السبت، 15 مارس 2014

رفع التكلفة عن صوت القفقفة!

رفع التكلفة عن صوت القفقفة!
بسم الله الرحمن الرحيم
    كنت قد التزمت بالإمساك عن العودة لمناقشة صوت القيف، لا لعارضٍ إلا ظني باكتفائي بما أسلفت، ولأن التزامي عارضه التزام سبقه مع أخي حامد الغامدي، ولمكانته ومكانة المجمع وصاحبه وأعضائه في نفسي فسيكون هذا – بإذن الله- تعليقي الأخير على المسألة، حبًا وكرامة،  وأود أن أشكر أولاً أخي حامد على استدراكه المهم وإثارته بعض النقاط الحقيقة بالنظر صدقا،  وتفصيل هذا الرد وموجزه– بعون الله – في النقاط التالية:

1-     ذُكِر في التعقيب أن ما اصطلح عليه بالفونيم في الدراسات الصوتية متعلق بالتجريد Abstaction ، وأقول هذا صوابٌ لا غبار عليه في جانب أن الفونيم هو الصورة العقلية (الرئيسة) Underlying Representation   لصوتٍ أو حزمة أصوات. وفي الجانب الواقعي والصورة المتحققة فكلمة  phoneme أصلاً مأخوذة من كلمة إغريقية تعني الصوت، فهو صوتٌ بخواص وسمات مميزة أهمها فرقه في المعنى، ولكي لا أتحدث بحديثي ويكون كلامنا في المبحث علميًا مرجعيًا دقيقا فسأحيل على بعض المراجع اليسيرة المعتمدة المتوفرة لي في هذه اللحظات، فربما تعلمون سفري وابتعادي عن منزلي ومكتبتي أيها الأحبة وإلا لأتيت بأكثر من التي سأعرض للمسألة نفسها بين قديمٍ وحديثٍ عند أهل الفن، ومنها معجم Longman للغويات:
وفيه النص على أن الفونيم أصغر وحدة صوتية دالةٍ على معنى يفرق لفظين، وهذه ترجمة نصية لما ورد في المعجم، ومثل لها بصوتي p & b  ، في كلمتي pan & ban

 ويندرج  تحته ما يصطلح عليه "بالألفون" – وأسميه التنوع الصوتي -وتعريفه بإيجازٍ شديد : A different variant of a phoneme ، فهو لونٌ صوتي لا يفرق في المعنى لصوت فارقٍ في المعنى، فصوت p هو الصوت الرئيس الأساس في حزمة أصواته، مثل spin  ، وقد يكون غير مطلق الانفجار حين يقع آخرا Unreleased stop  في مثل Overlap  ، وربما يكون مصحوبًا بهاء النفس حين يقع أولا ، في مثل pin  ، فهذه تنوعات لصوتٍ رئيسٍ واحد كما يتضح ، ربما لا تدرك تلك التنوعات في السمع بسهولة كأمثلة هذه التنوعات، وربما تدرك بسهولة في نطق مثل كلمة button
bʌtn̩ - bʌɾn̩ - bʌʔn̩   : فيكون كتابتها منطوقة بالعربية: بتـن/ بئن/ بدن ، وهذه أصواتٌ الفرق فيها واضح لأذن السامع.

