الخميس، 27 يونيو 2013

مسودة قرار بدل فاقد

مسودة قرار
للمجمع اللغوي الافتراضي
 (بدل فاقد).. توجيهٌ لغويّ
أعدها/ أ.د. عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
شاع في الاستعمال اللغويّ المعاصر قولهم (بدل فاقد) وهي عبارة شبه رسمية ترد في بعض المؤسسات الحكومية في بعض البلدان العربية للدلالة على وثيقة أو بطاقة تستخرج بدلَ مفقودٍ، ويكتبون عليها (بدل فاقد) ولهذا الاستعمال في التصويب اللغوي وجهان: وجهُ قبولٍ ووجهُ رفض، ولذا يختلف في أمره أهل اللغة، بين قابل ورافض.. وفيما يأتي خلاصة الوجهين، على ضوء السماع والقياس:
أولا: توجيه الرفض:
يرى أصحاب هذا الرأي، أن التركيب الصرفي لكلمة (فاقد) لا يطابق المعنى المراد؛ لأن الشيء مفقودٌ وليس فاقداً، فهو من قولهم: فُقِد الشيءُ فهو مفقود، وليس فاقدا، أما الفاقد فهو صاحب الشيء، الباحث عنه، فيكون البدل للمفقود، وليس لصاحبه الذي فقده، فالصواب أن يقال: (بدل مفقود) لا بدل فاقد؛ ويؤيد هذا الوجه:
1- أن الأصل في الصيغة الصرفية أن تأتي على المعنى الذي وضعت له، منعا للتخليط واللبس، وليس ثمة ما يمنع أن يقال بدل مفقود حتى يُعدل إلى بدل فاقد!
2- أن هذا الاستعمال بدل فاقد - مولّد، وينبغي أن يقاس على أوجه الكلام الذي يصح القياس عليه، وهو أن توضع الصيغ في محلها، وليس للمتأخرين حقّ المخالفة أو القياس على القليل.
ثانيا: توجيه القبول:
يرى المجيزون أن قولهم: (بدل فاقد) من باب (فاعل بمعنى مفعول) ومعلوم أن من سَنَن العربية العدول اللغوي في الأبنية أو التحويل في الصيغ، وقد جاء العدول في صيغ عديدة، وسمع في ألفاظ متفرقة من القرآن والحديث وكلام العرب، وجاء للتوسع في الكلام والتفنن فيه أو المشاكلة أو طلب الخفة، والعرب قد تعبّر بالفاعل عن المفعول، وتعبر بالمفعول عن الفاعل، وتتوسع في العدول في صيغ دون صيغ، ولكلٍّ شواهد في كلامهم، رصدها علماء اللغة.
والقدامى مختلفون في توجيه ما جاء معدولا من باب (مجيء الفاعل بمعنى المفعول) ولهم فيه مذهبان:

المذهب الأول: أن هذا من باب فاعل بمعنى مفعول:
            وهو  يوافق مذهب الكوفيين وكثير من البصريين في أمثاله، ومما جاء منه على هذا التوجيه مما في القرآن أو الحديث أو تكلمت به العرب:
أ ـ مما في القرآن:
ومنه قوله سبحانه: ( فهو فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ)]  الحاقة 21  [أي مرضيّ بها، فاعل بمعنى مفعول.
وقوله: (يقولون أإنا لمَرْدُودُونَ في الحافِرَة) ]النازعات 10  [قيل: الحافرة بمعنى الأرض المحفورة.
وقوله: (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) ] الطارق: 6 [ أي مدفوق.
وقوله: (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود: 43] ، أي لا معصوم من أمره.
وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت: 67] ، أي مأمونا فيه.
وقوله: (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء: 12] ، أي مُبصَراً بها.
ب ـ ومما في الحديث الشريف والأثر:
جاء في كتب غريب الحديث والأثر للحربي والخطابي والزمخشري وابن الأثير عدد من الأحاديث، منها:
حديث العباس رضي الله عنه: (ما بال قريش يلقوننا بوجوه قاطبة) أي مقطّبة.
ومنه الحديث: (لا يزال الشيطان ذاعرا من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس) أي مذعورا.
و(لا رَأْيَ لحازق) أي محزوق، وهو الّذي ضاقَ عليه خُفُّه فحزق قدمه، أي ضغطها.
