الاثنين، 7 سبتمبر 2015

خرجتُ بَرّا ودخلتُ جُوّا:

خرجتُ بَرّا ودخلتُ جُوّا

       يقولون في أغلب البلاد العربية: اطلعْ برّا، وخرجتُ برّا، وجلسنا برّا، بمعنى الخارج، وهو من البَرّ الخلاء، عكس الداخل، وبعضهم في الحجاز وغيرها يقولون: برّهْ، وفي الإمارات وعمان وجنوب اليمن يقولون برّع، وفي مقابله يقولون: ادخلْ جُوّا، أو جُوّه، ومن أمثالهم: ((من بَرّا اللهْ اللهْ ومن جُوّا يعلم الله)) فما أصل ذلك؟
     هذا استعمال قديم يرجع للقرن الثاني أو الثالث، جاء في العين: البّرُّ: خلافُ البَحرِ، ونقيضُ الكِنِّ، تقول: خَرَجْت برّاً وجَلَسْتُ برّا، على النّكرة تستعمله العرب)) وهذا يعنى أن صاحب العين لا ينكره، فهو يراه عربيا محضا، لقوله: تستعمله العرب، وأورده الصاحب في المحيط (برر) قال: ((خرجتُ برًا، وهو ضد الكِنّ))، وله شاهد من الرجز ذكره ابن درستويه في تصحيح الفصيح 310، وهو قوال الراجز (وهو أبو فرعون الأعرابي كما في أخلاق الوزيرين):
أُريدُ جَوّا ويُريـدُ بَرّاً 
كأنما أُسعِطَ شيئاً مُرّا
        ولم يكن هذا الاستعمال محل اتفاق على صحته عن العرب، فأنكره بعضهم، ولعل الأزهري في التهذيب أول من أنكر فصاحته وقال إنه من كلام المولدين، وهو مولع بنقد الليث (يعدّه صاحبَ العين) فنراه هنا بعد إيراده ما في العين معزوّا لليث يعقّب عليه بقوله: ((قلت: وهذا من كلام المولدين، وما سمعته من فصحاء العربِ البادية))، ونقلها عنه بعض المعجميين المتأخرين كابن منظور والمرتضى الزَّبيدي.
     ولكن طائفة من العلماء قبلوه ولم ينكروه، منهم الصاحب بن عبّاد كما تقدم، والخطيب الإسكافي في مختصر العين1210، في قوله: ((والبَرّ نقيض الكِنّ، والعرب تستعمله على النكرة، فتقول: جلستُ بَرّاً، وخرجت برّاً)) ، والزمخشري في قوله الأساس (برر): ((وجلست برّاً وخرجت برّاً، إذا جلس خارج الدار أو خرج إلى ظاهر البلد... ويقال: أُريدُ جَوّا ويُريـدُ بَرّاً؛ أي: أريد خُفْيةً وهو يريد عَلانية))، والعوتبي الصُّحاري العماني في قوله في الإبانة 2/ 224: ((البرّ نقيض الكِنّ. خرجتُ براً وجلستُ براً على النكرة وتستعمله العرب)).
      ولأبي بكر الزبيدي كلام في استعمال ملحون منه، ذكره في لحن العامة 111، قال: ((يقولون: جئتُ من برَّا والصواب: جئت من برٍّ وذهبت برًّا، والبر خلاف الكِنّ، وهو أيضا ضد البحر)) ومثل هذا في تثقيف اللسان لمكّي الصقلّي 121 وتقويم اللسان لابن الجوزي 81، وبعض كتب لحن العامّة التي لم أذكرها.
       ولأحمد رضا في رد العامّي إلى الفصيح كلام لم يخلُ من تأثّر بكلام الأزهري، قال: ((هذا من كلام المولدين، وهو قديم وربما اتصل بالعصور الإسلامية الأولى، ولكنه لا يعدّ من فصيح الكلام، نصّ على ذلك صاحب اللسان))، ولم يذكر علة لغوية.
      وبرّا -في قولهم: خرجت برّاً- ظرفُ مكان، ووزنه (فَعْلاً) وهو استعمال صحيح، والعامة في زماننا يقفون عليه بالألف، فيقولون: بَرّا،كأنها عندهم ألف مقصورة (برّى) ، وبعضهم يقف عليه بهاء السكت، فيقول: برّه، وهي مسموعة في الحجاز والعراق ومصر، ويتوّهم بعضهم أنها ألف منقلبة عن همزة، فيقلبها عينا على سبيل العنعنة، وهذا لحن صرفي، فلا يصح إبدال ألف التنوين حرفا صحيحا، وهذا الإبدال غيّرَ مادّة الكلمة، ووزنها، فمادتها (برع) ووزنها (فَعّلٌ) ولم أجده في أوزان الأسماء، وفيها فِعّل كقِنّب ودِنّم، أما شمّر -وإن كان من هذا- فهو منقول من الفعل مثل يزيد.  ثم ابتعد بهذا اللفظ بعضهم عن أصله فصاغه على فعّال وأدخل عليه أل التعريف، وقال: البرّاعي؛ أي: الخارجي، وهو من كلام العامة في البحرين.
       وبرّا هذه يقابلها جَوّاً دخلتُ جَوّا، ضدّ خرجتُ برّا، وهذا من الجَوّ ، وجَوُّ كل شيء باطنه وداخله، ولكن العامة في زمانا يضمّون الجيم فيقولون: جُوّا، ولعله من تأثير الواو المتصلة بالجيم.  وتذكر المعاجم أنهم قالوا في عصور الإسلام: جَوّانيّ وبَرّانيّ، وجاءت في أثر رووه منسوباً لسلمان الفارسي رضي الله عنه، وهو: إنَّ لكُلِّ امرىءٍ جَوّانِيًّا وبَرَّانِيًّا فمن يُصلِحُ جَوّانِيَّه يُصلِح اللهُ بَرَّانِيَّه، ومن يُفسدُ جَوّانِيّه يُفْسِدُ اللهُ بَرّانيَّه. وهما من المنسوب على غير قياس.

 عبدالرزاق الصاعدي
3 / 12/ 1436هـ
المدينة المنورة