ومن هنا فهذا الصوت وقع صورة عقلية لتحققه رمزًا للأصوات التي يدل عليها أي وقوعها في حيزه ووقوعه بنفسه أصلاً في حيز السماع وإلا لحق التساؤل كيف يعد ذلك الصوت رمزًا وصورةً عقلية ما لم يقع صوتا يدركه السمع حقيقة؟ بل هو أكثر ما يدركه السمع ولذلك رمز للأصوات ذات الاختلافات الدقيقة غير البينة في السمع أكثر الأحيان في حزمته به، وهو إشكالٌ يقع فيه بعض الباحثين ولا تثريب فالمسألة دقيقة، إذ إن بين الصوت المستقل (الفونيم) والصوت التابع (الألفون) بعض التداخل والتعقيد في بعض الصور الدقيقة، وقد ذهب بعض الصوتيين بالفعل إلى أن الفونيم ليس إلا رمزًا لا صوتًا، ولكن لم يستطع أحد من القائلين بذلك إثباته، فكل التعريفات المتداخلة المعقدة للفونيم القائمة على كونه صورة عقلية مدركة لا تبعد عن وصفه بكونه صوتًا أو رمزًا لأصوات أو قائدًا لأصوات مشتركة اشتراكًا أساسيًا في صفاتها، ولو روجع معظمها  لوجدناه مضطرًا إلى وصف الفونيم بطريقٍ أو بأخرى بالصوت ولو التفافا، ولنوضح كل ذلك أكثر نسأل بصورة أوضح: إن قلنا أن الصوت المستقل متعلق بالإدراك فكيف وقع إدراكه؟ وما خوله ليرمز له بذلك الإدراك ويتعلق به؟ أليس إلا وقوعه حقيقة في السمع في أكثر أحواله وأظهر أشكاله وقوعًا غير مدرك التفاصيل الدقيقة في غالب الأحيان؟ والجواب الميسر عن هذا السؤال باختصار، هو أن الفونيم صوت بذاته، وهو كذلك ألفون لأنه ببساطة يحسب في جملة أصوات الفونيم نفسه الذي يمثله ويتحقق في صورة الصوت الرئيس  basic allophone الأشمل أو الأكثر وقوعًا في السمع  elsewhere وذلك لأنه الأكثر تخلصًا من القيود الصوتية constraints  في مواضع وقوعه.  ولم ينكر أن الفونيم صوتٌ واقع حتى أوائل القائلين بأهمية تصنيفه كمدرك عقلي أولا، ولا يتصور منهم غير ذلك أصلا إذ سيكون ضربًا من غير المفهوم وغير المنطقي، ومن هؤلاء De Courtenay  و Kreszewski و Trobetskoy و Jacobson وغيرهم. بل إن صاحب المقال الشهير في هذا الباب Edward Sapir الذي بث فيه نظريته وتصوره عن الإدراك جعل عنوانه: “The Psychological Reality of The Phoneme   والعنوان نفسه يوضح ذلك، وجاء في مقالته المذكورة ما فحواه أن "إدراك أي كيان ليس مجرد الناتج الحيوي للعمليات والخصائص الفيزيائية لذلك الكيان، ولكنه يدرك ويستقبل كذلك ناتجا عن نظام معقد من العلاقات. " وعمومًا فهذه المسألة محل بحث ونظر الصوتيين في العالم ولا يتسع المجال هنا للإتيان على كل ما يتعلق بهذه القضايا، فربما تجد في كتب الصوتيات ما يناقش تحت اسم  Complicating Factors، وقد جرى الاصطلاح ، عمومًا ، على أن يعامل الفونيم كرمز إدراكي مجرد لصوت معين تدرج تحته تنوعاته الصوتية، وإلا فلا خلاف في أن الفونيم صوت منطوق بل هو الأكثر نطقًا وترددًا في حزمته، ولا أدل على ذلك من أن جدول الأصوات العالمي يستخدم رموزًا صوتيةً موحدة للفونيمات أو الأصوات الرئيسة، في حين يكون تمثيل الألفونات المتنوعة في ما سوى الصوت الرئيس بالحركات أو الإشارات Diacritics  . ولعل المقصود اتضح بما تقدم.


2-     من حيث ذكر التوزيع التكاملي وأن لا علاقة له بصوت القيف، وأن صوت القيف هو تنوعٌ حر في بعض لغات العرب فهذا تأكيدٌ لما سبق قوله ولم يخالف شيئًا مما ذكرتُ في كلامي سابقا، ولم أناقش وجود توزيعٍ تكامليٍ للقيف أو أزعم ذلك، بل جاء ذكري لهذا المصطلح عرضًا عامًا كمصطلح خاصٍ بالصوت المستقل مقابلٍ للمصطلحات المختصة بتنوعات التوابع الصوتية كالتنويع الحر والموضعي وغيرها. وتعليقي السابق موجودٌ في حسابي وحساب المجمع وحساب شيخي د. عبد الرزاق الصاعدي وغيره ممن تكرم بنشره يمكن الرجوع إليه.

3-     من حيث كون بحث الكلمات الدخيلة على لغةٍ ما المستعملة فيها – أيًا ما كان استعمالها- يناقض قواعد الصوتيات وأن التنبؤ الصوتي ليس من مباحث الصوتيين فنقول مع الاستعانة بالله وحده سبحانه - إن الرد مختصرًا يكون من وجوه توضح الصواب إن شاء الله، منها مثالاً لا حصرا:

