الفوائت القطعية والفوائت الظنية
الأول: نوعٌ قطعيُّ الحكمِ بأنّه من الفوائت؛
وأسميه ((الفوائتَ القطعية)) لأنّه مذكورٌ في مصدرٍ قديم، كدواوينِ الشعرِ وكتبِ الأدبِ
واللغةِ والنوادر، وهذا النوعُ لا خلافَ في كونِه من الفوائت؛ لأنه مرصودٌ أيامَ الفصاحة،
ولكنه لم يجدْ طريقَه إلى المعاجم؛ لأنَّ المعجميين لم يصلوا إليه.
أما
الثاني:
فهو ظنيُّ الحكم، وأسميه: ((الفوائتَ الظنية)) لأنه يفتقرُ إلى نصّ قديمٍ يثبتُ وجودَه
القطعيَ في الاستعمال أزمانَ الفصاحة، ولكنْ يمكنُ بلطفِ الصنعةِ استخراجُ قدرٍ صالحٍ
منه مما هو مخبوءٌ في لهجاتِنا المعاصرة.
وفي هذا النوعِ
يبرزُ السؤالُ التالي: حينَ نجدُ لفظةً معاصرةً من لهجاتِ القبائلِ في جزيرةِ العرب
أخلتْ بذكرِها المعاجم، كيف نستطيعُ أن نحكمَ بأن ذلك اللفظَ أو تلك الدلالةَ هي مما
فاتَ المعاجمَ تدوينُه؟ وما المعيارُ الذي به نحكمُ؟
لم يذكرْ
أحدٌ من اللغويين -
حسبَ
علمي- شيئاً في هذا، ولذا اجتهدتُ في وضعِ
ضوابطَ أو معاييرَ تفيدُ الباحثينَ اللغويينَ في بحثِهم عن الفوائتِ في لهجاتِنا المعاصرة،
وهي ثلاثة:
الأول:
المعيارُ اللفظي:
وأعني به
بناءَ الكلمةِ واشتقاقَها وموافقةَ ما جاءَ من كلامِ العرب زمنَ الفصاحة، أصواتاً وبنيةً..
والباحثُ اللغويُّ يدركُ السبكَ العربيَّ الفصيح، ويدركُ أيضاً ما يلحقُ باللهجاتِ
من تغييراتٍ عاميةٍ تؤثّرُ على تصريفِ كلامِهم في كثيرٍ من ألفاظِهم الفصيحة، وفي
وسعِه أن يردَها إلى أصلِها البنائيّ بيسرٍ أو بلطفِ الصنعة.
فمن ذلك كلمةُ:
(الخَشِير بمعنى الشريك) فهي عربيةُ الصوتِ والبنية، و(ارتبش) بمعنى ارتبك واضطرب،
و(الزّرمة وأزرمني) بمعنى الهمّ، و( درق وأدرَقَ ويدّرق وادّرق عنه والمُدّرق
بمعنى المختبي) و(ادمح الزلة) وادمح زلتي، وادمح خطاي، وفلان يدمحُ الزلة.. و(الجُغُود بمعني الزُغُود، أي الخدودُ الممتلئة)
وهذه الأخيرةُ يقرّبُها الإبدالُ الذي يقعُ بينَ الزاي والجيم مما أوردَه أبو الطيبِ
اللغوي في كتابِ الإبدال. فالمعيار اللفظي متحققٌ في هذه الألفاظ، ومثلها كثير.
الثاني:
المعيار الدلالي:
وهو أن تكونَ
الدلالةُ مناسبةً لحياةِ العربِ في أزمانِ الفصاحة، أي مما هو مألوفٌ في حياتِهم، فإن
كانتِ الدلالةُ لشيءٍ حادثٍ في العصورِ المتأخرة مما جدّ في الحياةِ عُرفَ أنها دلالةٌ
محدثة، وأنها ليست من فوائتِ المعاجمِ القديمة.
وحينَ نُنعمُ النظرَ في الأمثلةِ السابقةِ (الخشير وارتبش والجغود ويدمحُ الزلة) نجدُ أن الدلالةَ متوافقةٌ
مع ما يألفُه العربُ في حياتِهم اليومية، وليستْ دلالةً حادثةً بعدَ أزمانِ الفصاحة.