            وفي حديث عمرو بن سلمة الجرمي (كنا بحاضرٍ يمرّ بنا النا) الحاضر: القوم النـزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه. قال الخطابي: ربما جعلوا الحاضر اسما للمكان المحضور. يقال نزلنا حاضرَ بني فلان، أي محضورهم، فهو فاعل بمعنى مفعول.
ج ـ ومما جاء منه في كلام العرب وأشعارهم :
حكى الأصمعي أن العرب تقول: (ناقةٌ ضاربٌ إذا ضُربت، فهي مضروبة) فبناء الفعل للمفعول يدل على كون ما اشتق منه اسم مفعول.
ويقولون: وسرٌّ كاتم بمعنى مكتوم، وَهَمٌّ نَاصِبٌ، ويومٌ فاجر، قال وَعْلَةُ الجَرميّ:
ولمّا رأيتُ الخيلَ تَترى أثائِجا     علمتُ بأنّ اليومَ أحمسُ فاجرُ
أي يوم صعب مفجور فيه، وقول الشاعر:
لقد لمتِنا يا أُمَّ غيلانَ في السُّرى      ونمتِ وما ليلُ المَطِىِّ بنائمِ
أي بمنوم فيه.
ومنه (ساحِلُ البحر ) قالَ ابن دُرَيد هو فاعل بمعنى مفعول  لأنّ الماء سحله أَي قشره.
وفي المصباح: طريق شارع يسلكه الناس عامة فاعل بمعنى مفعول، مثل طريق قاصد، أي مقصود.
ومنه جَبَلٌ حالِقٌ لا نباتَ فيه، كأنه حُلِق، قال ابن سيده في المخصص: هو فاعِل بمعنى مَفْعول.
والغامر الخراب من الأرض، وقيل ما لم يزرع، وهو يحتمل الزراعة، وقيل له غامر لأن الماء يغمره فهو فاعل بمعنى مفعول.
واللاحب: الطريق الواضح، وهو فاعل بمعنى مفعول، أي: ملحوب.
و أمر عارف؛ أي معروف فهو فاعل بمعنى مفعول، ومنه قول الحُطيئة يهجو الزِّبرِقان:
دَعِ المَكَارِمَ لا تَرْحَلْ لبُغْيَتِها    واقْعُدْ فإنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي
 أي: المُطْعَم المَكْسوّ.. فاعل بمعنى المفعول.
واشترط ابن ولاد في رده على الفراء منع اللبس، فهو يرى أن ( مثل ذا إنما يجوز فيما لا يلبس، فأما ما ألبس فلا يجوز فيه ذلك، ألا ترى أنك لو قلت: لا ضارب في الدار، وأنت تريد مضروبا، لم يعلم المخاطب حقيقة ما أردت، وكذلك لو قلت: رأيت زيدا ضاربا، وأنت تريد مضروبا، لم يعلم ما نويت، وفي هذا اختلاط الكلام والتباسه وفساده. وأما احتجاجه بعيشة راضية فإن العيشة لا تكون فاعلة من رضيت البته، ولا تكون إلا مفعولة، فلما لم يحتمل غير وجه واحد لم يجز فيها لبس، وكذلك ماء دافق، لما كان الماء لا يفعل ذلك كان بمنزلة عيشة راضية، فأما عاصم وضارب وما أشبههما فلا يجوز فيه ذلك، ولا أن تضع مفعولا في موضع فاعل، ولا فاعلا في موضع مفعول؛ لأن الرجل قد يكون عاصما ومعصوما وضاربا ومضروبا، بحقيقة المعنيين المختلفين، فلم يجز أن تضع أحدهما في موضع الآخر فيلتبس هذا بهذا)
وشرط ابن ولاد يتّسق مع فطرة اللغة وطبيعتها، وهو طلب الوضوح وتنكب طرائق اللبس، و عليه جرت العربية فيما ورد عنهم من نصوص في ما جاء من فاعل بمعنى مفعول، ففي كل مثال ما يمنع اللبس، ظاهرا أو مقدرا مفهوما.