1-     إن من مبادئ نظرية الإدراك نفسها التي تفضلتَ بالإشارة إليها وقام بها سابير استخلصت بعد إجرائها على بعض الأشخاص الذين أنكروا وجود أصواتٍ بتراكيبَ معينةٍ في لغاتهم ورفضوا قبولها بذلك التركيب قانعين أنها صورة لا توجد في لغاتهم، قادت سابير إلى استخلاص أن المعرفة الفردية الذاتية لكل فرد بلغته تمكنه من "التنبؤ" بالكلمات الممكنة والكلمات غير الممكنة في لغته تلك. وهذه القدرةاللغوية المعرفية الفردية للتنبؤ بالممكن والمناسب للفرد العادي غير المتخصص ، فما بالك بالمتخصص الذي درس العلاقات المتداخلة بين هذه التراكيب دراسة عميقة دقيقة؟! ولو طبقنا هذا افتراضا على أي عربي فلا شك أنه لن يستسيغ جوجل وغوغل وإنجلترا وإدغار وشيكاغو أو شيكاجو وهلم جرا .. وسيكون القيف أنقى التمثيلات الصوتية وهو ما يطبقه العرب بالفعل 

2-     ثم إن من أبواب الصوتيات الوظيفية الرئيسة   Possible language Possible Words vs. Actual Words ، والقواعد والقيود Rules and Constraints  التي تناقش الممكن في لغةٍ دون أخرى حسب قيودها وقواعدها الصوتية وإجرائها قوانينها على الكلمات الدخيلة والطارئة خصوصا، ومن ذلك مثلاً أن من قيود اليابانية عدم اجتماع صامتين أو أكثر Consonant Clusters فهي لغة عالية المقطعية Syllabic ، وتنتهي دائمًا بصائت، فلما دخلت عليها كلمة Strike  الإنجليزية تحولت بعد خضوعها لقانون اليابانية إلى ٍSuturiku ، فأصبح كل صامت في مقطع وزيد صائت في الموضع الأخير. ومن ثم أمكن للصوتيين التنبؤ بما قد يستجد للكلمات الطارئة الدخيلة على لغةٍ ما بعد دراسة قواعدها وقيودها الصوتية وكذا التنبؤ بما هو مناسبٌ من الكلمات لأن يكون من تلك اللغة أم لا حسب قواعدها و قيودها. وكذا في العربية مثلاً من قيودها ألا يقع بعد المد الطويل حرفٌ ساكن، فلما دخلت مثلا كلمة Cancel و Handle الاستخدام اليوم تحولتا عبر القانون العربي إلى كنسل وهندل لا كانسل وهاندل مثلا، وعليه فلا حرج في التنبؤ بما سيعرض مثلا لقوقل وشيكاغو ولاس فيجاس – لاحظ أن كل واحدة اشتهرت برسم صوتٍ مختلف!- بعد تأثرها الزمني بالقانون العربي، وهذه إشكالية حلها واضح متمثل في القيف عجيب التمنع عنه ولنأخذ مثالاُ على كلمة "الإنكليزية" المعربة على استحياء! أيها أنقى في السمع الإنجليزية أم الإنغليزية؟! .. أم القيفية؟!

3-     لم يناقض الاستشهاد بقوقل وغيرها – وإن أشكل – أبسط قواعد الصوتيات الوظيفية استدلالاً بما سبق، ولن يناقض أعقدها وأحدثها، ألا وهي نظرية الأمثلية المولودة قريبًا وقبل عقد من الزمن، قدمها صاحباها Prince & Smolensky  -كما يقولان- لأن النظريات الصوتية السابقة لم تستطع إعطاء إجابة أنموذجية على السؤال الصوتي " الجوهري!" – كما يوصف-  : What is a possible language? وكيف يمكن للصوتيات التوليدية القائمة على القيود أن تحل محل الصوتيات التقليدية القائمة على القواعد في التنبؤ بالحدود الممكنة أو الممنوعة للتبديلات الوظيفية الصوتية "للمدخلات المعجمية" في لغة ما و"قيود البناء الصرفي" التي تخضع لها ، والنظرية قائمة كلها على الاحتمالية بناء على تلك الأسس، فلم يكن نقاشنا حول التغير الطارئ مستقبلا على الألفاظ الدخيلة بدعًا من العلم أو خارجًا عليه، بل يوافق جوهر مباحثه قديمها وحديثها، بل إن تمارين التنبؤ والاحتمالات تملأ كتب الصوتيات خاصة الحديث منها، وكلمة Prediction تنبؤ" ومرادفاتها منثورة بين طيات تلك المصنفات . والله أعلى وأعلم.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وانفع بنا أمة البيان ولغة القرآن، إنك أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم آمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تمت بحمد الله.

علي بن عبد العزيز الجبيلان.