الثالث:
المعيارُ الجغرافي:
وأعني به
بيئةَ اللهجة، فحينَ تكونُ اللهجةُ واسعةَ الانتشار معروفةً في عددٍ من القبائلِ المتفرقة
فإنّ ذلك يرجّحُ فصاحتَها مع الأخذِ بالمقياسينِ السابقين، فإن كانتِ الكلمةُ محصورةً
في قبيلةٍ أو بيئةٍ واحدةٍ فحسب دعا ذلك إلى التريثِ قبلَ الحكم بأنها من فوائتِ المعاجم،
مع أن القدامى أثبتوا في معاجمِهم ما يُسمعُ من قبيلةٍ واحدةٍ أو من شاعرٍ واحد، لكننا
في مقامِ احترازٍ، فيحسنُ التشدّدُ هنا؛ لأن أمرَ الفوائتِ ظنيّ.
فكلماتٌ مثل
(الخشير والجغود ويدمح الزلة، والرهوة المكانُ المرتفع، والشروى وشرواك أي مثيلُك،
وأزريت بمعنى عجَزْتُ عن فعلِ شيء، والهمطُ وهو الهذرُ في الكلام، وانحاشَ بمعنى هربَ
وولّى، وارجهنّ بمعنى جلسَ وسكن، والعزقُ بمعنى التضييق، ومتحشّد أي مستحٍ) هي
كلماتٌ منتشرةٌ بينَ قبائلِ الجزيرةِ وبيئاتِها.
ويتصلُ بهذا
المعيارِ الجغرافي ما سميتُه: (لهجاتُ القبائلِ المهاجرةِ عن أوطانِها) كالهجرةِ إلى
المغربِ العربي، فتَلاقي لغاتُ المشارقةِ بالمغاربةِ في كلمةٍ أو دلالةٍ بهجية يدلُّ
–في الغالب- على قِدَمِ
الكلمةِ أو الدلالة؛ لأنّها وصلتْ إلى لغاتِ المغاربةِ منذ زمنٍ مبكرٍ مع القبائلِ
إلى هاجرتْ إلى تلك الديارِ أيامَ الفتوحاتِ الإسلامية، أو في الهجراتِ المتعاقبةِ
وآخرُها تغريبةُ بني هلال، فالتوافقُ يشيرُ إلى قِدَمِ اللفظِ أو المعنى، وأنه يرجعُ
إلى أيامِ الفصاحة؛ لأن استعمالَه - في الغالبِ - كان شائعاً قبلَ نزوحِ تلك القبائلِ
إلى المغربِ العربي بزمنٍ يكفي لشيوعِه وتمسّكِ (المهاجرينَ والباقينَ في ديارِهم)
به، ليبقى حيّا في البيئتينِ، على الرغمِ من تباعُدِهما وشبهِ انقطاعِ الصلةِ اللهجيةِ
بينهما مما يجعلُنا نطمئنُّ كثيراً إلى الحكمِ بقدمِ الكلمةِ أو الدلالة، وأنها من
الفوائتِ الظنية التي تقتربُ من الفوائتِ القطعية .
وقد وجدتُ
توافقاً واضحاً بين لهجاتِنا ولهجاتٍ في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا في
عددٍ من الألفاظٍ اللهجيةٍ الدارجة، وهذا التوافقُ يعزّزُ فصاحةَ اللفظ، ويرجّح أنه
مما انتقلَ قديما إلى تلك الديارِ مع هجراتِ القبائلِ العربيةِ القديمةِ المتعاقبة.
وأقول: إن اجتماعَ هذه المعاييرِ
الثلاثةِ في كلمةِ أو دلالةٍ لهجيةٍ يقربُها من درجةِ اليقينِ حين يُحكمُ بأنها من
الفوائت، دونَ الجزمِ المطلقِ بذلك؛ لتعذّرِ القطعِ بالفائتِ دونَ شاهدٍ أو نصٍ قديم،
بخلافِ الفوائتِ القطعية، فهي مرصودةٌ في مصدرٍ قديمٍ موثوق، كدواوينِ الشعرِ وكتبِ
الأدبِ واللغةِ والنوادرِ ومصادرِ التراثِ الموثوقِ بها.
عبدالرزاق فراج الصاعدي
الأربعاء، 26 يونيو، 2013
الأربعاء، 26 يونيو، 2013