذا الصوت هو القاف
الفصحى، وأن على المتكلمين التعوّد على القاف الفصحى، ولكن يجوز عند الحاجة لحكاية
لهجة القَفْقَفَة أن يقال مثلا: ننطق اسم مقبل ومقرن ومطلق بصوت القَيْف، ليفهم
القارئ حقيقة الصوت المراد في النص المكتوب))؟
وقول المجمع: ((فهو من الأصوات الفرعية الأربعة
عشر التي ذكرها القدامى، وليس لنا فيه سوى الاسم)) وقول المجمع في الرسم: ((يرى
مجمع اللغة الاقتراضي أن يُرسم صوت القيف -عند الحاجة- بحرف القاف الفصحى منقوطة
بنقطتين من تحت...))
وقول المجمع في الرسم أيضا: ((وهذا الرسم يلبّي
حاجة الباحثين اللغويين الوصفيين عند رسم لهجة القفقفة، وهي لهجة عربية لم تزل
معروفة في جزيرة العرب وخارجها، من الخليج إلى المحيط وجذورها بعيدة على نحو ما
وصف ابن دريد والسيرافي وابن خلدون، وكذلك في بعض اللهجات الساميات، ويعين هذا
الرسمُ المترجمين والمعَرّبين عند "نقحرة" الأسماء الأجنبية حين يكون في
حروفها الحرف المطابق لحرف القيف، وهو g في كلمة good
ونحوها، ويظهر هذا في نقحرة كلمة google فقد نراهم
يتخبّطون في نقحرتها فيقولون: جوجل، غوغل، كوكل، قوقل.. والصواب: ݠوݠل،
وكذلك يقولون: الإنكليزية والإنغليزية والإنجليزية، والصواب: الإنݠليزية وكان
سلفنا يُعرّبون هذا الصوت بالكاف الفارسية، ولكن رسم القيف بالقاف العربية
المنقوطة من تحت أقرب إلى طبيعة هذا الصوت، وأكثر أمانا من أن تنحرف القيف إلى
الكاف الخالصة، كما حدث مع الكاف الفارسية))
وقلت في تغريداتٍ كثيرة: إن صوت القيف لا ينافس
القاف الفصحى، ولا يصل إلى مستواها، وأننا نرفض استعماله في النصوص اللغوية
الفصيحة، وأن رسمه ليس لعموم الكتابة، بل هو لتلبية حاجة الباحثين اللهجيين
الوصفيين. ورفضتُ استعماله في النصوص اللغوية الفصيحة والمكاتبات الرسمية،
والاقتصار عليه في الحاجة.
الثالث: أن
عملي وصفي كعمل غيري من أهل اللغة الذين تناولوا اللهجات بالدرس أو الوصف قديما
وحديثا.
وبهذه الوجوه
الثلاثة التي يعلمها الدكتور بهاء علم اليقين يتبين أن استنكاره وقوله: ((فكيف
تدعو يا دكتور عبد الرزاق لتأصيل ما هو
معيب مرذول؟)) باطل ومردود.
25-
قال بهاء: ((فهذه الأصوات مما استقبحته العرب وتجنبته في كلامها الفصيح، والدعوة
إلى استعمالها ووضع رموز كتابية لها لِتتساوى مع الحروف الفصيحة أيضا دعوة مستقبحة))
أقول:
بل المستقبح سوء الفهم وسوء الظن، والمستهجن
الجمود الفكري وعدم التمييز بين حاجة الباحث وحاجة معلّم الصبيان، فالمعلم لا
يحتاج إلى القيف قطعاً، بخلاف الباحث اللغوي الذي يحتاج إلى معرفة أدقّ الدقائق في
أصوات اللغة أصليّها وفرعيّها، وفُصحاها وفَصيحها وحسنها ومستقبحها، فحين يعرض
باحثٌ إلى صوتٍ لهجيٍّ واسع الانتشار مثل صوت القيف ويريد وصفه فإنه محتاج إلى
معرفة وصف هذا الصوت ومصطلحه العلمي (اسمه) ورسمه الذي يقرّبه إلى القارئ. ومعلوم
أن علماء اللغة واللهجات يستعينيون بالرموز الكتابية الخاصة ويقترحون ما نقص منها،
وفي تاريخنا اللغوي الكثير من هذا، فمن الظلم والتقصير إهمال ظاهرة صوتية كبيرة
شائعة في قبائل العرب منذ القدم ومنعها من الدرس والتحليل.
