الجمعة، 7 مارس 2014

تعقيبٌ وإيضاح لموقفي من اللهجات الفصيحة


      قلتُ في تغريدة سابقة لي ما نصه: ((اللهجة الوسطى هي اللهجة البيضاء، وهي أرقى من العامية ولهجاتنا أرقى منهما على المستوى اللفظي والدلالي)) أي أحسن وأفصح منهما. وذلك أنَّ العاميّة ملوّثة لا تردُّ يدَ لامس، واللهجة البيضاء مهذّبة بعض التهذيب غير أنّها فقيرة في ألفاظها ودلالاتها؛ انتَخبت من العامّيّات ما شاع من الألفاظ وزادت عليه ما تحتاجه من ألفاظ فصيحة في لغة التعليم والإعلام، وهي تهدف إلى سهولة التواصل بما يُتاح لها.
     وأمّا لهجات القبائل فألفاظها في الجملة متوارثة لا تنقطع عن ألفاظ القبائل زمن الفصاحة.
     وكنتُ أحسبها تغريدة ظاهرة لا تحتاج إلى بيان، ولكنَّ أستاذنا القدير الدكتور عبدالرحمن الحجيلي لم يفهم مرادي فعلّق في تغريدةٍ قائلا: ((وصف اللهجات بالرقيّ - أيّا كان لونها-  فيه تجنٍ على لغة القرآن؛ واعتساف لنصوص التراث التي وصلت إلينا بيقين))
     والحقيقة أنني ترددت في أمر التعقيب تقديرا لأستاذنا، ورغبة في ترك ما عساه يقود إلى الجدال ويُضيّع وقت الناس في قراءة المسَلّمات، ولكن كلمته قاسية ومتجنّية ككلمة التجنّي الواردة فيها، فلا مناص ولا مهرب لي من وضع الأمور في نصابها، لإيضاح ما عساه التبس.

      وتغريدته تنطوي على أمرين رئيسين، أولهما أنه يقول: إن ((وصف اللهجات بالرقيّ - أيّا كان لونها-  فيه تجنٍ على لغة القرآن)) وفي هذا القول غرابة! فكيف يكون التجنّي على لغة القرآن بوصف اللهجات بالرقي؟! وأين التجني على لغة القرآن بوصف لهجةٍ عربية بأنها أرقى أو أفصح من العامية ومن اللهجة البيضاء وأحسن منهما؟ فالحديث عن اللهجات والعامّيّات واللهجة البيضاء المتكوّنة حديثا، والمقارنة بينهنّ، وهل ينكر أحد أن لهجاتنا الفصيحة أرقى وأحسن وأفصح من العاميات وأدنى من الفصحى؟
     ثم أليست اللهجات جزءا من لغتنا؟ ألم يحتفِ سلفنا من لغويين ومفسرين ومحدّثين وفقهاء باللهجات؟ وألم يعدوها المستوى الثاني بعد الفصحى ويسموها الفصيحة؟ وهل هناك خصومة بين القرآن الكريم واللهجات؟ ألم ينزل القرآن بسبعة أحرف كانت اللهجات وأوجهها المختلفة أحد تلك الأحرف السبعة؟ ألم يُقِرّ القرآن في قراءاته اللهجات؟ وهل يمكن تفسير القرآن وقراءاته وفهم الحديث الشريف دون معرفة اللهجات وأسرارها؟
      لقد جاء كلامي في سياق واضح في أمر واضح، فمن أين جاء اللبس؟
     وأستاذنا القدير يعلم موقفي الواضح من اللهجات، وأظنه يدرك هدفي وهو خدمة الفصحى، وإثراء معجمها بما أجده من الفوائت القطعية أو الظنية، ويعلم أنني خصيم العامية، وأنني أبذل وقتي وجهدي لتمييز الفصيح من العامي في لهجاتنا، وأنني على منهج اللغويين في التعامل مع لهجاتنا، وأنني قلت في أكثر من مناسبة: إن مستويات الفصاحة في العربية أربعة: الفصحى ثم اللهجات الفصيحة ثم اللهجة البيضاء ثم العاميات. فمن أين جاء اللبس؟
     