المذهب الثاني:
وهو مذهب كثير من البصريين، وعلى رأسهم الخليل وسيبويه، وهم ينكرون (باب فاعل بمعنى مفعول) ويرون أن ما جاء في ظاهره أنه منه ينبغي أن يحمل على باب النسب الشاذ، أي إنه فاعلٌ بمعنى ذي كذا، مثلُ لابِنٍ وتامِرٍ، فقولهم: هَمٌّ ناصِبٌ: ذو نَصَب ، ومنه في أحد القولَيْن: «عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ، ومَاءٌ دَافِقٌ»  أي: ذاتُ رِضاً، وذو دَفْقٍ، وكذلك قوله تعالى: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)  أي لا ذا عصمة.
قال سيبويه في باب الإضافة (2 /382): (وتقول لمن كان شيءٌ من هذه الأشياء صنعته: لبَّان، وتمارٌ، ونبَّال... وتقول: مكانٌ آهلٌ، أي: ذو أهلٍ. وقال ذو الرمَّة:
إلى عَطَنٍ رَحْبِ المَبَاءةِ آهِلِ
وقال الخليل: إنَّما قالوا: عيشةٌ راضيةٌ، وطاعمٌ وكاسٍ على ذا، أي: ذات رضاً وذو كسوة وطعامٍ، وقالوا: ناعلٌ لذي النَّعل، وقال الشاعر:
كِليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصِبِ     وليلٍ أقاسيهِ بطيءِ الكواكبِ
أي: لهمٍّ ذي نَصَبٍ)
واستنكر أبو جعفر النحاس في إعراب القرآن على الفراء في توجيهه (ماء دافق) (إعراب القرآن 5 /124) بمعنى مدفوق، وقال: فاعل بمعنى مفعول فيه بطلان البيان، ولا يصح ولا ينقاس، ولو جاز هذا لجاز ضارب بمعنى مضروب، والقول عند البصريين أنه على النسب، كما قال الشاعر:
وليس بذي سيفٍ فيقتلني به      وليس بذي رمحٍ وليس بنبّالِ
وقال الزجاج: معناه من ماء ذي دفق، وكذلك سرّ كاتم، ونَقل عنه الواحديّ في البسيط (23 / 409) أن هذا الذي قاله الزجاج هو قول جميع النحويين..
قلت: هذا تعميم لا يصح، ينافيه المنقول عن الكوفيين وغيرهم، ولعله يريد البصريين.
لكن ابن جني يفرق بين المعنى والصنعة الصرفية، قال في (الخصائص 1/ 152، 153): ((فأما تفسير أهل اللغة أن استاف القومُ في معنى تسايفوا؛ فتفسير على المعنى، كعادتهم  في أمثال ذلك، ألا تراهم قالوا في قول الله عز وجل: (مِن ماءٍ دافِقٍ) : إنه بمعنى مدفوق, فهذا -لعمري- معناه، غير أن طريق الصنعة فيه أنّه ذو دفق كما حكاه الأصمعي عنهم من قولهم: ناقة ضارب إذا ضُرِبَت. وتفسيره أنها ذات ضَرْبٍ أي ضُرِبَتْ. وكذلك قوله تعالى: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي لا ذا عصمة، وذو العصمة يكون مفعولا، كما يكون فاعلا فمن هنا قيل: إن معناه: لا معصوم)
ومع الاختلاف بين الكوفيين والبصريين في تأويل ما جاء من هذا الاستعمال اللغويّ إلا أنّه غير منكر، ولكن أكثرهم يحفظه ولا يقيس عليه، وربما قاسه بعض المعاصرين، كالدكتور أحمد الحوفي الذي أجاز القياس عليه، وصوّب على أساسه بعض ما شاع منه على ألسنة الناس والكُتّاب في اللغة المعاصرة.

الخلاصة والرأي:
تقدم آنفا الحديث في قول المعاصرين (بدل فاقد) بمعنى مفقود، ووقفنا بالتفصيل على شواهد مما جاء على (فاعل بمعنى مفعول) من القرآن والحديث وكلام العرب وأشعارهم، ورأينا الخلاف بين البصريين والكوفيين في تلقّيه ، فلكل من المدرستين تأويلها لما جاء من هذا الاستعمال اللغويّ، وهو  عربيّ قرآني، لا تشوبه شائبة، ولكن أكثرهم يحفظه ولا يقيس عليه، وربما أجاز بعض المعاصرين القياس عليه، وصوّب على أساسه بعض ما شاع منه على ألسنة الناس والكُتّاب في اللغة المعاصرة.