وما واجبات الأكاديمي اللغوي؟ ألا يفرق الدكتور
بهاء بين المعيار والوصف؟ وهل يدير الباحث اللغوي الوصفي ظهره لصوت أو ظاهرة لغوية
شائعة بحجة واهية وهي أنه صوت مستقبح؟ وهل يمتنع البحث اللغوي في الأصوات
المستقبحة؟ ألم يدرسه القدامى؟ ألم يدرسه المعاصرون؟ ألم يطلع على مناهج مجامع
اللغة منذ أكثر من 60 عاما؟ ألم يطلع على قرارتها؟ ألم يطلع على أبحاث العلماء
اللغويين الكبار المعاصرين الذين تعرضوا لهذا الصوت ووصفوه ورسموه؟ ألا يعرف جهود
خليل عساكر وإبراهيم أنيس وعبدالعزيز مطر وتمام حسان وكمال بشر في العناية بأصوات
العربية في جميع مستوياتها الفصحى والأقل فصاحة والعامية أيضا؟ ألم يبلغه قرار
مجمع القاهرة في اللهجات المعاصرة وحثّه الباحثين ليدرسوها؟
ثم ألا يعلم أن حماية الفصحى تتطلب معرفة ما
يضادُّها مما يرد على ألسنة أبنائها؟ وهل يظن أن تجاهل الفصيحة أو العاميات يخدم
الفصحى؟ إن كان يظن ذلك فهو ينزوي أكثر فأكثر في زاوية معلم الصبيان الذي لا شأن
له بالبحث العلمي الأكاديمي.
26-
قال بهاء: ((بقي أن أذكر أمراً مهماً يتعلق بالقاف المعقودة التي ذكرها أبو حيان
في ارتشاف الضرب، ولا أعلم من استعمل صفة العقد للقاف قبل أبي حيان إلا ابن عربي
في الفتوحات المكية، ولا يعني هذا أن ابن عربي أول من استعمل هذه الصفة مع أن كلام
أبي حيان يوهم أن السيرافي استعملها، لكني لم أجدها في كلام السيرافي في شرحه
للكتاب ذاك الذي نقله أبو حيان
ومفهوم
العقد عند ابن عربي على النقيض مما ذكره أبو حيان، فالقاف المعقودة عنده هي
الفصيحة، والقاف غير المعقودة هي التي بين القاف والكاف، وقد ذكر ذلك مستوفى صاحب
المطالع النصرية، وذكر أيضا خطأ كلام محشّي القاموس عند حديثه عن الجلنار)) ثم
قال بهاء: ((قلت: ربما انتشر المفهوم المخطئ للقاف المعقودة بسبب قراءة مخطئة
لعبارة ابن عربي: (وأما القاف التي هى غير معقودة فهي حرف بين حرفين: بين الكاف
والقاف المعقودة، ما هى كافٌ خالصة، ولا قافٌ خالصة) فربما قرئت خطأ بالابتداء
بقوله: (والقاف المعقودة ما هي كاف خالصة ولا قاف خالصة) أي باقتطاع المعطوف عن
المعطوف إليه، فانعكس المعنى))
أقول: الدكتور بهاء كعادته يأخذ بالشاذ والأضعف، والعلة في ذلك أنه
مضطر إلى هذا؛ لأنه يبحث عما يخالفنا ويأخذ به أيّاً كان، فلم يجد إلا المرجوح
والضعيف والشاذ والمتروك، ولو سكت في أحوال الضعف وانقطاع الحجة لكان أكرم له، وأنت
هنا ترى أن رأي جمهور العلماء على أن القاف المعقودة هي ما نسميه القيف، أي القاف
التي بين القاف والكاف، التي وصفها ابن دريد، ولكنَّ لابن عربي الصوفي في الفتوحات
المكية رأياً شاذاً مخالفاً في مدلول القاف المعقودة، ينفرد به، ولا يصحّ، وينقله