     والباحث المنصِف لا يبني حكمه على رأي لأحد ويحمل كلامه على غير ظاهره دون استقراء، وتغريداتي التي تظهر رأيي في مستويات الفصاحة، ومكان الفصحى من اللهجات الفصيحة والعاميات عديدة، ومما قلته في هذا:
1- ((المستويات أربعة: الفصحى، ثم اللهجات الفصيحة، ثم اللهجة البيضاء، ثم العامية))
2- ((اللهجة البيضاء هي اللهجة الوسطي بين الفصحى والعامية المبتذلة.. وهي لهجة المثقفين ومن في حكمهم. ونراها تتشكل أمام أعيننا.. ووصفها بالبيضاء جميل))
3- ((لغة الصحافة هي أوضح نموذج للهجة البيضاء، ولا خطر على الفصحى منها، بل أراها تقرب العامية من الفصحى))
4- ((الفصحى، ثم اللهجات (وهي امتداد للهجات القديمة في ديارها) ثم العامية، وظهرت مؤخرا اللغة البيضاء وهي أعلى من كلام العامة))
5- ((اللغة التي تنساب بلا تشدّق ولا تكلف للإعراب هي (اللهجة البيضاء) لغةُ المثقفين، وهي أرفع من العامية وأدنى من الفصحى))
      فأين التجني في هذا على لغة القرآن؟ بل إن الأمر خلاف ذلك تماما وضدُّه، فيمكن القول: إن من يحارب اللهجات الفصيحة هو من يخالف نهج القرآن ويتجنّى عليه، وهو من يخالف نهج اللغويين من لدن الخليل وسيبويه إلى يومنا، ويخالف نهج صناع المعاجم الذين كانوا أكثر أهل اللغة احتفاء بلهجاتنا الفصيحة، لأنهم أدركوا قيمة اللهجات وصلتها بالفصحى، وأنها مع اختلافها حُجّة حتى عقد لها ابن جني باباً في خصائصه سماه (اختلاف اللغات وكلّها حجة) وهو يقصد باللغات لهجات العرب المختلفة، وينصّ على جواز الاحتجاج بها جميعًا، ولو كانت خصائص بعضها أكثر شيوعًا من خصائص بعضها الآخر, ويقول فيه: إن الناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه.
     ولذا تجد العنايةَ باللهجات والحفاوة بها ظاهرة لدى اللغويين القدامى والمعاصرين على حد سواء، وتجد أقسام اللغة العربية حريصة على دراسة اللهجات الفصيحة وفهمها، ومجامع اللغة وعلى رأسها مجمع القاهرة تدعو اللغويين والباحثين إلى دراسة اللهجات وتأصيلها وتهذيبها، خدمة للفصحى وإثراء لمعجمها.
     ويشير الدكتور صبحي الصالح في كتابه (دراسات في فقه اللغة) بعد حديثه عن أهمية اللهجات العربية الشمالية أو لهجات العربية الباقية (ص 104) إلى الثروة اللغوية المهمة للهجات، ويقول: ((وإن كنا نعتقد أن التوسع في دراسة سائر اللهجات العربية يزيد لغتنا ثروة، ويمنحها قوة، ويفسر كثيرًا من خصائصها التي لم تنفرد بها لهجة, بل أسهمت في تكوينها هذه اللهجات قاطبة))
     ويعلم اللغويون – وأستاذنا أحدهم – أن لهجاتنا في جزيرة العرب خاصة لم تزل تحتفظ بأصولها الفصيحة على مستوى الألفاظ والدلالة وأن غالب ما أصابها من فساد ولحن إنما يتصل بالمستوى النحوي وأن هذا يحمل الباحثين اللغويين على دراسة الجانب الفصيح في لهجاتنا واستثماره بما يخدم الفصحى، وأن بعض الظواهر الصوتية اللهجية لم تزل مسموعة إلى اليوم كنطق حرف الضاد أقرب ما يكون إلى الصفة التي ذكرها سيبويه، ولا يوجد هذا اليوم إلا  في بعض بطون قبيلة هذيل كدَعْدٍ في وادي نعمان وما يجاوره من البادية الجنوبية الغربية للطائف وتحديدا غرب جبال الكُرّ، فهل يعقل أن نفرّط في تسجيل هذه الظاهرة قبل أن تنقرض ونحن نعلم أن في دراستها دراسة صوتية ما يعيننا على فهم وصف سيبويه لانقراض بعض صور الضاد التي وصفها القدامى؟!
      والكلام في اللهجات مفروغ منه، وهو من الواضحات، ومن المؤلم أن "تضطرّ" إلى بسط القول في الواضحات، وما أحسن قول أبي الطيب:

فليس يصحُّ في الأفهامِ شيءٌ * إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ

     وثاني الأمرين في تغريدة أستاذنا الجليل الاتهام (باعتساف) نصوص التراث التي وصلت إلينا بيقين كما يقول، فأين رأى اعتسافي لنصوص التراث؟ فلو وضّح هذا الأمر العامّ المبهم ودلني على موضع واحد اعتسفت فيه نصا من نصوص التراث لفعل بي خيرا؛ وله مني الوعد بأنني أرجع عن الخطأ حين يظهر لي؛ لأني مثله ومثل كلّ مخلص لخدمة هذه العربية التي شرفها الله بالدين، فأصبحت جُزءا منه كما قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم.

كتبه عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
5/ 5 / 1435هـ