رأيُ القدامى في ضياع شيءٍ من اللغة
قد
يظنّ بعض أهل العلم من غير المتخصصين أنَّ لغة العرب وصلت إلينا كاملة
مدونة في المعاجم القديمة، بدءاً بالعين للخليل وانتهاء بالتاج للزَّبيدي،
لكنّ الحق أن ما وصل إلينا من اللغة ما هو إلا جمهرتها وثمرتها القريبة
القطاف، وأن قدراً صالحا من فصيحها ولهجاتها وشواهدها وشعرها ونثرها قد ضاع
وذهب بعضه بذهاب أهله، وبقي بعضه مختبئاً في لهجاتنا في جزيرة العرب خاصة،
وفي غيرها، يندثر منه بين الحين والحين ما يندثر، بسبب زحف اللغة البيضاء،
لغة الإعلام العامة، التي قاربت بين اللهجات، وأدت إلى هجر كثير من
الظواهر المغرقة في الخصوصية لكل لهجة.وقد أدرك علماؤنا أنهم أمام لغة واسعة، كمحيط لا ساحل له، وأن جهودهم ووسائلهم محدودة، فاعترفوا صراحة بأن اللغة لم تجمع أو (تُمعجم) كاملة وأنه ضاع منها شيء غير قليل.
فهذا ابن سلام يروي في طبقات الشعراء عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أن شعر العرب حفظ منه القليل وذهب منه كثير. وقال ابن سلام: ((وممَّا يدل على ذهاب الشّعر وسقوطه قلَّة ما بقى بأيدى الرواة المصححين لطرفة وعَبيد... ونرى أَن غَيرهما قد سقط من كَلامه كَلامٌ كثير))
وتواتر النقل عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلُه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير.
وذكر ابن قتيبة في مقدمة الشعر والشعراء: إنه ليس لأحد أن يحيط بشعر الشعراء وشعر القبائل، وأن الضائع منه كثير. وروى عن الأصمعىّ أنه قال: كان ثلاثة إخوة من بني سعد لم يأتوا الأمصار، فذهب رجزُهم، يقال لهم: منذر ونذير ومنتذر.
ولابنِ فارس في الصاحبي بابٌ اسمه: (باب القولِ على أنّ لغةَ العرب لم تنتهِ إلينا بكلّيتِها، وأنّ الذي جاءَنا عن العرب قليلٌ من كثير، وأنّ كثيراً من الكلام ذهبَ بذهاب أهله) وقال: قال بعض الفقهاء: "كلام العرب لا يحيط بِهِ إِلاَّ نبيّ". وقال: وهذا كلامٌ حَرِيٌّ أن يكونَ صحيحاً.انتهى.
ونقل ابن جني رواياتٍ تدلُّ على ضياع قدر من الشعر واللغةُ، وعلق عليها بقوله: وهذا ونحوه مما يدلّك على تنقّل الأحوال بهذه اللغة، واعتراض الأحداث عليها، وكثرةِ تغوّلها وتغيّرها، فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح يُسمَع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ ما وُجِد طريقٌ إلى تقبّل ما يورِده إذا كان القياس يعاضده، فإن لم يكن القياس مسوّغا له كرفع المفعول وجرّ الفاعل ورفع المضاف إليه فينبغي أن يُردّ، وذلك لأنه جاء مخالفا للقياس والسماع جميعا، فلم يبقَ له عِصْمة تُضيفه ولا مُسْكة تجمع شعاعه.
وكان أبو العلاء المعرّي يدافع عن كلمة (الأطروش) بمبدأ سعة اللغة وعدم الإحاطة بها، قال: ((ويجوز أن يكون من أنكر هذه اللفظة من أهل العلم لم تقع إليه؛ لأن اللغات كثيرة، ولا يمكن أن يُحاط بجميع ما لفظت به القبائل))
وفي الختام أقول: إن ثمة أملاً ينبعث في النفوس في أن نرى حركة لغوية في بلاد الفصحى ترتكز في أساسها على إحياء عصر الرواية، يتبعها التأصيل اللغوي العلمي تجمع شيئا من تلك الفوائت المخبوءة في لهجاتنا قبل أن يندثر وتبتلعها اللهجة البيضاء.
أ.د.عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة
نشر في جريدة المدينة الجمعة 1434/6/30 هـ 2013/05/10 م العدد : 18279