لغة
البادية في القرن السادس بعد عصور الاحتجاج
الأعرابي يُصوّب
بأدب
قال
الزمخشري في معجمه أساس البلاغة مادة (موه) 440: ((سمعت بالبادية كوفيّاً يقول لأعرابيّ: كيف ماوان؟ قال: مَيِّهَةٌ،
قال أَمْيَهُ مما كانت؟ قال: نعم أَمْوَهُ مما كانت))
قلت: هذا الأعرابي
يسأل الكوفي عن بئر أو ركيّة يقال لها ماوان، يعني ما حالُها؟ فيردّ الأعرابي: مَيِّهةٌ،
أي: كثيرةُ الماء (اشتقّها على مثال جَيّدة وطيّبة) فيسأل الكوفي: أهي أَمْيَهُ مما كانت؟ (أي أجود)
فيجيب الأعرابي: نعم أمْوَهُ مما كانت (الأعرابي ردّها إلى أصلها الصحيح وهو الواو وصوّب
خطأ الكوفي بأدب، وربما غلبته السليقة) ولأنها في لغته بالواو عدل عن الياء إلى الواو فلسانه لا يطاوعه على
نطق ما يخالف لغته؛ لأنه ينطق بسليقته، وهذا يُذكّرنا بالأعرابي العُقيليّ الذي كان
يحاوره ابن جني ويداوره ويخاتله لينطق بما يخالف لغته فيأبى الأعرابي مخالفة لسانة،
لا عن علمٍ لكن عن سليقة، وهذا ما حصل لهذا الأعرابي مع الكوفي الذي قال أَمْيَهُ
(جعلها يائية كما تقول أبْيَع من البيع) لكن الأعرابي صححها بأدب أو غلبه لسانه ، فقال: نعم أَمْوَهُ، (لأنها واوية) وهي (أفعل تفضيل)، يعني أنها أصبحت أكثر ماءً.
وصرفياً أقول: ماوان واوية وجذرها موه، ومَيِّهةٌ على وزن فَيْعِلة، مثل سيّد وميّت، أصلهما:
سيوِد وميوِت، فأدغمت الياء في الواو، وكذلك مَيِّهةٌ أصلها: مَيْوِهة، فأدغمت الياء
في الواو، وهو موضع إدغام واجب، لالتقاء الواو والياء والسابق منهما ساكن.
وهذه الحادثة
وقعت في مطلع القرن السادس أو أواخر القرن الخامس؛ لأن الزمخشري توفي سنة 538هـ ، وقد نقل
قول الأعرابي ودوّنه في معجمه، من غير تحرّج منه، وهو منهج معجمي صحيح، لكنه غير مطبق لدى معجميي القرون الوسطى إلا في القليل النادر.
وتفيد
هذه الرواية أهمية السماع من (الأعراب) أهل البادية، لنقاء لغتهم في تلك الأزمان، وأنه يمكن أن يستفاد من كلامهم في اللغة، وإن كانت الرواية عنهم بعد عصور الاحتجاج. ومعلوم أن لغة الأعراب هي مادة اللغة
في عصور الفصاحة ولم تزل كذلك حتى بعد عصور الفصاحة، على الرغم مما طرأ عليها كغيرها،
لكن لهجاتهم تبقى هي الأقرب للفصحى، وعلى اللغويين أن يستفيدوا من كلام الأعراب، دون خوف، فبأيديهم
معايير الفصحى وموازينها.
وليت الباحثين اللغويين وطلاب الدراسات العليا يلتفتون إلى البحوث اللغوية الميدانية ويقومون بجولات على مواضع نائية في بادية الجزيرة لمشافهة أهلها من كبار السن، وتسجيل كلامهم صوتيا وتدوينه واستخراج
ما فيه من فصيح، وعرضه على المعجم ومعايير العربية.. فثمة بقايا للفصاح في كلامهم،
يوشك أكثره أن ينقرض وتفقده العربية.
ولو
قُدّر لصناع المعاجم بعد القرن الرابع (أي في الخامس والسادس والسابع والثامن) مشافهة الأعراب والأخذ عنهم واختيار ما يناسب
أقيسة اللغة لجمعوا قدراً وافراً مما فات أسلافهم من صنّاع المعاجم، وحفظوا ألفاظاً نُقدّر أنها دَرَسَتِ اليومَ لعدم تدوينها وذهبت بذهاب أهلها.
عبدالرزاق الصاعدي
المدينة المنورة
14/ 10/ 1436هـ