عنه صاحب المطالع النصرية، فوجد للدكتور بهاء فيه فائدة عظيمة وفرصة للرد علينا
وتسفيه رأينا وبيان أننا على خطأ حتى في المصطلح (ولذا وصفه بأنه أمر مهم) وأخذ
به، ثم رتّب عليه حكما وهو خطؤهم في مفهوم القاف المعقودة، مع أن مسألة هذا المصطلح
(القاف المعقودة) ليست مهمة في جوهر الخلاف، وليس هذا المصطلح ذا قيمة عندنا في
المجمع، ولذا تركناه إلى ما هو أحسن منه في نظرنا، وهو مصطلح (القيف) وكون هذه
القيف قافا معقودة أو غير معقودة لا يغير في حقيقة هذه اللهجة شيئا، بل إن الدكتور
بهاء (لو تدبّر في أمر المصطلح) لأيّدنا حين حصل له التشويش في مدلول القاف
المعقودة ولرجّح ما رجّحناه من أن هذه اللهجة تحتاج إلى مصطلح واضح لا لبس فيه،
وهو ما فعلناه حين اخترنا القيف وتركنا مصطلح القاف المعقودة
والقاف المترددة والقاف اليابسة وغيرها، بحثا عن الأفضل والأيسر، وقد اهتدينا إلى
ذلك بتوفيق الله.
ودعونا الآن نقرأ كلام ابن عربي ونحلّله ثم نردّ عليه، ونبيّن
للدكتور بهاء أنه تعلّق بقشّة، وأنه كما قيل: ضَلَّ دُرَيصٌ نَفَقَهُ!
قال ابن عربي (ت 638هـ) في الفتوحات المكّيّة وهو يتحدّث عن
الحروف: ((ثم القاف المعقودة ثم الكاف، وأما القاف التي هي غير معقودة فهي حرف بين
حرفين بين الكاف والقاف المعقودة ما هي كاف خالصة ولا قاف خالصة ولهذا ينكرها أهل
اللسان، فأما شيوخنا في القراءة فإنهم لا يعقدون القاف ويزعمون أنهم هكذا أخذوها
عن شيوخهم وشيوخهم عن شيوخهم في الأداء إلى أن وصلوا إلى العرب أهل ذلك اللسان وهم
الصحابة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك أداء، وأما العرب الذين لقيناهم
ممن بقي على لسانه ما تغير - كبنى فهم - فإني رأيتهم يعقدون القاف، وهكذا جميع
العرب، فما أدري من أين دخل على أصحابنا ببلاد المغرب ترك عقدها في القرآن؟!))
ويستفاد من هذا النص
فوائد:
الفائدة الأولى: أن ابن عربي يرى أن
القاف الفصحى هي القاف المعقودة، وأما القاف غير المعقودة فهي حرف بين الكاف
والقاف المعقودة؛ ليست كافا خالصة ولا قافا خالصة، وهي القيف، وهذا خطأ بيّن، كما
سيأتي..
الفائدة الثانية: أن شيوخ أبن عربي (ت
638هـ) في قراءة القرآن وشيوخ شيوخهم لايعقدون القاف (أي يقرؤون بالقاف اللهجية:
القيف) ويزعمون أنهم هكذا أخذوها عن شيوخهم، وشيوخهم أخذوها عن شيوخهم في القراءة
إلى أن وصلوا إلى العرب أهل ذلك اللسان، وهم الصحابة، إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، كل ذلك أداء (يعني أن للقيف سنداً متصلا عند شيوخ ابن عربي لا نعرف من أين
يبدأ ولكنه قديم حسب كلامه) وهذه مسألة مهمة لم ينتبه لها الدكتور بهاء، أو رآها
فتعامى عنها، لأنها تعضّد قول القائلين بقدم هذا الصوت (القيف) وتلتقي مع رأي ابن
خلدون ورأي فقهاء الشافعية في اليمن.