وأرى أن قولهم في الدوائر الحكومية وغيرها: (بدل فاقد) استعمال صحيح، وهو بمعنى مفقود على مذهب الكوفيين، أي بدل عن شيء مفقود، أو أن فاقدا بمعنى ذي فقد على مذهب البصريين، أي على النسب الشاذ، وذو الشيء قد يكون مفعولا كما يكون فاعلا.
ومما يعضد تصحيحَه لغةً ويحملنا على  قبوله:
1-   أنّ ثمة شاهداً لكلمة (فاقد) بمعنى مفقود أو ذي فقد، وهو قول بِشْر بن أبي خازم:
ذكَرتُ بها سلمى فظَلْتُ كأنَّني     ذكرتُ حبيباً فاقداً تحتَ مَرْمَسِ
أي حبيباً مفقوداً (ديوان بشر80) واستشهد به ابن سيده على مجيء فاعل بمعنى مفعول. (المخصص 4 /400  والمحكم (حلق)
2-   أن في (بدل فاقد) عدولاً عن الأصل، ولا يُعدَل عن الأصل إلاّ لغرض، والغرض هنا معنوي وهو المبالغة في صفة الفقد، ولفظيٌّ؛ لأن هذا التركيب جاء مصاحبا لقولهم (بدل تالف) فاستحسنوا معه أن يقولوا (بدل فاقد) للمجانسة والمشاكلة بين اللفظين المتصاحبين، والبدل يعطى في الحالتين: الفقد والتلف، ومعلوم أن المجانسة قد تؤثر في الصيغ، ولها شواهد، وفسر بها الفراء رأيه في (عيشة راضية) قال: (وأعان على ذلك أنها توافق رؤوس الآيات التي هنّ معهن) ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ارجَعْنَ مَأْزوارتٍ غيرَ مأجورات» قال السمين: الأصل: «مَوْزورات» ولكنْ أُريد التواخي، وكذلك قولُهم: «إنه ليأتينا بالغدايا والعَشايا» ويعني أنَّ الأصلَ: «بالغَدَاوى» لأنها من الغُدْوة، ولكن لأجل ياء العشايا جاءت بالياء دون الواو) (الدر المصون 4/ 213)
3-   أن في هذا التركيب (بدل فاقد) ما يؤمن معه اللبس الذي اشترطه ابن ولّاد، وهو هنا سياق الإضافة لكلمة (بدل) فالبدل للمفقود وليس للفاقد بمعنى الفاعل، فالتركيب وما يكتنفه من سياق يخصص المعنى ويرفع اللبس.
4-   وثمة تأويل؛ وهو أن (بدل فاقد) يمكن توجيهه بتقدير محذوف مضاف (بدل للرجل الفاقد) أو بتقدير لام الملكية (بدل للفاقد) أي يعطى لفاقد الشيء، ثم حذفت اللام، واستعيض عنها بالإضافة، لأنها تفيد الملكية.
5-   ويرى د. أحمد مختار عمر  (في معجم الصواب اللغوي 1/ 570) أنه يمكن تصحيح هذا الاستعمال بتضمين الفعل (فَقَدَ) معنى (ضاع) فيكون لازماً، ويكون الشيءُ فاقداً أي ضائعاً.

وأقول في الختام: إنه على الرغم من أن النفس قد تميل إلى الأصل الوضعي (بدل مفقود) إلا أني أرى ألّا نحجّر واسعا، ولا نضيّق على الناس ونعطل آلة القياس، فأرى أن  قولهم (بدل فاقد) صحيح لفظاً ومعنى، وأن غرضه الاتّساع في اللغة، أو المجانسة اللفظية والمشاكلة مع قولهم: (بدل تالف) وهو محمول في التصريف على العدول في الصيغة، إما من باب فاعل بمعنى مفعول، أو من باب النسب الشاذ، بمعنى ذي فقد، كنظائره مما جاء في القرآن والحديث النبوي وفصيح كلام العرب، ولوجود ما يؤمن به اللبس، وهو إضافة كلمة (بدل) إلي (فاقد) فالبدل للمفقود وليس للفاقد، وهنا يؤمن اللبس، وفوق هذا كله فله شاهد على اللفظ، في شعر جاهليّ.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين