مداخلة في
حرف القيف
التدرج الصوتي الذي يشير إليه الزملاء هو حقيقةٌ
صوتية لا جدال فيها، وحصر الأصوات المتدرجة (الألوفونات Allophones)
شبه متعذر، بل إن لكل شخص بصمته الصوتية الخاصة به، وهذه التدرجات الصوتية أو
التنويعات (الألوفونات) تشبه تدرّجات الألوان، وهي على نوعين، نوع ظاهر محدد
المعالم والمخرج والصفة، وهو شائع في لهجات العرب، كحرف "القيف" هذا، فهو
صوت مستقل؛ لأن له مخرجا خاصا به، وقد تردد هذا الصوت أو الحرف (إن صح لنا تسميته
بحرف) على ألسنة العرب القدامى والمتأخرين، وعرف ووصف، ولشهرته كان له ذكر قديم في
كتب التراث، فتارة يوصف بمخرجه (أي بكونه بين القاف والكاف) وتارة يسمى الكاف الفارسية،
وتارة يسمى الجيم القاهرية، أو اليمنية، وتارة يسمى القاف النجدية أو البدوية،
والأخيرة تسمية ابن خلدون، حتى أشبه هذا الحرف أو قارب الأصوات التعاقبية في
العربية، التي تتقارب مخارجها، كتعاقب التاء والدال، وتعاقب الميم والباء والفاء،
وتعاقب الصاد والسين، وتعاقب الجيم والياء في العجعجة، وتعاقب الشين والكاف في
الشنشنة، والهمزة والعين في العنعنة، فالقيف هذا صورة تعاقبية لحرف القاف، ولكنه
تعاقبٌ بصوت فرعي ليس من حروف الهجاء الأصلية، وهذا هو الفرق الرئيس بين القفقفة وصور
التعاقب فيما سبق.
فهل حرف القيف الذي وصفه ابن قتيبة وابن فارس وابن
خلدون وشاع في لهجات الجزيرة بصورة ثابته تقريبا؛ هل هو من هذه التنوعات التي تختلف
باختلاف العمر وحالة الأسنان، كما جاء في مداخلة الدكتور سالم الخماش؟ بالتأكيد
ليس منها، فهو صوت ثابت محدد المخرج والصفة ويمكن الترميز له ويمكن وضع مصطلح له.
وهذا الصوت أو الحرف الفرعي شاع في لهجات العربية منذ
القدم ووصفه ابن قتيبة وابن فارس وحكى في أمره ابن خلدون أن العرب في زمانه لم
يستحدثوا هذا الحرف أو الصوت وإنّما تناقلوه من لدن سلفهم وكان أكثرهم من مضر،
وقال: ((والظّاهر أنّ هذه القاف (يعني القيف) الّتي ينطق بها أهل الجيل العربيّ
البدويّ هو من مخرج القاف عند أوّلهم من أهل اللّغة، وأنّ مخرج القاف متّسع،
فأوّله من أعلى الحنك وآخره ممّا يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة
الأمصار، والنطق بها ممّا يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدويّ))
والعجيب هنا أن ابن خلدون نقل عن أهل البيت (يعني
الشيعة) أنهم يوجبون قراءة القرآن في نحو مستقيم بهذا الحرف (أي بالقيف) قال ابن
خلدون: ((وهذه اللّغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة، ويظهر من
ذلك أنّها لغة مضر الأوّلين، ولعلّها لغة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعينها، قد
ادّعى ذلك فقهاء أهل البيت، وزعموا أنّ من قرأ في أمّ القرآن «اهدنا إلى الصراط
المستقيم» بغير القاف الّتي لهذا الجيل (يعني القيف) فقد لحن وأفسد صلاته!! ولم
أدر من أين جاء هذا!!)) قلت: وأنا أعجب مع
ابن خلدون من هذا.
وهذه تتمة
كلامه، وهو رأي مهم جدا، قال: ((فإنّ لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها وإنّما
تناقلوها من لدن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لمّا نزلوا الأمصار من لدن الفتح. وأهل
الجيل أيضا لم يستحدثوها إلّا أنّهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا
يرجّح فيما يوجد من اللّغة لديهم أنّه من لغة سلفهم. هذا مع اتّفاق أهل الجيل
كلّهم شرقا وغربا في النّطق بها وأنّها الخاصيّة الّتي يتميّز بها العربيّ من الهجين
والحضريّ. والظّاهر أنّ هذه القاف الّتي ينطق بها أهل الجيل العربيّ البدويّ هي من
مخرج القاف عند أوّلهم من أهل اللّغة، وأنّ مخرج القاف متّسع، فأوّله من أعلى
الحنك وآخره ممّا يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة الأمصار، والنطق بها
ممّا يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدويّ. وبهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد
الصلاة بتركها في أمّ القرآن))
قلت: ابن خلدون يتلقّى هذا الحرف (القيف) بالقبول ويرى
قدمه، ويضفي عليه صفة الأصالة اللغوية، ولكنه لا يوافق من زعم من أهل البيت الذين
أشار إليهم، بأن يقرأ به في أم القرآن، وكان موفقا في ذلك، لأن القراءات العشر لم
تَنقل لنا القراءة بهذا الحرف أو الصوت، لا في الفاتحة ولا في غيرها.
وبعد هذا أرى أن هذا الصوت أو الحرف جدير بأن يكون له
اسم وأن يكون له جسم أو رسم، فليكن اسمه حرف القيف أو صوت القيف، أو أي اسم ترونه
مناسبا فلا مشاحة في الاصطلاح، وليكن جسمه أو رسمه على صورة ما، ولا يمتنع أن تكون
مشابهة لطريقتهم في النقل الحرفي (Transliteration)
أو الكرشنة أو النقحرة، وأرى أن رسمه أو كرشنته أو نقحرته تكون بإحدى طريقتين:
الأولى: أن
يكتب قافا منقوطة بنقتطتين من تحت على طريقة المغاربة في نقط الفاء من تحت.
والثانية أن يكتب كافا، وفوقها خطٌّ مستقيم كالفتحة،
وهذا معمول به عند عدد من الباحثين حين يُكرشنون هذا الصوت أو يُنقحرونه، وأيضا لا
مشاحّة في الاصطلاح، فالغرض أن يُعطى هذا الصوت اسما ورسما، حتى يسهل علينا تمييزه
من القاف الفصحى، فحين نقول مثلا: مقبل ومقرن، وهما اسمان منطوقان في باديتنا بحرف
القيف، فإننا إن أردنا أن نحكي نطقهم قلنا: هو بحرف القيف أو بالقفقفة أو رسمناه
برسمه (أعني بالنقتطتين من تحت أو بالكاف التي فوقها خط) فيتميّز ويعرف أن المراد بهذا الصوت في اسم (مقبل
ومقرن) هو حرف القيف وليس القاف الفصحى.
ويبقى في
المسألة جانبٌ مهم، هو: هل هذا التعاقب بين القاف والقيف يغير في المعنى ويؤدي إلى
انتقال الكلمة إلى جذر مستقل؟ الجواب: لا؛ لأن القيف لا يتجاوز التنويع الصوتي
السطحي لحرفٍ في الكلمة وهو القاف، فلا يمتد إلى الجذر، ولا يغيّر فيه شيئا، فحين
ننطق اسم (مقرن ومقبل) بالقفقفة، وكذلك (جمال والجمهورية) بالقفقفة أو بحرف القيف
أو الجيم القاهرية أو اليمنية (وهي مصطلحات مترادفة) فإن ذلك لا يمتدّ إلى الجذر
ولا يغير شيئا.. ولعل في هذا إيضاحاً أو جواباً لمداخلة الدكتور معتاد
الحربي.
وفي الختام أقول: إن الأمر مطروح للمداولة والنقاش في
مجمع اللغة الافتراضي، فإن رأيتم الأخذ بالتسمية فافعلوا مشكورين، وإن رأيتم أن
هذا الصوت أو الحرف لا يستحقّ أن يكون له اسم ولا رسم فافعلوا ولا حرج.
عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
المدينة المنورة
9 مارس 2014م