الفائدة الثالثة: هي أنّ من العرب من
بقي على لسانه في القاف الفصحى فلم يتغير كبنى فهم فإنه (أي ابن عربي) رآهم يعقدون
القاف (أي بالفصحى بحسب مفهمومه للمصطلح)
الفائدة الرابعة: أن ابن عربي لا يدري
من أين دخل على قومه ببلاد المغرب ترك عقد القاف في القرآن؟ (أي ترك القاف الفصحى
والتلاوة بالقيف، هذا معنى كلامه) فنفهم من هذا أن المغاربة يقرؤون بالقيف،
وينقلون ذلك عن أشياخهم جيلا بعد جيل، وفي هذا ما يفيد شيوع القيف في بلاد المغرب
وشمال أفريقيا، وهو يؤكّد كلام ابن خلدون الذي جاء بعد ابن عربي بنحو قرنين، فمن
المرجّح أن هذه القيف انتقلت مع المهاجرين والقبائل النازحة من جزيرة العرب من بني
سليم وبني هلال والقيسيين وغيرهم من قبائل العرب من الحجاز ونجد واليمن.
الفائدة الخامسة: أنه يسمي هذه القاف
اللهجية حرفا لا صوتا، على منهج القدامى في مصطلح الحرف، وكذلك يوافقهم في أن
مخرجها بين القاف والكاف، في قوله: ((وأما القاف التي هي غير معقودة فهي حرف بين
حرفين بين الكاف والقاف المعقودة))
والذي يعنيني في هذا
الموضع من الردّ على الدكتور بهاء أمران:
أحدهما: بيان حقيقة مصطلح القاف المعقودة وبيان خطأ ابن عربي فيه.
والآخر: تاريخ هذا المصطلح، وسنرى أن هناك تسعة من العلماء في قرون
مختلفة سبقوا أبا حيان وعرفوا القاف المعقودة.
ففي الأمر الأول أقول: إن الحقيقة الناصعة أن مصطلح (القاف
المعقودة) عند الجمهور هو ما يطابق القاف التميمية التي وصفها ابن دريد، (أي
القيف) خلافا لما زعمه ابن عربي في الفتوحات المكية، وأن ابن عربي قد أخطأ وعكس
المصطلح، وإليكم الأدلة على خطأ ابن عربي، ويتبعها ما يؤكد شيوع المصطلح (بمعنى
القيف) قبل أبي حيان، بل قبل ابن عربي، ثم شيوعه بعد أبي حيان:
أولا: زعمُ ابنِ عربي أن القاف المعقودة هي القاف الفصحى يخالف علّة
المصطلح، فالقاف الفصحى لا تحتاح إلى وصف؛ لأنها الأصل، فهي كسائر الحروف الفصحى،
ومنذ القرون الأولى يسميها العلماء (القاف) ولا يصفونها بأنها معقودة أو غير
معقودة، بل يذكرون الحرف باسمه مجردا، فإن أرادوا حرفا فرعيا أو صفة طرأت عليه
وصفوه بصفة تقيّده وتحدده، فانظر إلى اللام والراء والضاد، فإنهم إن أرادو الفصحى
الشائعة قالوا (اللام والراء والضاد) وإن أرادوا غيرها قالوا (اللام المفخّمة) أو (الراء
المرقّقة) أو (الضاد الضعيفة) فهذه أوصاف وقيود تخرجها عن الأصل المعروف وتخصّصها
باستعمال أو لهجة، فالذي يخرج عن أصله هو الذي يحتاج إلى وصف يقيّده، ولذا قالوا (القاف
المعقودة) تمييزا لها من القاف، أي الفصحي، وبعضهم قال القاف المترددة وقال بعضهم
القاف البدوية أو القاف التميمية أو القاف اليابسة إلى آخر
الأوصاف، وهذا واضح.
ثانيا: أنهم يصفون بالعقد الحروف الثلاثة القاف والجيم والكاف في حال
القفقفة، فترى المصطلحات الثلاثة: القاف المعقودة والكاف المعقودة والجيم
المعقودة، وكلها لصوت القفقفة، وهذا واضح الدلالة في أن الأحرف الثلاثة تقفقف،
ويكون الصوت واحدا حينئذ.
فممن قال الكاف
المعقودة: أحمد بن الأمين الشّنْقِيطي (المتوفى: 1331هـ) قال في (الوسيط في تراجم
أدباء شنقيط): ((ويسمونها (عگل) يُنطق بها بالكاف المعقودة)) ومنهم عبدالحيّ الكتّاني؛ إذ استخدم
مصطلح القاف المعقودة في فهرس الفهارس، قال: ((گنون: بالكاف المعقودة، هو شيخ
الجماعة بفاس)) واستخدمها خير الدين الزركلي في الأعلام، وقال في إحدى تراجمه: ((من
أهل " گرسيف " بالكاف المعقودة)) وقال شهاب الدين أبو العباس أحمد بن
خالد بن محمد الناصري الدرعي الجعفري السلاوي (المتوفى: 1315هـ) في الاستقصا
لأخبار دول المغرب الأقصى، قال: ((وهو النَّاصر الملقب بالگديد بالكاف المعقودة))
ومنهم الدكتور أسعد محمد علي النجار في كتابه (المحيط في أصول ألفاظ اللهجة
الحلية) يقول: ((لزگ بالگاف المعقودة: لزق الشيء بالشيء علق به واستمسك بمادة
غرائية ولزق الشيء ألزقه وهي كذلك في اللهجة مع قلب القاف كافاً معقودة)) وقال:
((النقرة : الحفرة الصغيرة المستديرة في الأرض ونحوها وفي اللهجة يبدلون من القاف
كافاً معقودة: نگرة)) وهو في كتابه هذا لا يستخدم إلا الكاف المعقودة.
وممن استخدم الجيم المعقودة عبد الحي الحسني الطالبي (ت 1341هـ)
قال في (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر): ((... الشيخ العالم الصالح چندن-
بفتح الجيم المعقودة وسكون النون)) واستخدمها الأب أنستاس ماري الكرملي في بحث له
في مجلة الرسالة، قال: ((وأما قولهم اليوم (ألياچيم) بالجيم المعقودة...))
أما القاف المعقودة فكثيرٌ مَن استخدامها، وسيأتي الكلام عليها
مستفيضاً في الفقرة (ثالثا) ليتم بها الدليل القاطع على بطلان كلام ابن عربي وهذا
أيضا -أعني صفة العقد في الأحرف الثلاثة- مما يؤكد ما ذهبت إليه في أمر القفقفة، وأنها
صوت واحد.
ثالثا: أن مصطلح (القاف المعقودة) بمعنى القاف اللهجية (القيف) شائع
قبل أبي حيان، وأن الذين ذكروه أرادوا به القاف اللهجية (القيف) وليس القاف الفصحى
كما يزعم ابن عربي، وهذه أمثله من هذا المصطلح:
1/ 1: أجاز نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود المقدسي
الشافعي (ت490هـ) الصلاة بالقاف المعقودة بمعنى القيف، في كتابه (المقصود في فروع
الشافعية) ونقل ذلك الأسنوي في الكوكب الدري.
2 /1: عبدالواحد بن إسماعيل بن أحمد الروياني الشافعي المتوفى سنة
(502هـ) في كتابه حلية المؤمن واختيار الموقن في الفروع، وأجاز أيضا الصلاة بالقاف
المعقودة (القيف) ونقل هذا عنه الأسنوي في الكوكب الدري.
3 /1: أبو القاسم عبد الكريم الرافعي القزويني (623هـ) مال إِلى
بطلان القراءة بالقاف المعقودة، لكن رأى أن اللّحن الذي في الفاتحة (الصراط المستݠيم) لا
يمنع الصِّحّة إِذا كان لا يختل المعنى،
كما نقله الأسنوي في الكوكب الدري.
4 /1: المبارك بن أحمد بن المستوفى الإربلي (ت637هـ) ذكر في كتابه
تاريخ إربل (1/ 141) في ترجمة أبي الربيع سليمان المكي أنه ((يعقِدُ القافَ إذا
تكلّم))
5 /1: ابن العديم (المتوفى: 660هـ) قال في بغية الطلب في تاريخ حلب
(9/ 4062) في ترجمة زيد الحوراني: ((وكان يترنم ويقول لنا ونحن صبيان يا زيد
الدقيق، بالقاف المعقودة))
6 /1: شرف الدين النووي (676هـ) في شرح المهذّب؛ نقل جواز القراءة
بالقاف المعقودة عن الروياني، وهي عنده حرام لا تصح، كما جاء في نص الأسنوي في
الكوكب الدري.
7 /1: المحب الطبري المكّي الشافعي (694هـ) في شرح التّنبيه؛ مال إِلى
بطلان القراءة بالقاف المعقودة، لكن رأى أن اللّحن الذي في الفاتحة (الصراط المستݠيم) لا يمنع الصِّحّة
إِذا كان لا يختل المعنى ،كما جاء في نص الأسنوي في الكوكب الدري.
8 /1: أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة (ت710 هـ) في كفاية
النبيه في شرح التنبيه، كما جاء في نص الأسنوي في الكوكب الدري.
9 /1: كمال الدين عبد الرزاق بن أحمد الشيباني، مؤرخ العراق، المعروف
بابن الفوطي (ت 723 أو 724 هـ) يروي في
كتابه (تلخيص مجمع الآداب) أن الشاعر علي ابن المقرّب المتوفى سنة 617 هـ كان يعقد
القاف كافاً))
فهؤلاء تسعة كلهم سبقوا أبا حيان، وفي نصوصهم وإشاراتهم ما يثبت
أن القاف المعقودة عندهم جميعا بمعنى (القيف) أي القاف اللهجية التميمية، لأنهم
يتحدثون عن الخلاف في أمر الصلاة والتلاوة بها بين الصحّة والبطلان، ولا يمكن أن
تكون القاف الفصحى، لأنها ليست موضع خلاف، وهذا يضاف إلى ما سبق في الردّ على ابن
عربي في زعمه. ولمعرفتي بعناد صاحبي وأنه قد يرى الشمس ويسمّيها فَحْمَةً أو شحمة،
رأيت أن أذكر له هنا مزيدا من أقوال العلماء في هذا المصطلح تثبت ما قلته، وتقطع
بأن ما ادعاه ابن عربي فاسد ولا يصح ألبتة، وهي:
الأول: أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ) في قوله في الارتشاف: ((وأما
القاف المعقودة فقال السيرافي: رأينا من يتكلم بالقاف بينها وبين الكاف. انتهى.
وهي الآن غالبة على لسان من يوجد في البوادي من العرب، حتى لا يكاد عربي ينطق إلا
بالقاف المعقودة، لا بالقاف الخالصة الموصوفة في كتب النحويين والمنقولة عن وصفها
الخالص على ألسنة أهل الأداء من أهل القرآن))
الثاني: الإمام الذهبي (ت748هـ) إذ قال في ترجمة الشاعر العباسي الحَيْص
بَيْص (574هـ): إنه كان ((يتبادى فِي لفْظه، ويعقد القاف. وكان أفصح مَن رَأَيْت))
الثالث: خليل بن أيبك الصفدي (ت 764هـ) قال في ترجمة شيخه أبي حيان في
نكت الهميان: ((عبارته فصيحة، يعقد القاف قريبا من الكاف، كلغة الأندلس، على أنه
ينطق بها في القرآن فصيحة))
الرابع: عبدالرحيم الأسنوي (ت772ه) قال في الكوكب الدّرّي: ((وأما
الثّاني فمن فروعه إِذا قرأ المُستقيم بالقاف المعقودة المشبهة للكاف وهي قاف
العرب أي الّتي ينطقون بها فَإِنّها تصح أَيضا كما ذكره الشّيخ نصر المقدسيي في
كتابه المُسمّى بالمقصود والرّويانيّ في الحِلية وجزم به ابن الرّفْعَة في الكِفاية
ونقله النّووِيّ في شرح المُهَذّب عن الرَّوْيَانيّ))
الخامس: القلقشندي (821هـ) في صبح الأعشى، في قوله: ((ويأتون بقاف بين
القاف والكاف المعقودة، قاله أبو سعيد (يقصد السيرافي) عن سماعه من العرب؛ ولا
يكاد يوجد منهم من ينطق بها على أصلها الموصوف في كتب النحويين)) يقصد القاف
الفصحى، والنص منقول عن أبي حيان، وفيه شيء يسير من التغيير أو الاضطراب، ولعل
صواب النص: ويأتون بقاف بين القاف والكاف ]وهي القاف[ المعقودة،
فإن كان النص على ظاهره فيلحق بالقائلين بالكاف المعقودة.
السادس: السخاوي (902هـ) وذكر القاف المعقودة في (الضوء اللامع) بقوله
في إحدى تراجمه: ((وهو يعقد في كلامه القاف على طريقتهم، فقال له ألا تخلصها قافا
فنصره بقوله: لو قال في الفاتحة المستقيم بالقاف المعقودة مع القدرة على خلاصها صحّ))
السابع: السيوطي (ت911هـ) في الحاوي قال: ((ولو قال: أَنتِ طالِقٌ،
بالقاف المعقودة قريبة من الكاف كما يلفظ بها العرب، فلا شكّ في الوُقُوع، فلو
أبدلها كافًا صَرِحَةً، فقالَ طالكٌ، فيمكنُ أن يكون كما لو قال: تالقٌ، بالتّاء،
إلَا أنّه ينحطُّ عنه بعدم الشُّهرة على الألسنة))
الثامن: ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج، ونقل نص السيوطي في الحاوي،
المشار إليه آنفا.
التاسع: أحمد بن قاسم العبادي (992هـ) في حاشيته على تحفة المحتاج لابن
حجر الهيتمي، ونقل نص السيوطي في الحاوي، المشار إليه.
العاشر: - نور الدين الشبراملسي
(1087هـ) في حاشيته على نهاية المحتاج
للشهاب الرملي، نقل نص السيوطي في الحاوي.
الحادي
عشر: نور الدين الحسن بن مسعود اليوسي (المتوفى: 1102هـ) في كتابه
المحاضرات في اللغة والأدب قال: ((حدثني الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد بن
المرابط الدلائي قال: كنت مع والدي رحمه الله، وأظنه قال في درب الحجاز نزولاً،
فإذا بعجوز أعرابية مرت بنا وقد رفعت عقيرتها وهي تقول:
حج
الحجيج وناكتي معكولة يا رب يا مولاي حل
عكالها
بقاف معقودة على ما هو لغة العرب اليوم))
ويلاحظ أن القيف كتبت بالكاف الخالصة المحرّفة من الگاف الفارسية
فانحرفت لغة البيت وفسدت، والصواب:
حجّ الحجيج وناݠتي معݠولة
يا رب يا مولاي حِلّ عݠالها
الثاني عشر: الطيب بن محمد بن
موسى الفاسي، والد اللغوي ابن الطيب الفاسي، من علماء القرنين الحادي عشر والثاني
عشر، له رسالة في القاف المعقودة، نقل صاحب التاج في مادة (جلنار) عن شيخه ابن
الطيب الفاسي قوله: ((رأَيتُ فِيها رسالة جيِّدةً بخطِّ الوالد، قَدَّسَ اللهُ
رُوحَه، ولا أَدرِي هل كانت له أو لغيره)) قلت: فإن لم تكن له فهي لأحد معاصريه أو
من سبقهم.
الثالث عشر: ابن الطيب الفاسي (ت1170هـ)
نقل عنه الزبيدي في مادة جلنار قوله: ((قال شيخُنا: وهي القافُ التي يقال لها : المعقودَةُ
، لغةٌ مشهورةٌ لأَهل اليمنِ ، وقد سأَل الحافظُ ابنُ حَجَر شيخَه المصنِّف رحمها اللّهُ
تعالى عن هذه القاف ووقُوعها في كلامهم ، فقال : إنها لغةٌ صحيحةٌ، ثم قال شيخنا:
وقد ذَكرها العلّامة ابنُ خلدون في تاريخه، وأطال فيها الكلام، وقال: إِنها لغةٌ
مُضَرِيَّةٌ، بل بالغ بعضُ أَهل البيت فقال: لا تَصِحُّ القراءَةُ في الصّلاة
إِلّا بها، ورأَيتُ فيها رسالةً جَيِّدَةً بخطِّ الوالِدِ، قَدَّسَ اللّهُ رُوحَه،
ولا أَدْرِي هل كانت له أَو لغيره ))
الرابع عشر: مرتضى الزبيدي
(1205هـ) صاحب التاج في نقله السابق (في الفقرة السابقة) عن شيخه في مادة جلنار.
الخامس عشر: مصطفى صادق الرافعي
(ت1356هـ) في تحت راية القرآن: معلقا على شاهد الجمهرة المقفقف بقوله: ((وهي القاف
المعقودة التي ينطقونها بين القاف والكاف، وكانت شائعة في العرب، وهي غير القاف
الخالصة التي يُقرأ بها القرآن)) تحت راية القرآن 148، 149.
السادس عشر: عبد الحميد محمد بن
باديس الصنهاجي (المتوفى: 1359هـ) قال في مجالس التذكير من حديث البشير النذير:
((تنقلب: ترجع إلى بيتها، يقلبها: يردها ويمشي معها. وما يزال هذا الفعل قلب بمعنى
رد مستعملا في اللغة الدارجة بالقاف المعقودة))
السابع عشر: عبدالحي الكتّاني
(1382هـ) له رسالة عنوانها: ((الدلائل المشهودة لدى الناطق بالقاف المعقودة)) وقال
في (فهرس الفهارس) في ترجمته للسيد عبد الله بن أحمد بلفكيه الباعلوي اليمني : ((وبلفكيه
المعروف أنه بفتح الباء وسكون اللام وفتح الفاء وكسر القاف المعقودة))
الثامن عشر: خير الدين الزركلي (ت
1396هـ) قال في ترجمة محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي: ((والشنقيطي
بالقاف المعقودة)) وقال في ترجمة أخرى: ((... الودغيري الملقب بالبگراوي بالقاف
المعقودة))
التاسع عشر: الدكتور عبدالمجيد
عابدين في كتابه من
"أصول اللهجات العربية في السودان" عرض للقاف
المعقودة بمعناها اللهجي بين القاف والكاف.
العشرون: الدكتور ضاحي عبدالباقي الذي درس لغة تميم، وسمى لغتهم في
القاف (القاف المعقودة) ورمز لها في الكتابة بالكاف الفارسية (لغة تميم 11)
الحادي والعشرون: الشاعر الجزائري محمد
العيد آل خليفة (ت 1399هـ) وهو يسميها في ديوانه: القاف المعقودة.
فهذه نصوص وإشارات صريحة لثلاثين عالماً؛ وهم تسعة قبل أبي حيان
وواحد وعشرون نصا أو إشارة بعد أبي حيان، نثبت بها بطلان ما ادعاه ابن عربي في معنى
مصطلح القاف المعقودة، وجميع هذه النصوص والإشارات لا يمكن صرف واحد منها إلى أن
المراد القاف الفصحى، بل جميعها تدل على أن المراد صوت القيف أو القاف التميمية أو
قاف العرب كما يسميها بعضهم، وبهذا يبطل كلام ابن عربي، ويبطل الاحتجاج به.
هذا ما ظهر لي من ملحوظات وأخطاء في ردّ الدكتور بهاء في مسألة
هذا الصوت اللهجي الفريد (القيف) وظاهرة (القفقفة) وقد قلت ما عندي، وهذا حسبي ولن
أكتب شيئا بعد هذا الرد المفصّل، فإن رأيته كتب ما يفيد مما يستحق أن يوقف عنده
بتأييد أو تعليق أو إيضاح أو ردّ فعلت، وأبديت رأيي، أما إن رأيته يتمادى في
أخطائه وأوهامه السابقة ويصر عليها فإنني لن أردّ عليه، وسأكتفي بما سبق ولن أدور
معه في دائرة مفرغة.
وفي الختام أسأل الله عز وجلّ أن يلهمنا صوابنا ورشدنا ويهدينا ويعيننا
على خدمة لغتنا على النهج الأمثل والأكمل.
أ.د عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
المدينة المنورة
السبت 13 شوال 1435هـ
الموافق 9 أغسطس 2014م